حوار مع رشيد المومني

ما رأي الصديق الشاعر عبد اللطيف لو نستهل حوارنا بسؤال تقليدي، يدعوك لاستعادة خطواتك الأولى باتجاه أرض الكتابة، حيث التقيتَ لأول مرة بالشاعر المقيم فيك، ذاك الذي ستكتشف معه سحر أبجدية كان لها الفضل في صياغة حروف إسمك الشخصي؟

لا أذكر بالضبط متى تَمَّ ذلك الموعد، وأحترس على العموم من تلك القصص، إن لم أقل الخرافات، التي يحيكها بعض الكتاب وحتى العظام من بينهم، ليبينوا عن عبقريتهم المُبكِّرة ونبوغهم منذ نعومة أظافرهم. علينا أن نكون متيقظين إزاء ذاكرتنا، لأنها ميالة إلى دس آياتها الشيطانية في نفوسنا الميالة بدورها إلى مرايا النرجسية الخادعة. لذا أود الانتقال من الخاص إلى العام لأطرح في هذا الشأن ما أراه قاعدة: إن هوس الكتابة وكافة أشكال الإبداع الأخرى يستوطنا منذ اللحظة التي نشعر فيها بتَفرُّدنا كأشخاص ضمن المجتمع الصغير و الكبير الذي نعيش فيه. وعندما نعي بذلك نجد أنفسنا، أحببنا ذلك أم كرهناه، في موقع جديد علينا، ألا وهو الهامش. من هذا الموقع نبدأ تأملنا الحقيقي للذات والمحيط و نصطدم بالسائد والمُجمَع حوله من المعتقدات والقواعد والسلوكيات. ومن ثم يبدأ البحث عن الأداة التي يمكن التعبير بواسطتها عن الوعي الذي تكون لدينا

إذا كنت واثقا من القاعدة التي أسلفتها، فليس لي أي جواب على السؤال الذي يتبادر للذهن بعد ذلك: لماذا ينتاب ذلك الشعور بالتفرد شخصاً ما وليس غيره؟ إنه نوع من النداء الداخلي لا نعرف من أين هو آت ولا نستطيع سبر كُنهه، وهو  سر من أسرار الإنسان، ذلك المخلوق العجيب.

هذا عن البدايات أو الموعد الأول مع الكتابة. أما عن المسار فيما بعد، فالأمر يختلف حسب الكُتاب طبعاً. هنالك من سيغادرون الهامش عن قصد، لمحاولة غزو مركز ما. نرى من بينهم من يستعملون وظيفتهم كسلم للترقية الاجتماعية والمادية ولاكتساب الجاه والشهرة. وهنالك شريحة أخرى، أقل عدداً، تفهم بشكل مغاير تلك الوظيفة وتعمل جاهدة على صونها من المغريات المُخِلّة بجوهرها. وهذه الأخيرة محكوم عليها، عموماً، بشكل أو آخر من الهامشية. لقد سبق لي أن كتبت إزاء هذه المعادلة ما يلي: ” قد يكون المركز الحقيقي هو الهامش.”

بعد محنتك السجنية التي دامت ثماني سنوات ونصف(72/80) والتي كانت حافلة بالعطاء، أصبحْتَ دائم السفر والتجوال في مدارات الكتابات والحياة والأمكنة واللغات، دون إغفال سفرك في الشبكة العنكبوتية. فهل ثمة مجال للحديث عن منفى ما؟

قصتي مع المنفى رواية حقيقية كتبتها على دفعات منذ زمن طويل ولا زلت أكتبها لحد الآن(أحيل مثلا على يوميات قلعة المنفى، مجنون الأمل، تجاعيد الأسد، شجون الدار البيضاء، الهوية شاعر، الخ…). آخر حلقة منها يمكن مراجعتها في شاعر يمر الذي صدر حديثاً. ماذا يمكن أن أضيف؟ ربما أن هذه الرواية التي أستطيع اليوم قراءتها كقارئ شبه عادي تحكي عن تجربة قاسية، مضنية، وفي نفس الوقت مشوقة وغنية إلى أبعد حد. لقد أمدتني في نهاية المطاف بخبرة في شؤون الوضع البشري لم تكن لتتوفر لدي لو بقيت “حضريا” ولم أعش ظروف الكائن المبعد والمرتحل على الدوام.اكتشفت مثلا بفضلها أن حالتي ليست شاذة أو استثناء. إنها تجمعني بفصيلة من النوع البشري يزداد عددها باستمرار وتتكون من أفراد وجماعات منحدرة من كافة الشعوب وأقطار المعمور. كما أنها تجمعني والعديد من المبدعين الوافدين إلى “المركز” من “الهوامش”. إنها فصيلة تبحث عن هوية إنسانية جديدة ورحبة خارج أسوار الانتماءات الضيقة دون أن تحيد عن التزامها بحق الشعوب في الحرية والعدالة والانعتاق من كل أشكال الهيمنة، ودون أن تفرط في حقوق الفرد عندما تصطدم حاجاته ورغباته بالسلطة أو المجتمع السالب للحريات.

إنني أصف هنا مكاناً أو موقعاً له تمايزه ضمن الوضع البشري. هل يحق لي الاستمرار في نعته بالمنفى؟ صدقاً لا. لقد استوطنت منذ زمان ما أسميته بـ المابين، وأصبحت إنسان ذلك الـ مابين، دون تمزقات مُشلَّة لطاقاتي في العطاء ولا انفصام مأساوي في الشخصية. أعرف أن هذا لن يروق من يعتبرون المثقف والمبدع مِلكاً خاصاً لهم بمجرد أنه يحمل نفس بطاقة هويتهم الوطنية. هل من الممكن أن يتخيلوا أن المبتغى هو أن ينجز ذلك المبدع والمثقف ما يؤهله كي يصبح ملكاً للبشرية جمعاء؟

في تضاعيف نصوصك الشعرية والنثرية أيضا، تتوهج دونما كلل إشاراتك التعريفية بجوهر الكتابة، بجماليتها وتعدد وظائفها المحددة في فضح كيد التاريخ والانتصار للإنساني المغيب في ظلمة الإقصاء. هل ثمة لديك من تعريف آخر للكتابة يمكن أن تتداركه في هذا الحوار؟

كفاية ما كتبته في الموضوع لحد الآن. أنا لست من المولعين بالتنظير في هذا الشأن. لماذا نطلب من الكاتب أن يكون أيضاً فيلسوف إنتاجه؟ العديد من تلك التعاليق التي يغامرون بها أجدها مغرقة في الذاتية، ناهيك عن النرجسية شبه العادية التي تشوبها. الخطر في ذلك هو تشويش قراءتنا لنص الكاتب، إذا كنا قراء حقيقيين أو الاكتفاء بالتعليق عوض النص في حالة القارئ العجول أو الكسول. أعتقد (وهذا الطرح ليس تخريجة جديدة) أن أفضل نظرية حول النص هي تلك المُتضمَّنة فيه والتي على القراءة الذكية والمرهفة حساً أن تكتشفها في طياته. غير أن النظرية الصرفة لا تكفي لوحدها لاستيعاب أغوار النص وأبعاده المختلفة. ما سبق لي أن أسميته بـ “القراءة العاشقة” وحدها كفيلة بجعلك تتذوق النص بالحواس الخمس المعروفة وربما بحواس أخرى لا نشغلها إلا ناذراً. القراءة المُثلى تتم عندما نتوحد مع النص و نستسلم له لينقلنا إلى أعماقه وكنهه. للأسف، ليس هذا هو الجاري به العمل، خصوصاً عندنا.

من ضمن ما توحي به القراءة المتأملة لنصوصك، قابلية كل ماله صلة بالحياة، بالحرية وتخريب الجدران العازلة لأن ينقال شعرا. هل هذا هو سر الغزارة الملموسة في إنتاجك الإبداعي والفكري ؟

فعلا، أحد سماتي ككاتب هو عدم التخصص في جنس أدبي على حساب الآخرين. لست متعصباً لا للشعر ولا للرواية مثلا. لا تعنيني تلك النزعة شبه الأصولية للإعلاء من شأن نوع أدبي و التقليل من أهمية الآخر. فلو أنني أُعتَبَرُ، من طرف الرأي العام الأدبي، شاعراً قبل كل شيء(و قد أوافق على هذا الانطباع دون تردد)، لن أخفي عليك بأنني أقرأ منذ عقود الرواية أكثر مما أقرأ الشعر، وأن الكتاب الذين فتحوا عندي شهوة الكتابة في المنطلق كان أغلبهم من الروائيين. أصل الآن، بعد هذه التفاصيل، إلى جوهر السؤال. ما يستهويني في الكتابة، أكانت لي أو للآخرين، هي المفاجأة. الشعور الحاد بأنني أمام نص في أتم الجدة على مستوى المعمار والنَّفَسِ والإيقاع والمخيلة. إن التخصص في نوع أدبي دون غيره يقلص من حظوظ عامل كهذا. لذلك تراني حريصاً على تشذيب المتاريس الذي يضعها البعض بين الأجناس الأدبية وأعمل بالأحرى على تلاقح تلك الأجناس والتفاعل الخصب فيما بينها. ما أصبو إليه، عندما أكون قد أتممت رسالتي الأدبية، هو أن يكون النتاج في مجمله عبارة عن سمفونية، تحظى فيها كل شريحة من الآلات بمجالها الحيوي وتبذل عطاءها الخاص من أجل إحداث التناغم المنشود. مع كل هذا، يبقى الشعر عندي هو آلة الأوركسترا المركزية و ضابط الإيقاع، إذا أردنا الإحالة على توزيع المهام في التخت العربي. إذن، الغزارة التي تحدثتَ عنها ناتجة عن ذلك التنقل المستمر بين الأجناس (هنا أشير أيضاً إلى إنتاجي المسرحي و في مجال الكتابة للأطفال، ولم لا إلى كتاباتي “النظرية” في موضوعات ثقافية وسياسية حتى).إنه سعي مستمر لاستكشاف الحقل الأدبي برمته على أمل استخراج بعض المعادن النفيسة والمجهولة التي لا زال يدخرها.

في سياق تشبيهك لتفاعل وتكامل الأجناس الإبداعية بالبناء السمفوني، هل لك أن تحدثنا عن مفهومك للموسيقى، وشكل حضورها في كينونة الشاعر عبد اللطيف، في ذاكرته، وفي لغته؟

لا أغار شخصياً ككاتب من فن آخر بقدر ما أغار من الموسيقى. فهي في رأيي الفن الأكثر اكتمالا في وسائله التعبيرية والأقوى تأثيرا وبشكل مباشر في النفس البشرية. ثم إنها معفية من لعنة برج بابل، فلغتها الكونية تخترق دون عناء سائر الثقافات. منذ زمان وأنا أشعر وكأني مصاب بعاهة لكوني لم أتعلم أصولها منذ الصغر، ولا أجيد العزف على آلة موسيقية. لن يفوتني هنا أن أشير إلى ذلك النقص الفادح في تربية وثقافة الإنسان المغربي رغم ما يقال عن ازدهار الأشكال التعبيرية الموسيقية عندنا. لكنه موضوع شائك آخر، أعرج عليه فقط.

أما عن حضور الموسيقى فيما أكتب فهو هَمٌّ مستمر أقابله يومياً. أنا مثلا أكتب بصمت ولكن بالجهر أيضا حتى عندما يتعلق الأمر بنص نثري أو روائي. كل بيت أو جملة أصيغها لا أستطيع التصديق عليها إلا بعد قراءتها بصوت عال عدة مرات. هكذا أشتغل لاقتناعي بأن العين لا تكفي لاستيعاب كل مكونات النص. أحتاج إلى اختبار آخر لا يتحقق إلا من خلال تفاعل الصوت بالأذن. وتجاوزاً لحالتي الشخصية، أرى فيما يخص الشعر بالتحديد أن هنالك نوعان من الموسيقى الملازمة له: الأولى يمكن وصفها بالخارجية، والثانية بالباطنية أو العضوية. ألاحظ أن الاهتمام في جل الدراسات ينصب عادة على النوعية الأولى وأنها، عند الإلقاء العمومي للشعر، تتصدر العوامل التي تجعل الجمهور يطرب له، خصوصاً في المحيط الثقافي العربي. وهذا ناتج في رأيي عن التأثير البالغ الذي لا يزال يمارسه التراث الكلاسيكي على إنتاج الشعر وتذوقه في عصرنا. الأذن العربية مؤطرة بتلك الموسيقى الخارجية، الخاضعة لما سمي بميزان الذهب وما يفرضه من “علوم” في ضبط الأوزان والقوافي. وحركة الحداثة نفسها، على الأقل في مراحلها الأولى لم تتخلص من ذلك التأطير نظراً لاعتمادها المنهجي للتفعيلة. ليس في نيتي هنا الحكم على هذا النوع من الموسيقى بالسطحية أو المجانية. أشير فقط لما قد يعتريه من تخطيط تقني مفتعل، مقحم في لحمة القصيدة و مشوش لعنصر الفطرة فيها، تلك الفطرة التي، لحسن الحظ، نبه القدامى إلى أهميتها القصوى. من هنا تراني أركز فيما أكتب على النوعية الثانية، تلك الموسيقى الخافتة والباطنية التي تنتج عن خيمياء معينة تتفاعل فيها عناصر أو معادن مختلفة: الصوت الداخلي، إيقاع تسلسل الصور والرؤى، أنين الأحشاء، حركة اليد فوق الصفحة وخشخشة الورق، ترانيم آتية من أعماق الذاكرة، أصداء جريان نهر الزمن، احتكاك الشكل بالمضمون، رقصة الروح في معمعة الكتابة. أظن أن تلك الموسيقى هي التي لها أعمق تأثير في الوجدان لأنها لا تهدهد القارئ أو السامع بل تتسرب إلى دواخله لتوقظ فيه جمرة السؤال والحنين إلى الجمال والتّوق إلى إنسانيته الكاملة.

تعتبر ذاكرة المكان مكونا مركزيا من مكونات شعريتك. طبعا، المكان المتسائل عن إنسانيته، الفرِحُ و المعذب بها. إلى أية شرفة من شرفات هذه الذاكرة أراك قريبا، أو بعيدا؟

الشرفة الأولى، التي لا مناص منها، تفضي إلى أزقة مدينة فاس العتيقة، البيت الذي ولدتُ فيه، حارة عين الخيل، مدرسة اللمطيين الابتدائية، حرم ومسجد المولى إدريس، سوق السقاطين الذي كان يكد فيه أبي الصانع التقليدي، مقبرة باب الجيسة المثوى الأخير للوالدة والوالد، عين عللو، أسفل زقاق الحجر، المكان الذي كِدتُ أن ألفظ فيه أنفاسي الأخيرة خلال مظاهرة وطنية وعمري آنذاك لا يتجاوز سبع سنوات. هذه الشرفة لم تفارقني قط أينما حللت و ارتحلت. الآن، وأنا أكتب هذه السطور، إنها ماثلة أمام عينيّ، وأقول مع نفسي: إذا كنتَ لا تعرف أين ستكون وجهتك الأخيرة، فعلى الأقل أنت واثق من أين أتيتَ. ومن أين أتيتُ؟ الأمكنة التي تحدثت عنها تبقى في آخر المطاف مسرحاً في الهواء الطلق، محفورا في الذاكرة والوجدان طبعاً. لكن الأهم عندي هو مَنْ كان يملأ ذلك المسرح بمعاناته اليومية وصراعه من أجل العيش الكريم، بجهله ومعرفته، بنقائصه ومزاياه، بنصه غير المكتوب واللاهج بلغة فريدة، مهددة اليوم بالانقراض، أعني ذلك الجزء من البشرية الذي أنا من صلبه والذي أضحى نصيبي من البشرية. لحسن الحظ أن الوسط الذي ترعرعت فيه كان في مجمله من البسطاء والمستضعفين. وهذا هو العامل الذي حدد فيما بعد موقع انتمائي الحقيقي ومنهج سلوكي واختياراتي.

الشرفة الثانية لا أدري في أي مكان أضعها: بين السماء والأرض؟ تحت الماء أو فوق اليابسة؟ في مغارة أو الربع الخالي من المعمور؟ إنها شرفة متنقلة باستمرار قد أغلقها أو أفتحها حسب المزاج والفضول أو الرغبات. وهي تطل على مسرح آخر، تارة في الهواء الطلق، وتارة أخرى في السراديب. أشعر بنفسي وأنا واقف أمامها بأني متلصص أحياناً، وأخرى بأنني خبير بكم عِلْمٍ، أمارس عمليات تشريح معقدة على ما أراه وأسمعه وأستوعبه. إنها شرفة المرتحل الساعي إلى محاولة فهم لغزه الخاص ككائن، الباحث عن معنى وجوده ضمن الوجود العام وإزاء لانهائية الكون العسيرة الفهم عليه. هي أيضاً شرفة الشاهد المتيقظ على الهمجيات التي تقترف يومياً والمفتتن في نفس الوقت بما أنجزته البشرية من خوارق، وعلى رأسها روائع الفكر والمخيلة.

لي شرفة أخيرة كدت أن أنساها، وهي شرفة الغرفة التي أشتغل فيها والمطلة على الحديقة الصغيرة التي تحوط العمارة. هذه الشرفة تسمح لي فقط برؤية شجيرات ثلاث ومربع صغير من السماء. لكنني لولاها لا أستطيع الكتابة. ما تسمح لي برؤيته حيوي على تواضعه. عندما أغرق أعيني فيه، أبحر دائماً نحو أفق تلتقي عنده الأبعاد الظاهرة الملموسة بالأبعاد الباطنية. لحظة، فتأتي الكلمات لكي أعانقها.

في الكثير من قصائدك حضور دائم لمديح الشبيه المفارق، بدل المنسجم والمتناغم مع هويتك، هل يعني ذلك محاولة ممكنة للتخلص من هيمنة الأنا عليك، أم هو محض هاجس البحث عن المنسي أو المفقود فيها ؟

أي كاتب عركته الصفحة البيضاء وعركها يعرف جيداً ذلك القرين الأليف الساكن فيه والذي يتدخل في النص حسب طقوسه وأهوائه الخاصة. قد يحيره ذلك القرين، وقد يخيفه أحيانأ، لكنه يبقى مع ذلك محاوره الأول والمباشر.العلاقة التي ربطتُها شخصياً معه تتميز بالاحترام، الود، واليقظة في نفس الوقت. أقبل معه بنوع من توزيع المهام لأنني أعرف أنه يقطن في مكامن من الذات ليس بمقدوري دائما النفاذ إليها. أضف إلى ذلك أنه قادر أكثر من أي كان على نصب المرآة في وجهي وجعلي أرى نفسي على حقيقتها المُرَّة أحيانا. إن صراحته تجاهي هي التي تمدني بتلك الطاقة على انتقاد النفس و توجيه السخرية لها قبل توجيهها للآخرين. ورغم ذلك، فإنني حريص على عدم إطلاق العنان له إلى درجة تهميش دوري والقدرات الخاصة التي أتمتع بها دونه.

هناك مسألة متقاربة يمكن طرحها في هذا الموضوع : القرين يوحي أيضاً بتلك الحروب الأهلية التي تدور رحاها في دواخلنا، ما بين الخير والشر، العطاء و الأنانية، الصدق والكذب، الحب والكراهية، التسامح والعنصرية، العصيان والخضوع، الشجاعة والجبن، الكسب والتقشف، الكسل والتعبئة الخ…الكاتب ليس من الأولياء والقديسين. إنه إنسان لا غير، تخترقه باستمرار تلك النزعات المتضاربة. لكن وظيفته تفرض عليه مصارعة جانبها المميت للعقل والروح، والدفاع عن القيم الإنسانية النبيلة. ونضاله هذا لن يحظى بالمشروعية على المستوى العام إن هو لم يقطع أشواطاً معتبرة في المعركة على مستواه الخاص. هنا بالضبط يمكن أن نتخيل القرين كحَكَمٍ نزيه، صارم و مشاكس في نفس الوقت يراقب حلبة الصراع عن كثب ويسجل على الكاتب أي تردد أو تنازل، أي إخلال بالقيم التي يدعي أنه المدافع الشهم عنها. يمكننا أيضاً أن نتخيله كناقد لا تنطلي عليه الحيلة وهو يقول: حذار من السهولة والتكرار، من الغموض المجاني والقاموس الجاهز، من الاستعلاء إزاء القارئ أو مغازلته، من الدمعة أو الصرخة التي لا تنبع من المشاركة في تمزقات ومحن من يعانون أكثر منك. حذار من الغرور نظراً لما تعتقد أنك أنجزته. سؤالك يسمح لي في الأخير بالقول بأن اكتشافي لذلك القرين واعترافي التام به شكل بدون شك إحدى التحولات الأساسية في تجربتي الخاصة، وهي التي أمدتني بحرية أكثر جرأة، بتيقظ دائم وبمعين من السخرية لا أود البتة أن ينضب. وتجاوزاً لمسألة القرين هذه، ألا ترى أننا نكتب بالمجهول فينا ومن حولنا أكثر مما نكتب بالمعلوم والماثل بوضوح في الوعي؟ إننا نواجه دائماً في عملنا ذلك الوحش الذي أوردته الأسطورة اليونانية (أبو الهول) الذي يطرح عليك اللغز تلو اللغز، وأنت تعرف مسبقاً أن بقاءك رهين بإيجاد الحل الصائب. من هنا جانب المأساوية في الكتابة لأنها تفرض عليك أن تضع رأسك أو حياتك في الميزان. إنها تنبذ السطحية والتساهل أو التلاعب، وتطالبك بأن تسخر لها حياتك دون أي مقايضة.

هل يمكن اعتبار ديوانك فواكه الجسد، الذي تحتفي فيه اللغة بتهتكها الخلاق، انتقاماً لنداءات دفينة، خفيضة وعميقة، كان صخب الواقع وعنفه يحُول باستمرار دون سماعها؟

نعم، ولو أن وعيي بوجود القرين الذي تحدثنا عنه، كان مبكراً. لكن الشروط العامة التي كانت تؤطر الكتابة في المراحل الأولى لم تسمح لي بالتمعن فيه ملياً و الإنصات لصوته المختلف. ضغط التاريخ. المحن التي اجتزتُها. ضيق الأفق. شروط العيش نفسها. ومع ذلك، فإن ديوان فواكه الجسد جاء تتويجاً لعدد من المقاربات لنفس التيمة متضمنة في أعمال سابقة عليه، شعرية و نثرية، لم يُنتبَه إليها للأسف. وهذا راجع إلى عوائد القراءة عندنا، المصابة بآفات عدة، وعلى رأسها ربما نزعة الاختزال. لطالما عانينا من وضع يمكن تلخيصه في هذه الجملة الموجعة :” أكتبْ ما شئتَ، سنقرأ منك ما شئنا “. يبقي أملي في أن تتحرر تلك القراءة من قيودها لترفع عن أيدينا نحن الكتاب فائض قيودنا.

أغلب المبدعين العرب المنتمين إلى تيار الحداثة وما بعدها وجدوا ضالتهم في الذاكرة التراثية وخاصة منها الصوفية. بماذا تعلل انصرافك عن هذه التجربة. هل بتبرمك من ركوب الموجات، أم باختيارات(شعرية وفكرية) مغايرة لاتلتقي بالضرورة مع اختياراتها؟

سؤالك ممتع. أستقبله كمفاجأة سارة لأنه ينأى عن الأبواب المطروقة ويلتقي مع إحدى الاهتمامات المركزية لدي. فالنص الشعري الذي يستوقفني هو المتضمن لمرجعيته الخاصة، المستقلة عن أي مرجع سابق عليه، كيفما كانت قوة وعبقرية ذلك المرجع. لذا أحترس من تلك الموجة (التي يبقى من الضروري الإلمام بمسبباتها ودلالاتها) التي اجتاحت جزءاً لا يستهان به من الشعرالعربي الحديث.لا تُعَدُّ تلك النصوص التي يستشهد أصحابها بشكل شبه آلي بذلك القطب أو ذاك من المتصوفة. المعضلة هو أن النص المستحدث لا يرقى إلا نادراً إلى مستوى المرجع المُستشهَد به. وهذا ما يحز في النفس. شخصياً، وهذا جانب من عناد طبعي الخاص، لم يسبق لي أن وضعت رأس أي نص لي استشهاداً يذكر، لسبب بسيط: فإما أن يكون النص الذي أكتبه قائماً بذاته، شكلا ومضموناً أو لا يكون. حرصي هو ألا أدرج عاملا خارجاً عنه وكأني أضفي على ما أكتب فائضاً من المعنى والعمق والتألق، أو أظهر سعة مرموقة وغزارة في ثقافتي. هذا مع العلم أن العديد من الاستشهادات التي تحدثت عنها قد لا تكون لها أي صلة منطقية أو عضوية بالنص المنضوي تحت لوائها، فيصبح الاستشهاد نتيجة لذلك نوعاً من الإدعاء أو الزينة لا غير.

أريد الآن أن أدلي بما يلي: التراث الصوفي(العربي والإسلامي وغيره من التراث العالمي) له عندي مكانة رفيعة. فبلإضافة إلى رسالته الروحية السامية وقوة صداه في الوجدان، ما يبهرني فيه هو حداثته العابرة للأمكنة والأزمنة، تلك الحداثة ما قبل الحداثة التي نَحَتتْ قاموسها اللغوي المتميز وشَغَّلتْ بإبداعية مدهشة كافة آليات اللغة المتوفرة في حقبتها التاريخية. منذ أكثر من عقدين وأنا أعب من رحيقه. قرأته طبعاً بالعربية، لكن بالفرنسية أيضاً مما سمح لي باكتشاف قدرته على اختراق اللغات والثقافات بشكل لم يستطع أن يحققه إلا نادراً الشعر العربي الحديث المترجم، على أهمية أصواته الكبرى. مسألة توظيف هذا التراث في الإنتاج الحداثي مشروعة إذن شريطة أن نقدم الإضافة النوعية، وذلك لن يتأتى إلا بحضورنا المتيقظ في واقع عصرنا واستبطان المكتسبات التي تحققت فيه على كافة مستويات المعرفة وكذلك المنجزات التي تمت في مجالات الفكر والإبداع. ومع كل ما أسلفت، فالعلاقة بالتراث وإن كانت خصبة ومثمرة في بعض الحالات فإنها ليست إلزامية. قد تطرح نفسها بإلحاح على ذلك الشاعر أو ذاك في فترة من مساره، ثم تأتي رغبات وتحديات أخرى لتحتل عنده الصدارة. تلك سُنَّةُ الإبداع ولا مرد لها.خذ حالتي الشخصية: لو كنت أقبل باليافطات لما استهجنتُ أن أُنعتَ بـ “المتصوف العلماني”. لكنني كما تعلم لا أطيق السجون كيفما كانت رحابتها. هويتي الشعرية تعكس حتماً هويتي الإنسانية. إنها متعددة، بتعدد ما أنجذب له ويستلهمني من القارة الإنسانية.

على امتداد مسارك الإبداعي تبدو علاقتك بالمؤسسات الثقافية بالمغرب،كما خارجه، ذات طبيعة اختبارية، عابرة ومؤقتة، وبعيدة كل البعد عن أي انصهار محتمل. إذا كان الأمر كذلك، فهل نؤوله بحاجتك الدائمة لاختبار حدود تنازلاتك، أم بمدى استجابتك لهاجس الاندماج؟

الاندماج في ماذا؟ حبَّذا لو كان الوضع الثقافي(ناهيك عن السياسي) القائم في المغرب يسمح بذلك. أنا لست مازوخياً ولا معتنقاً لديانة تسمى الرفض المبدئي.إنما للضرورة أحكام. عيشي مثلا في فرنسا ليس من قبيل المتعة، الارتخاء أو الرخاء، الشهرة، الربح أو ما شابه ذلك. لست من المتهافتين على سُبُلٍ اعتبرتُها تافهة منذ زمان ومؤذية لصدق العمل الإبداعي. هكذا على الأقل أفهم شرف المهنة. إنني أعيش هنا أيضاً في هامش اخترته منذ البداية. لا ألبي دعوات توجه إلي من طرف الرسميين وأتحاشى التقرب من أي كان، يمثل سلطة سياسية أو رمزية. الدار التي تنشر أعمالي من الدور المتواضعة في باريس. العمل الوحيد الذي نشَرتْهُ دار غاليمار المعروفة هو قاع الخابية. حقوق التأليف التي تذرها علي أعمالي وبعض الترجمات أكثر من متواضعة (ثلث الحد الأدنى للأجور في فرنسا). لذلك أضطر للقيام بعدة نشاطات قصد ملئ الطنجرة كما يقال. إنني لا ” أتمَسْكَنُ” هنا بطرح هذه التفاصيل بل لإعطاء صورة دقيقة عن وضع أفضله ألف مرة عن المكانة والامتيازات التي كان من الممكن أن أحظى بها في المغرب لو قبلت في مرحلة ما بالاندماج، أي الانخراط في السائد بشكل من الأشكال. الوضع الذي وصفته هو الأريح بالنسبة لي نفسياً وأخلاقياً، الضامن لاستقلاليتي الفكرية وحريتي ككاتب.لا تظن مع ذلك أنني أرقص ابتهاجاً لهذا الوضع. أشعر بقساوته أحياناً وبعبثيته حتى. كم مرة تهتُ في الخيال وتصورتُ مغرباً مغايراً، يُسَيِّرُهُ الذكاء و المخيلة الخلاقة والتفاني في خدمة الصالح العام، مغرباً مُعْتَرَفاً فيه بوظيفة المثقف ودور هذا الأخير في صنع الإنسان المتحرر من الجهل والشعوذة، الواعي بحقوقه وواجباته كمواطن، سيد أفكاره واختياراته، المنفتح على الآخرين والقابل باختلافهم، المقبل على المعرفة والإبداع كإحدى حاجياته الحيوية. أراني طبعاً بين ظهران ذلك المغرب/الحلم، أقدم كل ما ملكت يداي من حدس وخبرات ومعارف ورؤى، و أمارس على ضوئها يومياً في الواقع الملموس. لكن سرعان ما يتفتت الحلم فأصطدم بالمغرب المبتذل الذي سبق لي كم مرة أن صرخت في وجهه وكشفت عن عاهاته واقترحت أيضاً بعض الإجراءات العاجلة لإنقاذ بيته من الانهيار، وفتح نافذة فيه على الأمل وصنع مستقبل جدير بالعيش للأجيال الصاعدة. كل ذلك دون جدوى على ما يبدو، و لكن وأقولها في وجه الشامتين، دون أن ينال مني اليأس قيد أنملة.

كانت القضية الفلسطينية وماتزال، أحد أسئلتك الإبداعية والفكرية الكبرى، ماذا جدَّ في هذه الأسئلة على ضوء ماتعيشه القضية حاليا من تصدعات ؟ ثم ماذا بعد رحيل الشاعر الكبير محمود درويش؟

قلت مراراً أن القضية الفلسطينية كانت هي المولدة الحقيقية للوعي السياسي لدي، ذلك الوعي الذي يتجاوز الفهم الضيق للسياسة ويطمح إلى الإلمام بواقع الوضع البشري بشكل عام، بالتناقضات والقوى الفاعلة في مجرى التاريخ، وبطبيعة المعارك التي لا مناص منها قصد التحرر من كل أشكال القهر والعبودية وبناء المجتمع البشري الذي تسود فيه قيم العدالة والمساواة والإخاء، والإبداعية أيضاً. إذن، القضية الفلسطينية هي التي جعلتني أفهم أن ما كان يحدث في المغرب خلال الستينيات (ومن أبرز تلك الأحداث مجزرة مارس 65 في الدار البيضاء) ليس معزولا عما كان يجري في أقطار ومناطق أخرى من العالم، وأن الفهم الدقيق لتلك الأحداث “المحلية” لن يتأتى دون الإلمام بما يُتصارَعُ حوله قومياً وعالمياً من مصالح و ثروات وسبل للسلطة والهيمنة. هذا على المستوى الفكري العام. أما عن الخاص، فتعرفي المباشر على شرائح مختلفة من الفلسطينيين(و ضمنهم طبعاً المثقفين والكتاب) جعلني ألتحم أكثر بقضية شعبهم إلى حد الانصهار والانتماء الطوعي . شعرت معهم بقوة الأخوة وبحميمية لم أعشها من قبل حتى مع مواطني المباشرين. أحببت تفانيهم في خدمة شعبهم، سعة أفكارهم، سماحتهم إزاء المختلف، حبهم المتطرف للحياة، خفة دمهم وروح الفكاهة لديهم، هم الذين يعيشون قسوة المأساة اليومية. أحببت أكلهم، شرابهم، وموسيقى لغتهم مما جعلني أفضل التخاطب معهم بلهجتهم المختلفة جداً عن اللهجة المغربية، دون أن أشعر بأدنى استلاب لغوي.

تلك العلاقة الخاصة فتحت لي دربا ثانياً ولجته عندما قمت سنة 1969 بإنجاز أنطلوجية الشعر الفلسطيني المقاوم.ومن ذلك الوقت، لم أحد عنه، إذ أصبح درباً موازياً ومكملا لدرب الكتابة. الفضل في اشتغالي بالترجمة على امتداد العقود الأخيرة يرجع إذن لذلك الوعي المكتسب من خلال انخراطي في القضية الفلسطينية.

أما عن المحن المستجدة التي تخنق أنفاس الشعب الفلسطيني فإنني أعيشها بكل صدق كمأساة شخصية. هل كان بمقدوري أن أتصور، ولو في أسوء الاحتمالات، الوضع القائم حالياً على أرض فلسطين؟ الانقصام الحاصل في صفوف شعب كنت أعتبره متفوقاً بكثير من الميزات على مجمل الشعوب العربية، ومؤهلا أكثر من غيره على تحقيق مشروع المجتمع الديمقراطي المنشود والدولة العلمانية بكل مواصفاتها. إنها لفاجعةٌ لا تقدر.ورحيل محمود درويش في أوجها هو أدق تعبير عن الخسارة المعنوية التي تكبدها شعبه من جراء انغلاق العقل لدى بعض فئاته وقصور الرؤية وطغيان المصالح الضيقة لدى فئات أخرى.

في أي منعطف هي الآن حكاية الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية التي تعتبر بحق أحد رموزها وأبطالها النموذجيين ؟

لي أمل: هو أن نكف عن استعمال هذا النعت، وأن نتناول الأدب المغربي المعاصر بمختلف مشاربه، في تجانسه إذا أمكن، ودون خلفيات إقصاء أو مغالاة. ألا ترى أن الوقت قد حان كي نقر بكل موضوعية أن التعددية اللغوية أضحت معطى هيكليا وقاراً في حقلنا الأدبي؟ أمس، كانت تقتصر على مكونين أساسيين (على الأقل فيما يخص الأدب المكتوب) هما التعبير باللغة العربية والفرنسية. أما اليوم، فبالإضافة إلى النمو الملحوظ للكتابة بالعربية العامية وبالأمازيغية، نشهد بروز إنتاج جديد بلغات عدة كالإسبانية والهولندية والإيطالية والإنجليزية وغيرها من اللغات الواسعة الانتشار أو الأقل انتشاراً. ما العمل أمام هذه الظاهرة ؟ نفيها بشكل اعتباطي؟ تناولها على الطريقة القديمة، التي عانينا منها مثلا في بدايات تجربة أنفاس عندما رجمنا البعض بتهم التغريب والاستلاب اللغوي، أم فحصها والتمعن فيها كتحول في الثقافة المغربية ناتج عن تحول هائل في البنيات المادية والمعنوية للشعب المغربي المنتشر الآن عبر القارات؟ والمهمة المستعجلة في رأيي، لأن لا شيء يعلو فوق المعرفة، هي إدماج هذا الإنتاج المتنوع، الذي وصلت رسالته إلى مئات الآلاف من القراء خارج المغرب، في دائرة اهتمامنا أو فضولنا الأدبي على الأقل. هذا مع العلم بأن عملية إضفاء هوية وطنية على أدب من الآداب أصبحت إلى حد ما متجاوزة. علينا أن ننتبه إلى الطريقة المستجدة التي تنتشر بها الأعمال الأدبية عبر العالم وإلى المقاييس المستحدثة التي تقاس بها تلك الأعمال. فإذا كان الانحدار الوطني والثقافي للكاتب وكتابته بلغة معينة (أكانت لغته الأم أم لغة اختارها لنفسه) أشياء تُأخُذ بعين الاعتبار و ينَبَّهُ إليها عادة، فالأهم يكمن فيما يقدمه ذلك الكاتب من سبرٍ لأغوار النفس البشرية ورؤية خاصة للعالم وإبداعية في اللغة المستعملة وتجديد للمادة الأدبية.

أُنظرْ مثلا لظاهرة جديدة أصبحت تعَرَّفُ بـ “أدب العالم” يدرج فيها إنتاج العديد من الكتاب ذوي الوزن الكبير ضمن الإنتاج الأدبي العالمي، وهم ينحدرون في مجملهم من العالم الثالث(إفريقيا، الهند وباكستان، إيران، أفغانستان، جزر الكارايب وفي بعض الحالات شمال إفريقيا والعالم العربي). معظمهم يكتبون بلغة أخرى غير لغة الأم، إنما الأمر الذي لا جدال فيه هو أنهم أحدثوا ما يشبه الانقلاب في الحقل الأدبي على المستوى الكوني و يشكلون الآن إحدى مكوناته الأكثر حيوية وتأثيراً. أقولها، ليس من باب التبجح بل الموضوعية والأمانة، أنني لو أردت تحديد مكان لي ضمن الحقل الأدبي العام لوضعت نفسي عن وعي ضمن هذا التيار. وهذا لا ينفي أو ينافس في اعتقادي انتماءاتي الطبيعية وتموقعي ضمن الحقل الأدبي المغربي والعربي دون أن أكترث بمن قد يجادلوني في ذلك، عن حسن أو سوء نية.

داخل إعصار العولمة، و في أتون تمظهراها المتوحشة التي توشك أن تعصف بما تبقى، حيث انقرضت أو تكاد، الكثير من الثوابت التي كنا نعتقد أننا سنحيا بها، كي تتأسس على أنقاضها أخرى تبدو هي أيضا آيلة لأفولها. داخل هذا الواقع الهجين، بأي طوق نجاة أراك تتشبت الآن ؟

لست مولعاً بالاستشهادات كما تعلم، لكن اسمح لي ولو مرة أن أعيد إلى الأذهان المقولة النفيسة للفيلسوف و المناضل الايطالي أنطونيو غرامشي عندما تحدث عن ” تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”. إنها درة من الدرر العزيزة على قلبي، أهتديت بها منذ زمن بعيد، خصوصاً أثناء المحن التي اجتزتها. ما أود التأكيد عليه اليوم من خلالها هو كيفية مواجهة الانتكاسات والعواصف المدمرة للأحلام العادلة. فإما أن نستسلم لها كقدر محتوم ولاعقلاني أم نحاول الإلمام بمسبباتها و نخضعها للتحليل العقلاني كيفما كان الجهد والوقت المتطلب وكيفما كانت المراجعات الموجعة التي نضطر للقيام بها. هذا عن تشاؤم العقل أو حيطته عندما يشتغل في مختبره على مادة الهزائم والتفكك والخراب. لكن العقل، إضافة إلى وظيفته النقدية يمتاز بخصائل أخرى من ضمنها المثابرة والعناد مما يجعله يرفض مبدئياً الهزيمة. تلك العزيمة هي التي توفر له طاقة الأمل و تجعل منه في آخر المطاف أداة مقاومة ورافعة لإعادة البناء. على أية حال، ليس لنا خيار آخر. فإما أن نستقيل ونقبل ببشاعة ما هو قائم، وهذا نوع من الانتحار(والانتحار الجسدي قد يكون الحل الأكثر منطقية) أو أننا نواجه بالملكات والقدرات المتوفرة لدينا انطلاقاً من اقتناعنا( إذا كان فعلا اقتناعاً) بأن حياتنا الفردية والجماعية على هذه الأرض تستحق أن تعاش وأن يناضل من أجل أن تحقق كل الآمال المعقودة عليها.

إذن ليس لي طوق سحري أحتمي به ولا أتصور طوقاً فردياً أنجو به لوحدي. إنني أحاول فقط أن أكون جديراً بوظيفتي الصعبة كمثقف و كاتب، تلك الوظيفة التي لا فائدة منها إذا لم تكن ممتثلة إلى منظومة أخلاقية صارمة تنبذ التقوقع على الذات، الكسل، سبات العقل والاستسلام للأمر الواقع.

لو كان بإمكانك أن تفكر/أن تغامرمن جديد بإصدار مجلة أنفاس، ماهي الرؤية التي يمكن أن تكون ناظمة لتوجهها الفكري و الإبداعي واللغوي ؟

سؤالك قد يعطي الانطباع وكأن تجربة أنفاس ملك لي، ولي وحدي. لقد نبهت مراراً للميزة الأساسية لتلك التجربة وهي الروح الجماعية التي تخللتها. المجلة كانت، في لحظة تاريخية دقيقة، عبارة عن بؤرة التقت وانصهرت فيها طاقات إبداعية مختلفة، وذلك ليس بعامل الصدفة بل الضرورة الموضوعية. لذا فإنها سرعان ما حددت مشروعها وتحولت إلى حركة فكرية وإبداعية قائمة الذات، متجانسة في الطروحات والرؤية، رافضة لما هو قائم وعازمة على خوض المغامرة بحافز التأسيس.

جانب آخر في التجربة لربما يبدو ثانوياً بينما له دلالاته الكبيرة في اعتقادي: عملنا في المجلة آنذاك كان تطوعياً ودون مقابل مادي، لم يكن حتى ليخطر على البال. كنا نتحمل كل الأعباء ( التمويل، التحرير، الضرب على الآلة الكاتبة، التصميم، توفير بعض الإشهارات، الإشراف على الطباعة والتوزيع، إرسال الأعداد للمشتركين) كواجبات ضمن الواجبات اليومية الأخرى. هل يمكن أن نتصور اليوم تعبئة من هذا النوع واشتغالا بهذه الطريقة؟ هذا للجواب السريع على منطلق سؤالك. لقد عشنا مرحلة يمكن لنا مع المسافة الزمنية أن نصفها، دون مبالغة مفرطة بالملحمية، لأن العطاء الصرف كان ممكناً وشبه طبيعي. أما اليوم فنحن في زمن آخر، لست في حاجة أن ألح على رداء ته. الطوعية، المجانية والروح الجماعية تكاد تنعدم في ساحتنا الثقافية، المصابة علاوة على ذلك بأمراض شتى، من ضمنها ذلك التهافت على سلطة وهمية وامتيازات تافهة، تتعارض مع القيم المرتبطة بوظيفة المثقف والثقافة.

ستجد ربما أن نظرتي للمشهد الحالي متسمة بالقسوة والسوداوية، لكنها نابعة من أعمق ما أدرجته لحد الآن. ففقدان الروح الجماعية مثلا له دلالته القوية بالنظر إلى ما آلت إليه أوضاعنا العامة، الاجتماعية والخلقية والسياسية. إنه تعبير عن تدني الروح المدنية لدى النخبة أو ما أسميه بكتلة المثقفين، وكأن المثقف معفى من إدلاء الرأي والتحليل والمقترح في الظواهر الاجتماعية والشأن العام والسياسات المنتهجة من طرف السلطة. وهو في نفس الوقت تعبير عن قصور في الرؤية للمشروع المجتمعي (الديمقراطي الحداثي كما تتفوه بذلك العديد من الببغاوات) الذي تدور حوله نقاشات وصراعات تكاد تكون حصراً على الطبقة السياسية، وتلك السلطة الرابعة في طور التكوين ألا وهي الصحافة. صوت المثقف في هذه المعمعة خافت جداً وغير مسموع على أية حال. هذا في الوقت الذي نحن في أمس الحاجة إلى سماعه خصوصاً إن هو طلع بما هو شبه غائب في برامج الأحزاب السياسية و أعمدة الصحافة : طرح الرهان الثقافي كحجر الزاوية في مشروع التحديث المتواصل وخلق شروط المواطنة الكاملة وإرساء قواعد الحكامة الديمقراطية. أستخلص من هذا أنه لو كان بإمكاني اقتراح تصور لمجلة جديدة في وضعنا الراهن، لطرحت عليها كإطار للبحث والعمل مهمة وضع المسالة الثقافية في مركز النقاش الوطني حول المشروع الديمقراطي المتعثر منذ سنين. إنها مهمة مصيرية تتطلب طبعاً التعبئة الجماعية والبذل بكل سخاء واسترجاع منهجية الحوار والجدل الايجابي النافع، كما أنها تستدعي روح المبادرة والممارسة العملية، أي الانخراط بشكل خلاق في المعركة القائمة من أجل إحلال المجتمع المتحرر والنظام السياسي الحضاري المنشود.

أما عن الأداة اللغوية، أرى من الضروري أن تكون مزدوجة لسبب براغماتي بين. فالهوة ما بين من يكتبون ويقرؤون بالعربية أوالفرنسية اتسعت من جديد في العقدين الأخيرين. لقد عملنا كل المستطاع إبان تجربة أنفاس على تقليصها ومد الجسور ما بين الفريقين، وخلق شروط الحوار والتفاعل الخلاق. لكن التطورات اللاحقة نسفت إلى حد ما ذلك الانجاز. علينا إذن، في الوضع الراهن، أن نعيد الكرة من أجل إشراك الجميع في المهمة الصعبة التي تحدثت عنها منذ قليل، وهي وضع المسألة الثقافية في مركز المشروع المجتمعي المنشود.

في أية خانة يمكن وضع فوزك بجائزة أكادمية الغونكور ؟ في خانة الاعتراف الحضاري أو الإبداعي أو اللغوي؟

لنكن متفائلين ونعتبر أنها باقة من المكونات الثلاث. هذا على الأقل ما شعرت به من خلال المكالمات الهاتفية والرسائل التي تلقيتها من العديد من الأصدقاء و المثقفين والمواطنين العاديين، وأيضاً من خلال الاهتمام البالغ الذي أولته للحدث وسائل الإعلام المغربية والعربية على الخصوص. لقد أثرت في عميقاً تلك الفرحة واكتشفت أنها تفوق بكثير فرحتي الخاصة. إذ أنني صراحة لم أكن أنتظر شيئاً على هذا المستوى ولم أعمل شيئاً قصد الفوز بأي امتياز. منذ عقود وأنا أشتغل في الهامش بعيداً عن أضواء الخشبة، معتبراً أن ما يسمى بالشهرة، فبالأحرى النجومية، عامل مُخِلّ بصدق التجربة الإبداعية. إنه يبعدك عن الجوهر في تجربتك ويسقطك لا محالة في المظهرية والحسابات والتنازلات في آخر المطاف. لكنني مع ذلك أفهم الحاجة الجماعية لاعتراف الآخر بقدراتنا وعطائنا الخاص، خصوصاً في الوقت العسير الذي نجتازه حيث يُنظَرُ إلينا عادة من خلال عاهات التخلف والتعصب والعنف الملتصقة بصورتنا عن جور، وكأنها قدرنا المحتوم. من هذه الزاوية فقط، قد أشعر بقسط من العزة لو أنا، بفضل هذا الاعتراف، ساهمت حقاً في النيل من تلك الصورة المزيفة وقدمت عنا بذلها تعبيراً صادقا عن القيم الحضارية التي نحن ورثتها، وعن انخراطنا دون عجرفة ولا مركبات نقص، في مغامرة إعادة إحياء الفكر والإبداع على المستوى الكوني.

تبدو عصيا وعنيدا في أعين محترفي التدجين، عميقا وشفافا في أعين رفيقات ورفاق دروبك الإبداعية والإنسانية، بينما تبدو ملتبسا في أعين المصابين بقذى النكران، فمن تكون؟

بعد كل هذه المسافات التي قطعتُها، لا زلت أبحث عن نفسي وأتقصى لغزي الخاص، لغز وجودي ككائن بمواصفاته التي تحيرني بعضها لحد الآن. هذا ناهيك عن وجودي ضمن مجتمعي الخاص والمجتمع البشري أيضاً، ثم وجودي إزاء سر الكون ولانهائيته المحيرة. إن محاولة النفاذ إلى الكنه الخاص مرتبطة بمحاولة التقرب من لغز الكينونة الشاملة. الأسئلة التي أطرحها في هذا المضمار تقدمت بدون شك في اتجاه الدقة و النسبية في آن معاً، لكن الأجوبة عليها قليلة جداً وقد لا تعنيني بالدرجة الأولى. أنا لست عالماً ولا فيلسوفاً بل شاعراً له طريقته المغايرة في المعرفة، تتأسس على الحدس والمخيلة، على الذاكرة الفردية والجمعية، على الحلم في الصحو، ليلا وفي واضحة النهار، وكذا على ما تمده له حواسه الخمس من معلومات وأحاسيس. الشعور الذي يطغى عندي هو أنني أنتسب إلى عالم آخر مواز للعالم المادي الذي أعيش فيه. أحيانا أسبح وأغرق في العالم الأول إلى درجة أن الثاني يختفي تماماً أو على الأقل يخف وزره ويصير عبارة عن صدى لا غير. لكنني مع ذلك أبقى واثقاً بأن ما أعيشه ينتمي إلى حالة من الحالات البشرية، يمكن أن أنعتها بحالة الشعر قصد التبسيط.

التباسي إذن في أعين الكثير من أبناء جلدتي ناتج عن اختلافي معهم في كيفية العيش والسلوك، في المعنى الذي أضفيه على الحياة والموت، الحب و الحرية، الأرض والوطن، المرأة والرجل، العبادة والملذات، الفرد والجماعة، الفشل والنصر، الهوان والشرف، الربح والخسارة، جهنم والفردوس، وحتى الخير والشر. مشكلتي معهم هي أنني أرفض فكرة التفاوض عندما يتعلق الأمر بعدد من المبادئ والقيم، لا أقبل بالمقايضة حولها وبأنصاف الحلول اتجاهها. في هذا المضمار أحترم الخصم الواضح، المختلف معي تماماً، وأتحمس للصراع معه فكرياً، بينما لا أحترم كثيراً المخادع الذي يتأقلم مع الشيء وضده، حسب مخاطِبيه ومصلحته الآنية. لا أشعر بالرغبة في هديه أو “تنويره”.

مع كل ذلك، أنا لست من أهل الكهف، وأنت تعرف جيداً من خلال جلساتنا الحميمية، النادرة للأسف، كم أنا حيوان اجتماعي. أبحث فقط في العلاقات الإنسانية عن الصفاء، عن الصوت الصادق، عن الإنصات المتبادل، عن سعة القلب والعقل، عن أي إنسان يشعرني، ولو في لحظة خاطفة، بأنني لست الوحيد الحامل لهموم الدنيا والآخرة، لست طفلا / شيخاً ضائعاً في غاب ولا معتوهاً يباح رجمه، بل كائناً حياً، باحثاً عن استكمال هوته الإنسانية، مُتورطاً في حلم شاسع يفوق قدراته و يتجاوز إلى أبعد الحدود البُرهة الزمنية التي قُدِّرَ له أن يعيشها.

مقتطف من القراءة العاشقة (دار ورد للنشر. دمشق. 2010)

حوار مع محمود عبد الغني

أنت تمتهن مهنة غريبة : “الكتابة”.فأنت لا تجيد شيئا غير الإنتاج الرمزي، غير تأليف الكتب والإسهام في السجالات؟ ما المنفعة من وجودك؟ ككاتب ألا تطرح هذا السؤال؟

أنا أتساءل بالأحرى لماذا نطرح هذا النوع من الأسئلة؟ أليس من حقنا كشعب أن يكون لنا كُتاَّب؟ هل الكتابة من الترف إلى هذه الدرجة حتى نطرح على أنفسنا جدواها؟ نحن على عكس ذلك في أمس الحاجة إلى الأدب والفن والفكر أكثر من البلدان الغنية والمتقدمة، والتي تزخر بعدد هائل من المبدعين والمفكرين والعلماء. فما أحوجنا للكتابة بالنظر إلى مناخ اجتماعي وحالة نفسية وتركيبة ثقافية لم نتناولها لحد الآن بما يشفي الغليل.أجرؤ على القول بأن واقعنا الإنساني لازال حقلا بكراً بالمقارنة مع وقائع بشرية أخرى تم الكشف عن خباياها الأكثر عمقاً منذ قرون. شعبنا لا زال ينتظر من سيعبر بأمانة ودقة عن معاناته اليومية وتطلعاته، عما يزخر به تاريخه الخاص من تجارب وعبر، عن خصائص طبعه، طريقته في السخرية، نوعية الأسئلة التي يطرحها على نفسه، عن تجاربه في الحب، عن هلوساته وكوابيسه. وهو أيضاً، وفي أعماقه، لا زال ينتظر من سيكون صريحاً معه، ولم لا جارحاً، في نقد بعض تقاليده ومعتقداته البالية، وكافة مساوئه ونقائصه. المغرب إذن قارة إنسانية مازالت مطروحة للاكتشاف إلى حد بعيد. وتساؤلك نابع من الأوضاع المريرة التي يمر بها المغاربة نُخَباَ ومواطنين، الشيء الذي نتج عنه احتقار مدقع للنفس، أو على النقيض نزعة استعلاء غريبة، مبنية على الرياء والخواء. إزاء مثل هذه الأوضاع والحاجيات، يظهر بجلاء أن الكتابة هي بمثابة عملية إنقاذ حيوية لذاكرة وصوت شعب حُكِمَ عليه منذ قرون بالصمت. المنفعة من وجودي؟ القول بما أسلفته كأضعف إيمان، والقيام على مستواي المتواضع بإنجاز قسطي من ذلك البرنامج الشاسع.

ما هي أسرارك كشاعر؟ ما هي أدواتك وآليات عملك في ورشتك الشعرية؟

لا أرى غيوماً من الأسرار تمنع النفاذ إلى العناصر التي تتفاعل في ورشتي الشعرية. هنالك بالأحرى مجموعة من الشروط المسبقة التي أعمل جاهداً على توفيرها : المعرفة طبعاً، التي تشمل كافة الميادين، الأدبية والإبداعية أولا بأول، ثم الفكرية والعلمية. الجانب الآخر هو الاهتمام بالتاريخ وبتطور المجتمعات البشرية، مما يسمح باكتساب الأدوات التي تساعد على فهم ما يحدث في العالم، وبالتالي في الساحة الوطنية. بدون هذا الشرط لا يمكن أن يتكون لدينا الحس المدني أو الهم تجاه الشأن العام، فنبقى جراء ذلك متفرجين على الأحداث السياسية والصراعات حول المصالح التي تدور رحاها في مجتمعنا. الشروط التي أسلفتها هي التي تحدد عنصراً هاماً في الكتابة، ألا وهو الموقف. وهو عنصر قد ترفضه طائفة من الشعراء لاعتبارات تهمها، أحترمها لتشبثي بحرية الكاتب دون أن أشاطرها البتة. أصل بعد هذا إلى عناصر أخرى ذاتية محضة، مرتبطة ببنيتي النفسية وقصتي الخاصة مع الحياة التي عشتها لحد الآن، باختياراتي في مراحل دقيقة، باكتشافي التدريجي لعوالمي الداخلية وحتى طريقة اشتغال جسدي وحواسي. وهي مرتبطة أيضاً، في شعوري ولاشعوري، بتردد عدد من الأحاسيس والرؤى لا أدري من أين هي آتية، مما يفرض علي الاشتغال على دلالتها ومنطقها العجيب. ومن ضمن ما تكَوَّنَ لدي إثر ذلك من حدس يشبه اليقين، يتعلق بالذاكرة. ولا أتحدث هنا عن الذاكرة الفردية بل الجمعية. لي هكذا شعور في أعمق أعماقي بأن أجزاء أو شذرات من تلك الذاكرة البشرية تراودني في المنام واليقظة وتخبرني عن مختلف مراحل تكون عجينتي الإنسانية، من الذرة ثم الخلية إلى الجنين، العضو، وهلم جراً حتى إرهاصات الوعي. في تلك الحالات أجدني أيضا شاهداً على حلقات معينة من تطور النوع البشري، المأساوية منها والمشرقة. (أشير إلى أن الديوان الذي تظهر فيه هذه التجربة بكل جلاء هو شذرات سفر تكوين منسي). ومن هنا يأتي ربما انكبابي على جانب آخر لمسألة الذاكرة في واقعنا المغربي بالتحديد. شدني في المنطلق ما لمسته أثناء تفحصي لحالتي الشخصية. لقد ولدت وترعرعت في الوسط الاجتماعي لمدينة فاس العتيقة، وكل ما عاينته وسلكته خلال تلك الحقبة، أشعر وكأنه ينتمي الآن إلى عالم غمره الطوفان. التجربة الإنسانية، الطقوس الاجتماعية والثقافية، اللغة الخاصة بالفاسيين، كل ذلك صار يختفي من الذاكرة الجماعية. لذا استبدت بي الحاجة للقيام بعملية إنقاذ( يمكن تتبع بعض حلقاتها في كثير من أشعاري وطبعاً في روايتي قاع الخابية). هذه إذن بعض العناصر التي من شأنها أن تساعد على التنقل والاكتشاف في ورشتي الشعرية.

عندما أتأمل مسارك يقودني تأملي إلى استفسارك حول مفهوم من المفاهيم الأساسية والتي تؤمن بها وتمارسها بشكل من الأشكال سواء في كتابتك الشعرية أو الروائية، هذا المفهوم هو الحداثة في الشعر على الخصوص، على اعتبار أن العديد من الجوانب في حياتنا لا حداثة فيها.

لست من المصابين بهوس ما يسمى بالحداثة، وذلك لسبب بسيط. فسؤالها لا يمثل أمامي ضمن الأسئلة الملحة أثناء الكتابة. هذا عن الحاضر. أما عن البدايات، أرى من الضروري بسط بعض الحقائق التي لم يُنتبه إليها في حينها ولم تُأخذ بعين الاعتبار لحد الآن. عندما طُرحتْ المسألة بدءاً في المشرق وبعد ذلك في المغرب، كان الأمر يتعلق بمهمة ملموسة تخص الحقل الأدبي العربي، وأقولها صراحة لا تعني مباشرة ما بدأ يُكتَبُ آنذاك بلغة غير العربية في المغرب وباقي الأقطار المغاربية. مشروع الرواد في المشرق كان هو مواكبة ما تم إنجازه على هذا المستوى في الغرب. الشيء الذي نغفله هو أن قطار الحداثة كان قد انطلق هناك منذ ما يقارب القرن عندما ظهرت عندنا الحاجة للالتحاق به وركبه. أما الكتابة باللغة الفرنسية فكانت تواجه تحديات من صنف مغاير. لقد تأسست منذ المنطلق على الرصيد الحداثي المتوفر في الحقل الإبداعي والثقافي الفرنسي والغربي عامة والذي بدأت تطرح فيه آنذاك مهام جديدة، من جملتها مسألة ما بعد الحداثة. لكن رغم الاستفادة من ذلك الرصيد، وبحكم التجربة الاستعمارية، وجد الكاتب بالفرنسية نفسه في وضع يفرض عليه تحدي الهيمنة الثقافية برفض النمذوج الغربي كشرط لخوض مغامرته المستقلة وتكوين نماذجه الخاصة بالتدريج. نرى إذن تبايناً واضحاً في الأوضاع والحاجيات تبعاً للغة التعبير. آمل أنني أوضحت بما فيه الكفاية السبب الذي يقف وراء عدم انشغالي بقضية الحداثة، على الأقل بالفهم الذي يطرح بها عادة عندنا. هذا مع العلم بأنها، بعد مرور بضع عقود على تناولها المستمر، وصلت إلى حد الاستهلاك والعقم. وعودة إلى مساري الخاص، أرى أن ما كان يهمني في المنطلق ليس يافطة أو موضة، وحتى تخلفاً أو تقدماً. لأن الأمر في تلك المرحلة من استرجاع الكرامة الوطنية كان يتعلق بأمر أن نكون أو لا نكون، فكريا و ثقافيا وأدبيا. الكتابة كانت تعني بالنسبة لي عملية تكوين ونحت للإنسان الذي كنت أصبو إليه، إنساناً جديدا متحررا من الهيمنة ومن كل ما يمت بصلة للتقليد، من كل ما كان ينفي عنا غنانا الخاص وتفردنا.

الأسئلة التي تشدني اليوم أجدها بعيدة عن هذا النقاش. إنها بسيطة، لكنها حيوية وملازمة لوظيفة الكاتب منذ البدايات: ما هي القيم المؤسسة لعمله؟ هل استوعب اللحظة التاريخية والشرط الثقافي الذي سمحت له الصدفة الموضوعية بأن يعيشها ؟ بأي شكل وبأي قسط ساهم في تطوير الأدب؟ هل استطاع فعلا ابتداع لغته المتميزة؟ إلى أي حد استطاع تجاوز الإقليمية والاقتراب من أفق الكونية؟

لي ملاحظة أخيرة في هذا الموضوع. علينا الآن أن نقيس خطاب الحداثة المألوف بنتائجه. منها الإيجابي وهذا ما لا غبار عليه، ولكن هنالك أيضاً السلبي.أنظر مثلا الإنتاجات الغزيرة التي توضع تحت شعار الحداثة. لقد دخلنا مرحلة تحولت فيها روح المغامرة التأسيسية إلى ما يشبه الردة: اعتماد قاموس لغوي متشابه، طغيان النزعة التجريدية، السقوط في بلاغية شعرية من نوع جديد تفوح منها رائحة القديم، النفور من الواقع باعتباره موضوعاً يسيء للشعر، الدفاع عن الغموض كشرط من شروط الخطاب الشعري، إقحام الفكر والخطاب الفلسفي كعنصر مرافق ولازم لـ “عمق” الرؤية، وهكذا دواليك. ونتيجة لذلك فشعرنا بدأ يفقد تلك الشحنة الحيوية وذلك الصدق اللذين بدونهما لن يستطيع أن يصل إلى عامة الناس، أو على الأقل المتعلمين منهم. من هنا “أزمة” القراء التي يتباكى حولها الجميع.

إن الشاعر الحداثي، أو على الأقل الذي يستوعب الحداثة بكل ملابساتها، هو الذي يسعى بلا انقطاع إلى تفجير اللغة حسب تعبير أدونيس. وما دام عصرنا هو عصر الأفكار، ألا تسعى إلى تفجير اللغة والأفكار وأنت في طريقك إلى النص الشعري؟

قمت فعلا بذلك مع شعراء آخرين من جيلي ضمن مشروع يختلف في المنطلق عما طرحه أدونيس. وقد بيَّنْتُ في جوابي السابق الشروط الموضوعية التي تقف وراء ذلك التباين. لكن وإن اختلفت الأوضاع والمهام في المنطلق، فالالتقاء أصبح قائما ومنطقياً فيما بعد. فالشعر العربي الحديث قام على يد رواده ومن تلاهم بعملية تسريع مدهشة للتاريخ الأدبي، إذ قطع في عقدين أو ثلاث المسافة التي كانت تفصله عن الحداثة الغربية. وهكذا وجدنا أنفسنا، بعد مرحلة العنف والصخب الأولية، أمام نفس التحديات خصوصاً وأن الأوضاع السياسية العربية وبالتالي الثقافية دخلت في مرحلة التدهور الذي نعيش أوْجَهُ في واقعنا الراهن. من ثم أطرح اليوم بأنه لا يمكن حصر التحديث في عملية تفجير اللغة. وحتى هذا الجانب أصبح يتطلب مزيداً من التمحيص. ماذا نفجر بالضبط في اللغة بشكل عام، وفي اللغة الشعرية بشكل خاص؟ التفجير ينطلق منطقياً من اعتبار أن هنالك قيودا يجب التخلص منها. فما هي تلك القيود؟ أيتعلق الأمر فقط بما تقادم من القاموس اللغوي؟ من إكراهات في قواعد الإعراب و العروض ؟ من نزوع إلى البلاغة؟ المهمة في رأيي ليست تقنية فحسب، ولو أن هذا الجانب له أهميته. علينا أن نتناولها في شموليتها باعتبار أن اللغة كما هو معروف مؤسسة قائمة الذات مبنية على ما تراكم فيها عبر العصور من خصوصيات ثقافية ومعتقدات، ومتفاعلة مع البيئة الطبيعية والإنسانية التي ولدت فيها. على هذا الأساس فالمطروح هو كيف نُقيِّمَ تلك المؤسسة وكيف نتعامل معها. إذا نظرنا إليها مثلا كما ذهب إلى ذلك البعض على أنها النواة الحقيقية والمركزية للهوية التي لا يقبل أي مساس بها، يصبح من العسير على الكاتب الذي يدافع عن موقف كهذا خلخلة اللغة بكل عزم ويقين. أؤكد هنا أن الأمر لا يعني فقط اللغة العربية كما يمكن أن يتبادر للذهن، بل كافة اللغات،(على سبيل المثال نجد نفس التصور عند الدعاة المتشددين للفرنكفونية). من هنا أطرح شخصيا تحليلا قد يبدو غريباً أو مشيناً لمن يتغنون باستمرار بالعبقرية الفريدة للغتهم ويأمرونك بتبجيلها ومبايعتها دون تردد ولا مناقشة. على عكس ذلك التٌقديس، أرى أن علاقتنا باللغة يمكن أن تكون علاقة صراع بكل مواصفاته، الهدف منه تطويعها لخدمة مشروع تشكيل ونحت لغتنا الخاصة. وبشكل آخر يمكن أن أتصور اللغة كمنزل نستأجره لمدة، له أسسه و جدرانه وغرفه وسقفه، لكننا نحن الذين نُعَمره ونختار كيفية صبغه وتأثيثه وتنظيم حياتنا الخاصة فيه، ونحدد في آخر المطاف وظيفته. في الختام، أكرر أن التحديث لا ينحصر في الاشتغال على اللغة كيفما كانت المنهجية التي اعتمدناها. علينا أن ننتبه إلى أبعاد أخرى أصبح لها في اعتقادي، ضمن واقعنا الراهن، مركز الصدارة تتعلق أساساً بالمضمون، بالرؤية، وما أسميته من قبل بالموقف. حداثة الكاتب من هذا المنظور مشروطة بسَعة ثقافته العامة، بمدى وعيه بنوعية المرحلة التاريخية التي نجتازها وبالتحولات التي نتجت عن ذلك في الوعي الجماعي، في الحاجيات المادية والروحية، في الأذواق والسلوك، في العلاقات الإنسانية، ومن ضمنها طبعاً العلاقة بين الرجل والمرأة. لا حداثة عند الكاتب إن لم يكن قد استوعب تلك المعطيات ولم يقم كفرد بثورة داخلية على البنية الذهنية والنفسية التقليدية المتأصلة فيه، إن لم يكتسب منظومة أخلاقية جديدة تجعل ما يدعيه من حداثة في كتاباته منسجما مع ممارسته الاجتماعية والمدنية، ومع سلوكه في محيطه الأكثر حميمية. وهذا الانسجام هو الذي يمنح للموقف في الكتابة صدقه ومشروعيته.

دائما عندما نتحدث في مجال الأدب نجد أنفسنا أسرى لبعض المواضيع التي اعتقدنا أننا ناقشناها وانتهينا منها. من مثل هذه القضايا مسألة الآخر، القارئ. ففي شجون الدار البيضاء و الشمس تحتضر يحضر لديك هاجس الحوار مع الآخر الذي هو القارئ في هذه الحالة. فأنت تقوده من يده وتطور معه أفكارك ولغتك. الشيء الذي يجعل من قصيدتك مليئة بالطعم، وكلما كثر الطعم، كثر الصيد.

لقد أثرتَ هنا مسألة تحظى عندي بالمركز في اهتماماتي. أنا أصبو دائما إلى جعل القارئ شريكاً لي، وإذا أمكن فاعلا في مغامرتي أثناء الكتابة. وهذا الحرص أو تلك الحاجة تنطلق من كون النتاج الأدبي أصبح ضمن النظام الثقافي العالمي الجديد بضاعة كسائر البضاعات، يخضع بدوره لمستلزمات الكسب المادي. بهذا المنطق يتم التعامل مع القارئ وكأنه زبون لا غير، وهذا التحول يؤثر بدوره على ممارسة الكتابة وعلى أخلاقيات العديد من الكتاب الذين يلهثون وراء الشهرة و الربح. لحسن الحظ أن الشعر، نظراً لتقلص رواجه بل تهميشه، قادر أكثر من الرواية مثلا على النجاة من عملية التسليع التي تحدثتُ عنها. وهذا يكسب الشاعر حرية أوفر من تلك التي يتوفر عليها الروائي المطالب من مؤسسات النشر والتوزيع بنمط معين من الخطاب الأدبي يستسيغه القارئ العجلان الذي رُوِّضَ مسبقاً على منتوج نمطي، يقضي برفقته وقتاً من التسلية عن همومه اليومية. ما أحاول شخصياً هو تكسير هذا المنطق الجهنمي وخلق شروط أخرى للقراءة تحفظ كرامة القارئ وحريته وتجعل منه في نفس الوقت مرافقا وأنيساً. هاجس الحوار مع الآخر طبيعي إذن. نحن نكتب بالمادة الإنسانية لذلك الآخر، نكتب معه ومن أجله. الشعر لا يأتي من الغيب، بل ينبت في التربة الإنسانية ويطلع منها. رغم أن الكتابة هي أيضاً بنت العزلة والوحدانية. عندما نكون أمام الصفحة البيضاء لن يأخذ بيدنا ولن يشفع لنا أحد. لكن تلك العزلة بدورها مليئة بالحضور الإنساني. عندما نكتب، نكون في نوع من الحوار الصامت مع الآخر، مع القارئ المحتمل. لذا فإن الكتابة بدون قراء، عملية مبتورة. زد على ذلك أنه عندما ينشر النص، فإنه يبدأ مغامرة ثانية لا نتحكم فيها نحن. إنها مغامرة عبر القراء والقراءات المتعددة. وهذا أجمل ما يمكن أن يحدث للنص بأن يصبح متعددا ومواكباً للحاجيات الإنسانية عبر الزمن. كل ذلك يجعلني بصراحة غير مستاء لكوني أمارس مهنة كاتب.

ترجمتْ جل أعمالك شعرا ورواية إلى اللغة العربية. هل سرقت منك الترجمة شيئا ما؟ هل ضيعت جزءا أو أجزاء من نصك؟

لا أشتكي من سوء حظ على هذا المستوى. ففي غياب المؤسسات عندنا التي توظف الإمكانيات والكفاءات اللازمة للقيام بهذه المهمة الدقيقة والحيوية، لا يسعني إلا أن أعبر عن امتناني للأصدقاء و المحبين الذين ترجموا بعض كتبي لحد الآن، وعموماً دون مقابل مادي يذكر. هذا مع العلم بأن المادة التي لم تنقل بعد إلى العربية تناهز تلك التي ترجمت. لكنني أقابل هذا النقص بالعناد المعروف لدي. فلن يهدأ لي بال حتى تكون أعمالي برمتها في متناول القارئ العربي. مؤخراً، انطلقتُ في هذا المشروع مع دار ورد السورية وتمت إعادة نشر عدد من الأعمال التي قمت بمراجعة دقيقة لها حتى في بعض تفاصيل ترجمتها. تم كذلك نشر كتابي الأخير شاعر يمر ولأول مرة بالعربية والفرنسية في نفس الوقت. هذه العملية تكتسي أهمية قصوى بالنسبة لي لأن القليل من الأعمال التي نشرت لي في الماضي نفذت منذ زمان، مما يشكل الانطباع بأنها أصبحت غائبة. لي إذن طموح في أن يجدد القارئ معرفته بما نشر لي من قبل( أو يكتشفه بالنسبة للجيل الجديد) وأن يستدرك ما ضاع منه لعدم ترجمة الأعمال المتبقية. لكم عانيت، في العقدين الأخيرين، من هذا الوضع الذي جعل مني إشاعة أدبية أكثر من كاتب يقرأ فعلا وبانتظام مواكب لانتظام إنتاجه.

أما عن “الضياع” إثر الترجمة، فهو يبقى في رأيي نسبيا مقارنة مع الكسب. ولربما أن أهم كسب في نظري هو ما قد تنقله نصوصي المكتوبة أصلا بالفرنسية إلى اللغة العربية من صيغ ودلالات وإيقاعات وأنغام غير اعتيادية في لغة الضاد.وأملي هو أن ينتبه لذلك القارئ العربي المتمرس والمتسامح أيضاً تجاه بعض التفاصيل التي لا تمس جوهر النص. أشير في نفس السياق إلى أن القارئ الفرنسي مثلا واع تمام الوعي بما تكسبه معي لغته الأم بفضل حضور اللغة العربية الطبيعي عندي أثناء الكتابة وتشغيلي لمخيلتي الثقافية الأصلية في نفس العملية. وعموماً، أستطيع القول بناء على تجربتي الطويلة في مجال الترجمة بأن الربح الذي نجني منها هو ربح حضاري فوق كل شيء. إن الترجمة أسمى شكل للتقارب والتآلف ما بين الثقافات، وحركة الترجمة في أي حقبة تاريخية وفي أي منطقة من العالم هي إحدى المؤشرات الدالة على مستوى التقدم المجتمعي والازدهار الحضاري لأي شعب. لو أردنا أن نقيس حالتنا في المغرب (وحتى في باقي العالم العربي الآن) بهذا المقياس لاستبد بنا الغم،  واستدعينا النائحات.

 ما هي نصائحك ووصاياك للكتاب الجدد، على طريقة فارغاس يوسا وريلكه، إذا صح أن في الكتابة وصايا وصائح؟

– كُنْ وفياً للكتابة بحضورك اليومي وبقبولك الطيع لكافة متطلباتها. ضَعْها في المركز، ونَظِّمْ حياتك على هذا الأساس.

– اعملْ على التحلي بقيمها: اليقظة المستمرة، السّعيُ الدؤوب، الصدق مع النفس كشرط للصدق مع الآخرين، السؤال الذي يعلو على الجواب، الرفق بالكلمات الجريحة.

– لا تأْبَه بالموجات الصاخبة والعابرة. إزاءها لا تتردد في أن تكون “متخلفاً”.

– اجتنبْ السلطة، كيفما كانت. وإن هي حاولت امتصاصك، قاومها مهما كان الثمن.

– أكتبْ بقدر، واقرأ بقدرين.

– القواميس ليست إلا مقابر للكلمات. ازرعْ فيها الحياة.

– احترسْ من اللغة الجاهزة. لا تبايعها. صارعها، قصد إبداع لغتك الخاصة.

– تجنبْ الشعرية إن كنت شاعراً، ولا تتخل عن معين الشعر إن كنت روائياً.

– كنْ أشَدَّ نُقّادك.

– انظرْ لما تكتب كرغيف متواضع مُعَدٍّ للاقتسام. اعتَبِرْهُ مِلكاً عميماً وليس خاصاً.

– لا تَبْقَ سجين محيطك. اخرجْ، غادرْ، ابتعدْ. لا تأبه بالحدود ولا تخف من الضياع، فالأرض كلها وطنك، والبشرية كلها شعبك.

– في كل ما تقوم به وأينما ارتحلت، لا تنس من أين أتيتَ: الأرض- الأم التي أنجبتك، سلالتك الإنسانية.

– حتى لو أصبحت شيخاً، لا تُفَرِّطْ في الطفل الذي كُنتَهُ، وفي أحلام الشباب.

مقتطف من القراءة العاشقة (دار ورد للنشر. دمشق. 2010)
ترجمة روز مخلوف

بلدي العزيز

لقد داهمتَ حياتي وأنا طفل. كانت المظاهرة تهدرُ على بعد مئة متر من الحي الذي يقع فيه بيتُنا، والمتظاهرون يهتفون يحيا المغرب! يسقط الاستعمار! يعيش الاستقلال! كلماتٌ كان لها وقع المغناطيس في نفسي، وهتفتُ بها بدوري قبل أن أغوص وسط الأمواج الهائجة للمتظاهرين.

إذا كنت حتى اليوم أذكِّر بتلك الواقعة، فلأنها ما تزال ترنّ في ذاكرتي مثل فرقعةِ شارة انطلاق. ما الذي حدث؟ بعد أن شبَّهْتُ اسمكَ الذي تلهج به الحناجر بحماس شديد، بنوعٍ من السمسم، حملَتْني خطواتي إليكَ. ودون إملاء من أحد اجتزتُ عتبةً، ولم أفعل ذلك برفقة والدي أو واحدٍ من أخوتي أو من رفاق اللعب، بل مع آلاف من أشخاص مجهولين لم تكن تربطني بهم غيرُ بضع كلمات سحرية كنا نهتف بها موقَّعةً بصوتٍ موحَّد.

بعد قليل دوّت طلقات نارية، لقَّم العسكر بنادقهم وارتدَّت الأمواج البشرية بعنف. رفعتني إحداها ثم انغلقتْ حولي مثل مِلْزِمة.

أثناء الدقائق القليلة التي استغرقتْها تلك التجربة، انتقلتُ من حالة انشداه إلى حالة ذهول لوقوعي في الفخ، ثم إلى إدراك واضح جداً بما يمكن أن يمثله الموت لكائنٍ حيّ. أحسست بحاجة غريبة إلى تركِ كل شيء مرتَّب ورائي، ثم فكرتُ بكل فردٍ من أقربائي، والشيء الأغرب هو أنني طلبتُ الصفح من أمي. لا بأس من القول بأن الطفولة انسحبتْ مني قبل أن تغشى العتمةُ دماغي.

لم أنقم عليك وأنا أعاين هذه النتيجة المخيفة. فما يقع لي معك من حوادث مزعجة وغير مزعجة، أمرٌ ينتمي إلى الأسرار، وإذا نجوتُ منها بمعجزة، فلأنك بعد أن التقفْتَني وابتلعتَني، أخرجْتَني إلى العالم من جديد. ذلك هو مَرَدُّ تلك العلاقة العضوية بيننا، التي ستسير على نحو لا يخطئ في المراحل القادمة.

تأخَّر الاستقلال في المجيء، ثم جاء. بعد احتفالات دامت بضعة أسابيع، أو بضعة شهور كحد أقصى، رحل الموسيقيون والراقصون ولاعبو الخفة وبائعو الأشربة السحرية. لم تنفتح السماء على نحو استثنائي كما في ليلة القدر. لا بدَّ أن المَنَّ المنتظَر قد سقط في وضح النهار وذهب مباشرةً إلى جيوب بعض الشُّطّار شديدي الاطِّلاع على نزوات السماء وعلى سهولةِِ بيعِ العرَّافين وشرائهم. في المدينة التي ولدتُ فيها، حيث كانت الآمال المرجوّة من أكثرها عنفاً، استُؤنِفت الحياة السابقة، رماديةً في أغلب الأحيان، لا وردية. مَن، من بين أهلي كان بمقدوره أن يعلمني بوضوح بأن ما عشناه جماعةً كان أشبه بإجهاض، وأن باب المستقبل الذي بالكاد انفتح، كان بصدد الانغلاق من جديد؟ لكنني، حتى دون أن يعلمني أحد بذلك، كنت أشعر بضيق عميق. إذا كانت ذاكرتي قوية، فإنّ نوبات الاختناق التي بدأت تنتابني أثناء النوم، تعود إلى تلك الحقبة. كان أثرها يستمر وأنا مستيقظ لشدة حنقي من قلة المعرفة وقلة العون الذي يمكنني انتظارُه من محيطي. كان شعوري بعدم الفهم ينتهي بي إلى عزلة كاسحة.

هكذا عُزفتْ موسيقى مراهقتي على آلةٍ ذات أسنان منشار. وبصفتي حيواناً اجتماعياً، كنتُ الشيءَ وعكسَه: في الظاهر حياتي مرتَّبة، وجهودي ممتَدحة في المدرسة الثانوية، وليست لي تصرفات رعناء تُذكَر، أما في الخفاء فقد كنت أستغرق، مباشرةً بعد أزمة صوفية طفيفة، في حمّى إداناتٍ للنظام المستتبّ القائم من حولي، والذي تعيشه الأكثرية الساحقة بوصفه النظام الوحيد الممكن والقابل للتخيُّل. إدانات تشمل كل شيء: الأعراف والتقاليد، الممارسات والمعتقدات الدينية، الموروث الخرافي، مواطن الخلل الاجتماعي، خواء الأفكار. اتسع الرفض حتى شملَ الأغذية، بما فيها أغذية الروح. مثل كُسكُس أيام الجمعة، وحساء رمضان، وأطباق الفول والعدس في أيام الفاقة، والموسيقا الأندلسية التي تقدَّم مع كل شيء، والأحاديث النبوية التي تستخدم كيفما اتفق. كأن شعاري آنذاك كان: وحدي ضد الجميع! ولو أنني كنتُ أمارس تمردي رفقة بضع أوغادٍ من معارفي.

لا يوجد أي سر وراء “ضلالاتي”. فقد كانت المدرسةُ قد وضعتْ أسُسَها، وأكمَلََ شرَهي للقراءة في ذلك العمر الغضّ، الباقي. أضِفْ إلى ذلك، بلا تواضع كاذب، ملَكةَ ملاحظةٍ عزَّزها ميلي إلى الوحدة.

لا بأس من القول بأن علاقاتي معكَ يا بلدي العزيز قد تدهورت بعض الشيء. فبما أنكَ اعتدتَ على التعامل مع جماعات أو مع المجتمع ككلّ، يصعب عليك قبول احتمال أن يتصوَّر فرد بسيط رابطةً شخصية معك، وأن يكلّمك بلا كلفة، في الوقت الذي كان هذا هو بالضبط ما أحتاج إليه في عمرٍ يكون الانزعاجُ الذي نكابده حيال ما هو خارج أنفسنا، انعكاساً لضيقٍ أشدّ نعيشه داخل أنفسنا. ولكنه صحيح أن علم النفس ليس ما تَبْرَعُ فيه، ولا دفق المشاعر. إنك تدع أبناءك ينمون في تربة تعتبرها التربة المثالية من أجل إعادة إنتاج قيم وسلوكات مروَّضة منذ قرون. لستَ بستانياً مطَّلعاً بما فيه الكفاية على التغيرات المناخية الجذرية أحياناً، ولا متيقِّظاً بما فيه الكفاية لكي تميِّز البراعم الهشة وتلك المفرطة في النمو. ثم إنه لا داعٍ للتذكير بمصيبة الجفاف الدوري الذي تعاني منه.

كبرتُ كيفما استطعتُ، مفتقراً للاهتمام والرعاية، ولستُ في النهاية مستاءً من اضطراري للاعتماد على قواي الخاصة وللتكيُّف مع ظروفٍ أقرب إلى العوز. لا تستغرب إذن إذا نمَوْتُ بشكل منحرف وبدأتُ أُبرْعِم قبل أواني، وإذا اكتسبتُ وعياً بنفسي منفصلاً عن الوعي الذي كنت قد كوَّنتُه بالآخرين جاعلاً نفسي في وضع لا يستند بشكل مباشر إلى دعامة، قياساً إلى أفكار وممارسات الآخرين عامّةً.

بدأتِ الفكرةُ التالية مشوشة، ثم بدأت تتضح شيئاً فشيئاً إلى أن فرضت نفسها علي: ما كنتَ تقدمه لي منكَ بوصفهِ المعيارَ والطموح، بل المثالَ المكتمل الذي يجب بلوغُه، ربما لم يكن سوى إمكانية من بين إمكانيات أخرى، وليست بالضرورة تلك المشتهاة أكثر. ومن جهته، كان العالم الذي أكتشفه داخل الحرم المدرسي والكتب التي ألتهمها، يقدم لي خيارات من طرق التفكير، واختبار المشاعر، والعيش في المجتمع، وإدراك العلاقة مع بلدٍ ما، والنظر إلى ما ورائه نحو العالم، كما أنه، وهو شيء مربِكٌ أكثر من هذه الانفتاحات، كان يتيح لي إمكانية الخيار الحر الذي يصل إلى مستوى الحق.

من المؤكد، وهو ما أراه الآن مع فاصل المسافة الزمنية، أن العالم الذي كنتُ أكتشف ملامحه في ذلك الوقت ليس بعيداً عن العالم الافتراضي الذي يميل الشباب جماعاتٍ إلى الاستغراق فيه اليوم .

بهذه الأمتعة الفكرية وبتنهيدة ارتياح شديد، غادرتُ أسرتي والمدينة التي شهدت ولادتي كي أذهب للدراسة في العاصمة.

كانت الستينات في بداياتها المتلعثمة. ولقد أكدتْ لي إرهاصاتُ التغيير الذي وجدتُه يمضي في الرباط بالاتجاه نفسه، أكدتْ لي سريعاً ما كنتُ أعتبره انتفاضةًً ضد بُنيانك الثقيل وضد وسائلك التي عفا عليها الزمن.

كانت الدوائر التي تتجلى فيها هذه الإرهاصات، مقتصرة على بضع مجموعات من الطلاب وتجمعات الفنانين. لكن الرباط بدت لي بلداً آخر بالمقارنة مع مدينة فاس. فمن المتاهة الرتيبة والشديدة المراقبة خرجتُ إلى مدينةٍ مفتوحة يزداد فيها الإحساس بالفضاء الرحب بفضل المحيط الذي تستند عليه بظهرها. من ناحية أخرى، كانت هذه تضم خليطاً من السكان ذوي الأصول والمعتقدات المختلفة وتعيش بإيقاعٍ تحرَّرَ من تلك الساعات المثقّلة بالرصاص التي كانت ساعاتُ الحائط العتيقة في مدينة مولاي إدريس تكرُّها بلا نهاية. كنت أستطيع أن أخرج وأعود على مزاجي، وأن أسهر إلى وقت متأخر إذا ارتأيتُ ذلك دون تقديم كشف حساب لأحد. وكنت في الحقيقة أكتشف أن النهار الحقيقي والأكثر إثارة، هو الليل.

كانت السمة الكوسموبوليتية الراسخة لحي “الأوسيان”، تجتذب طبعاً جماعةَ المتحولين ثقافياً مثلي. وكنا نلتقي في حانات التاباس2، وتغتني السجالات، بالمعنى الفلسفي للكلمة، وسط هذه الجمهرة من الناس، ويتم جرد وتحليل آخر أخبار روّاد الأدب والفن الطليعيين عبر العالم. كان هذا أو ذاك من بيننا يحمل دوماً في جيبه، دون أن يظهر عليه ذلك، نصاً من تأليفه، في حال اتجه اهتمام الجماعة إلى إبداعات أفرادها.

في مرات نادرة، كنا نجلس إلى طاولة في الخارج لكي نأكل أطعمة مشوية على السيخ، وننصت للحفلة البوليفونية من اللغات، الصادرة من الطاولات المجاورة، وهو ما كان يبدو لنا أمتعَ مظهرٍ في الحي. إلى هذا يجب أن نضيف الأرصفة التي تعدّ مسارح حقيقية في الهواء الطلق. كنا نشاهد مواكب تتقاطر فوقها من حسناوات صارخات الجمال، وأشخاص يعرجون مقدِّمين إصابتَهم بطريقة مدروسة، ولاعبي خفة من الدرجة الدنيا، ومجاذيب في حبِّ الرب يتكلمون بلغةٍ مستَعِرة، وبائعين يبيعون ما هبّ ودبّ، وأطفال أرِقين، ومثقفين ثملين وفخورين بثمَلهم.

كان مركز المدينة، حول شارع محمد الخامس، يضم بضع أماكن تشتد فيها حمّى اللقاءات والنقاشات أثناء النهار. هناك أيضاً توجد عدة مكتبات بدأتُ أتردد إليها منذ قبضتُ نقودَ منحتي الأولى كطالب. كانت المكتبة مؤسسةً جديدة عليّ لأنني لم أعرف في فاس معبداً للكتاب غيرَ المكتبة العمومية في “البطحاء”، التي تعود أحدثُ مقتنياتِها إلى آخرِ عهد الحماية.

رحتُ أُجري عمليةَ تحوُّلي، منساقاً بكامل إرادتي إلى قلب هذه الدوامة التي جعلَتْها علاقاتي الأولى مع الجنس الآخر واكتشافُ ألاعيب الغرام ومُتعِ الجسد، مُسْكِرةً أكثر. كان الحاجز الحديدي المزروع في صدري أثناء المراهقة، بصدد الانصهار. رحتُ أتخفَّف من الوطأة الساحقة للممنوعات ومن عارِ خرْقِها. كان جسدي نفسه يتحوّل. فلم يعد قفصاً لُجِمتْ فيه إفكاري ورغباتي ونزواتي. بل غدا امتداديَ المحسوس، والمنفِّذَ المطواع لرقصِ روحي والمستفيدَ بامتنانٍ من نشواتي.

بفضل شرطِ الحرية المسبق هذا، أصبحتُ أخيراً موجوداً وأعرف بأنني موجود. رحتُ أسمح لنفسي بالتفكير بالأشياء وبنفسي، بالكلام عن “حياتي” في الماضي بالتأكيد، إنما أيضاً في المستقبل. ما الذي سأفعله فيها، كيف، وأين، ومع من؟

وبالطبع، كنتَ بانتظاري عند المنعطف.

كنتَ قد تركتَني مثل حلزون في ماء مالح، أُفرِزُ بلا طائلٍ لُعابَ هرطقاتي، ثم أُطهى على مهل في صلصةِ إحباطاتي قبل أن تضعني في فرنِ الحرية الفاتنة وأنت تسقّيني من وقت إلى آخر بعصيرِ نقْمَتي الذي كنتُ أسرِّبه لكي أَطْرَى وأغدو قطعةَ لحمٍ فاخرة لأجلِ الغول الذي لا يَشبع والذي يُدْعى التاريخ. لقد لعبتَ الدورَ الاعتيادي الذي خصصه هذا لكل بلد في ظروف محددة، موهِماً هذا البلد بأنه مهدد في وجوده. كيف كان لي أن أنقم عليك في الوقت الذي رحت أتطلّع فيه المواجهة مع ذلك الغول، ورحتُ، مثل عوليس، أشحذ في السر ركاستي التي أحلم بغرْزِها في عينه؟ لِمَ لا يستطيع كائن بشري، في لحظة معينة من حياته، أن ينجو من كافة عمليات الأقلَمة، وفي صحوة ضميرٍ تقترب من الإشراق، أن يصبح سيِّدَ مصيره؟ في حالتي، أصبح النداء هاجسياً. رشقةً وراء رشقة، راحت الأسئلةُ تهاجمني: “الحرية بالنسبة لي، إنها شيء جميل، ولكن ما الذي تعنيه بالنسبة للشعب القابع في الهوة التي أحاذيها، الشعب المخدوع والمخبَّل والمسحوق، بلا حول ولا قوة؟ ماذا عن حلم الحرية التي قاتلَ من أجلها؟ عن الكرامة التي اعتقَدَ بأنه لمَحَها؟ من هم المعتَدون، من هم مدمِّرو الرجاء؟ وبعد فضحِهم، ما السبيل إلى هزّ سلطتهم وإسقاطها؟ وبأي نظام عادل يجب استبدالها؟ ومن سيكون صنَّاعُ هذا الانقلاب وهذا الإحياء؟ ما الذي سيتوجب عليهم إعطاؤه من أنفسهم؟”

وشيئاً فشيئاً، رحنا نلقي بأنفسنا في الماء سواء كنا نعرف السباحة أم لا.

وألقيت بنفسي في الماء.

يا لها من سنين مجنونة ورهيبة! لا أظن أنني أجافي الحقيقة إذا أكدتُ بأن علاقتي بك وصلتْ، خلال تلك الفترة التي قارَعَ فيها القلمُ السيفَ بشدة، إلى المستوى الحميمي، واكتسبتْ كثافةً تُقارِب الشغف.

هنا، لا بأس من التذكير بأنه، قبْل محنة النار التي تعرضتُ لها، كانت هناك تلك المغامرة الفكرية والفنية المدهشة التي خضتُها مع بعض زملائي والتي تجلّى إنجازُها الكبير في البحثِ ثم العثور، فيكَ، على مناجم مهمَلةٍ للنزعة الإنسانية وعلى مصادر للنزعة الكونية طال إنكارُها. عند مرور ذلك الشهاب الذي يحمل اسم “أنفاس”، توقف الصدام بيني وبينكَ لأنني تأكدتُ بأن بلداً مختلفاً يقبع خلف واجهتِكَ المصطَنعة، عذراءَ فراشةٍ تستعد للانطلاق وشق طريقها إلى العالم. لقد أعطيتَني أخيراً جناحين.

لم ترُق العلاقة الطيبة لـ “سادةِ الوقت”، فقرروا، بِساطورِهم الذي كاد يقطع لي يديّ، أن يفصلوني عنك الزمنَ اللازمَ لكي تنطفئ الشعلةُ ويطالَ القلبَ سُمُّ الشكِّ. كان جهداً ضائعاً. وطوال المحنة ، لم تخْبُ تلك الشعلةُ الداخلية، وبفضل نشاط الذهن المستمر، استوعبتُ أنواراً أخرى.

سأقفز إذن فوق تلك الصفحات الرمادية المُرّة من حياتي فلا أَستبقي هنا إلاّ اللُّطف الذي أحطْتَني به حين كنتُ محاصراً بالظلام. كان الحبُّ والشِّعرُ مبعوثيكَ المواظِبَيْن. كان لكل منهما أسلوبه في كنسِ العتمةِ من حولي وفي الكشف عن نفسيهما معبِّرَيْن عن هذا الطلب المحيِّر: أَعِدْ خَلْقي! لذا كان أمامي دوماً عمل كثير أقوم به.

اضطرّ سجّانيَّ لإطلاق سراحي لأن التقنيات التي جُرِّبت عليَّ من قبل كَسَّاري الرؤوس التابعين لهم، لم تُجدِ نفعاً، ولأنّه تبيَّن أنّ الاستضافة التي فرضوها عليّ مكلفةٌ لهم أكثر مما يجب بالنظر للصورة التي كانوا يحاولون إضفاءها عن أنفسهم. ولأنهم جهَّزوا الوضعَ في الخارج من أجل احتواء أذايَ وتحييده، فقد قلَّتْ مصلحتُهم في الاحتفاظ بي. اعتُمدَ النظام الذي يسيِّر السجن المادّي كنموذج سياسي واجتماعي. طُبِّقَ عنفُه على الشعب بأكمله وعلى العُصاة الناجين، بنوع من المكر المضاف. هكذا كنت أستطيع التنقَّل دون عوائق ظاهرة، وطواف مئات الكيلومترات، وكان الأمر كما لو أنني ما زلتُ أذرعُ باحة السجن بخطواتي. كان باستطاعتي كتابة القصائد والقصص والمقالات ونشْرها كيفما اتفق. ولكن كان لدي أثناء كتابتها، شعورٌ بأنني أخطّها فوق ورقِ إدارة السجن الرسمي، ولم ينتابني شك لحظة واحدة بأنها ستتلوث مِن عينِ الرقيبِ المُتَمَتْرِس ويديه. كنت أختنق أكثر مما وراء القضبان.

لقد سندْتَني في أشد ظلمات الليل حلكةً، ولكنك لم يكن بمقدورك أن تفعل الشيء الكثير من أجلي لأننا، أنت وأنا، كنا في الوضع الصعب نفسه. تلك السنوات التي تسمى بسنوات الرصاص، رصاص طلقاتٍ حقيقية في الواقع، سنوات الجمر الكهربائي الذي يخرق اللحم، والتفريق بالفأس، والمعتقلات الشائنة، سنوات الصلف والاختطاف، اللغة السوقية والانهيار الأخلاقي، سنوات النذالة وأفعال المقاومة اليائسة، سنوات الريح المجنونة والخسوفات المتكررة، كانت تلك السنوات مدمرةً بالنسبة لكَ. لقد أضعَفَتْ لك صحتكَ. فسقطتَ في ما يشبه انحطاط القوى وانغلقتَ على نفسك. من جانبي، لم يكن حالي أفضل بكثير. فالحرية العجيبة التي عبثاً حاولتُ أن أجعلها تُعطي ثمراً، باتت بطعم الرماد وبدأتُ بصراحة أجدها طويلة. أصبح حالنا، أنتَ وأنا، مثل حالِ زوج تعرَّضَ للجروح نفسها، ويخشى أن يزيد الوضع سوءاً إذا تكلَّم عنها. لا، لم يكن ذلك كبرياءً في غير محله، بل حرصاً على عدم الضغط على إرادة الآخر ومراعاةً لألمه الصامت.

منذ ذلك لم يكن أمامي من حلٍّ سوى الابتعاد.

هل أرحل لكي أحيا من جديد قليلاً؟ لكي أعيد بناءَ شيء ولو كان مؤقتاً؟

كان يوجد شيء من ذلك ويوجد عكسُه بالضبط: الرحيل من أجل تلبية نداءِ التجوال بلا نهاية، الحاجة إلى الضياع، النزوع إلى الاضمحلال التام.

المنفى في البداية رواحٌ ومجيءٌ بين هذين القطبين. تعايُشٌ بين الارتياح والضيق. ثمَلٌ بالحريات البرّية وشعور بخسارة لا تعوَّض. يشعر المنفيّ بالنقمة على العالم بأسره ويعذِّب نفسه بوحشية.

يمكن معرفة المنفيّ، عن بُعْدٍ، من خلال مشيته، مشية طير كسر جناحاه واضطرّ صاغراً أن يمشي، وعن قرب، من خلال نظرته التي تكنس صوَراً غيرَ مرئية ثم تتجمدُ فجأةً فوق تفصيلٍ برزَ من الواقع. تراه في أغلب الأحيان يرتدي ثياباً واسعة ً يسبح جسمه بداخلها، ويحمل، حتى عندما يخرج لشراء الخبز، محفظة جلدية تالفة تقريباً. يدخّن بشراهة، ليس بدافع الرغبة، بل كأنما من قبيل الواجب. كلما نظر إلى ساعته، ترى الخيبة على وجهه، وينظر إلى الأعلى كأنه يناشد السماء أن تكذِّب له تَعاقُبَ الساعات الرتيب. في المترو لا نعرف كيف يتدبَّر أمره دوماً لكي يجد مكاناً للجلوس، لن يستطيع شيءٌ أو أحدٌ أن يزيحه عنه قبل نهاية الخط. عندما يصل إلى “منزله”، يقرأ الكتيِّبات الدعائية التي التقطها في علبة بريده، من ألفِها إلى يائها، ثم يجلس مرتاحاً قرب الهاتف، وظهره إلى النافذة…

لو أنني راقبتُ نفسي من الخارج خلال الشهور الأولى من وصولي إلى فرنسا، لَتَعرَّفتُ على نفسي في هذا البورتريه الذي يتأرجح بين الكاريكاتير والتضامن. لحسن الحظ أنه لم يتح لي وقت كثير لكي أتفحص نفسي في مرآة. الشهرة التي سبقتني سرعان ما جعلتْ مني شاهداً يُلتَمَس من أجل صيانةِ شعلةِ معاركَ معينةٍ، أو موضوعاًً مثيراً للفضول يتهافت البعض على تفحُّصه بالعدسة المكبِّرة. كثر الطلبُ عليّ من أجل لقاءات ومداخلات منوعة، وجعلوني أعبر البلد الذي استقبلني من طرف إلى آخر، ومن هناك جعلوني أطوف العالم طولاً وعرضاً.

هل فعلتُ ذلك لحسابي لكي أعوِّض على الأقل “الزمن الضائع” الذي سُرق مني أثناء سنوات السجن؟ هل أسكَرَني اتساعُ عالمي هذا الاتساع المذهل، وكوني مركزاً لهذا القدر من الاهتمام الذي لا يغيب عنه الإعجاب أبداً؟ سأكون كاذباً إذا أنكرتُ بأنني شعرتُ بدوخةٍ بسبب الانفعالات غير المتوقعة، وأنني تذوّقتُ متعاً تُعتبر بحكم التعريف “أنانية” لدى دُعاة النقاء السلوكي، واكتشفتُ في نفسي، بالمباغَتة، رغباتٍ ونوازع وافتتانات وقابليات وطاقات كانت إما في حالة سُبات، أو أنها خُنقت في المهد أثناء حياتي السابقة. على أية حال، لا أعرف إذا كنتُ أخدع نفسي إذا أكدتُ بأنكَ أنتَ، يا بلدي العزيز، الذي كنتَ تدفعني لاستقبال المجهول بذراعين مفتوحين، وإعادة النُّبْل للرغبة، وتحطيم آخر قيودي، وتوسيع حدودي، وإسكِات اللازمة المملة للتعاسة بداخلي، والاحتفاء بشراراتِ الفرح الخالص الثمينة. كففتُ عن عدِّ المواقف التي كنتُ أكشف فيها علامةً تدل على حضورك، وبادرةً تُواكِب اندفاعاتي وأفعالي، بحيث أنني في النهاية تخيَّلتُ لكَ وجهَ أمٍّ تنظر بحنان إلى خلاعات ابنها وتجِد لها مبررات وافرة، كونُها باتت تعود عليه بالفائدة.

كنا قد وصلنا في علاقتنا إلى مستوىً من الشراكة لا يُبنى إلاّ على حدٍّ أدنى من الهناء. يا إلهي، كم كان مريحاً أن تتكلم بحرية، وتجتاز الحدود بالسهولة التي تجتاز بها عتبة بيتك! كنتُ، في تنقلاتي، أستطيع الدفاع عن قضيتنا، وكان الناس يَفهمونها. كنتُ أمارس ما اعتدتُ أن أسميه “دفاع وإيضاح”، مشترِطاً القيام بذلك عن طريق لغتي المفضَّلة، لغة الشعر.

وبهذه المناسبة، كان للفراق أثر جيد لم أتخيله في قلق البدايات، حين كنتُ فريسةً لحالة نضوبٍ قاتل في مصادرِ إلهامي. لقد أزالَ الحواجزَ التي تقف بوجه الكتابة من داخلي على نحوٍ مدهش. رحتُ أكتب بغزارة وتقريباً بلا انقطاع، دون أن أرفع رأسي. لم يعد المكان الذي كنتُ أتواجد فيه سوى فقاعة ضوء وُضعتْ في مكان ما من الفضاء، ولم يكن لضوئها، الطبيعي أو الإصطناعي، من وظيفة سوى إضاءة الصفحة التي أكتب عليها. من أين كان يأتيني ذلك المَنُّ؟ وإلى ماذا ولِمَن يعود الفضلُ في مجيئه؟ الفضل، وهو ما أدركه الآن على نحو أفضل، للعلاقة الجديدة بيني وبينكَ، المبنية، هذه المرّة، ولْنقُل الأشياء كما هي، على ميثاق أدبي. نعم، لقد تبيَّن أن الكتابة هي وسيلتي المُثلى لكي أسكُنكَ وأدعَكَ تسكنني كما تشاء. لقد أخذتَ راحتك أساساً وبدأتَ تنظّم إبداعي الفني تبعاً لِما امتنعتَ طويلاً عنه، وما أنكروه فيك وما كنتَ تتشوق لكي تخصّ نفسك به وتهتف به بلا تحفّظ.

لقد لزمكَ وقتٌ طويل لكي تدرك بأنّ ما أطالبك به منذ ثوراتي الأولى، كان بالضبط هذا الفعل السيادي بأن تكون حاضراً في العالم.

لقد اجترح الفراقُ معجزتَه الصغيرة. تَحرَّرنا من الطاعة، من التملُّك الأعمى، من الضغائن ومن الهذيانات العاطفية. بلغنا سن الرشد حيث الحرصُ على الآخر هو حرصٌ على حريته أولاً، كيلا نقول سعادته.

بالنسبة لي، كانت الرواية التي تنطق بنبرةِ المنفى التراجيدية تقترب من نهايتها. كنتُ قد عملتُ على مادّتها بما يكفي لكي أصوغ نصاً جديداً يرقص على موسيقا مختلفة. هذا يعني أن مفهوم المنفى لم يعد يبيِّن طريقة تَموضُعي في الشرط الإنساني. كنت قد سلكتُ طريقَ شعبٍ مهاجر لا يبحث عن أرض، سواء كانت أرضاً معروفة أو مجهولة، بل يبحث عن نزعة إنسانية قيد التنظيم. لأن الأرض، وهذه هي قناعتي لحظةَ كتابتي لهذه الكلمات، تُعطى مرةً وإلى الأبد. وتعود ملكيتُها لك حتى عندما تُمنَع عنك أو تُسحَب من تحت قدميك. أما النزعة الإنسانية فهي لا تُعطى لك تلقائياً ولا تعود ملكيتُها لأحد. إنها دوماً مشروعٌ قيد الدرس عليك أن تستحقّه وأن تفوز به باستمرار.

أعتقد بأنني عرفتُ جيداً مواطن العتمة ومواطن الضوء، مواطن العظمة والصَّغار، الهمجية والتحضُّر الكائنة في فرعَيْ الشجرة البشرية اللذين احتككتُ بهما حتى الآن. هذا ما جعلني أستقر مؤقتاً في منطقة واقعة بينهما، لكي أتمكن على نحو أفضل من تقييم الشرخ الذي يفصل بينهما وحالة الجذور التي تجمع بينهما بعيداً تحت الأرض. سطحُ بيتي موقعُ مراقبة من واجبي أن أشير منه إلى كل حركة مريبة يقوم بها مثيرو الكراهية. من ذلك الموقع أتوجه بالكلام إلى أولئك الذين يقاومون انحراف العقل، ويصونون شعلةَ اليقظة، رجالاً ونساءً في كلا الجانبين.

أقوم بهذا الواجب سواء طلبتَ ذلك أم لا، لأنني أشعر قليلاً بأنني مترجِمُ ومبعوث هذا التغيير الذي أجراه أحدنا على الآخر، تغيير يمثِّل لوحده رسالة تستحق أن تُحمَل إلى العالم.

ينتهي اعترافي في مناخ ساده الهدوء ليبدأ قلقٌ بالنهوض لأننا يجب أن نتكلم عن المستقبل.

سأرحل قريباً بالطبع، وأنتَ الذي لا يعنيه احتمال من هذا النوع، سوف تبقى. وسيستمر التاريخ بالسير بكل طيش. سيعود ويقدّم لك أطباقه الباردة أوالحارقة. وسيأتي شعراء آخرون، ليلاً، لاستفزازك والصراخ بمعاناتهم تحت نوافذك، وسوف يهرع الحشد المتزايد من المتزلّفين واللصوص، نهاراً، أمام عتبتك. ولن يبقى مخلصاً لك، من بين أصدقائك أو ممن يُفترض بأنهم كذلك، سوى أولئك الذين لم ينتظروا منك هِباتٍ سخية قط، بل انتظروا عدالةً عادلةً حقاً. معظمهم سيخونونك تبعاً للامتيازات غير المستحَقَّة التي منحْتَها لهم وبالتناسب معها بالضبط. هل ستقع من جديد تحت سطوة شياطينك السابقين؟

ما الذي تنويه أن تفعله بخصوص ذاكرة البيت المغربي ومستقبله لكي لا ينهار هذا البيتُ فوق رأس هذا الجيل القادم أو ذاك؟

لا أعرف إذا كان ما عشناه معاً سيفيد، وبأية طريقة؟ لنكن واقعيين. أنا لستُ سوى نقطة في محيطك، وهل المحيطُ يدرِك، هل يحتفظ بذكرى جميع نقاط الماء التي تكوِّنه؟ أليس كل إدراك، كما في الحياة التي هي مسرحُهُ، يتوقف على رمْيةِ زهر؟

ليت الحظ يساعدك ، يا بلدي العزيز!

مقتطف من كتاب شاعر يمر (دار ورد للنشر. دمشق. 2010 )
ترجمة روز مخلوف

وداعاً محمود

لم أتوقع أن يكون للرواية التي أنهيتُها أخيراً، لرحلتي إلى فلسطين، وبعدَها بأسابيع قليلة، امتدادٌ أليم.

الوقت نهاية يوليوز، ونحن في المغرب في منزلنا بالهرهورة قرب الرباط. نحتاج إلى عدة أيام من أجل تنظيفه وإعادة النظام إليه قبل وصول أولادنا وأحفادنا الذين يَعتَبرون قضاءَ جانبٍ من إجازة الصيف عندنا طقساً من إعادة الاكتشاف والبهجة والشراكة الظريفة.

أصبحنا في 10غشت.

زوجتي وأنا نمضي وقت العشاء عند ريتا وغيّوم، جارَيْنا اللذين أصبحا صديقَيْن لنا. ما نتوافق عليه كثير، وكالعادة، يتفاعَلُ “هاجس الأندلس” بيننا على أحسن وجه. إنه شغفٌ مشترك يزاوجه كلٌّ منا على طريقته ويغذِّيه باستكشافاتٍ تُتابَع على الجانب الآخر لمضيق جبل طارق. فوق المائدة التي نتواصل حولها، تشكيلةٌ من مأكولات ومشروبات لذيذة تمثل أطيب ما تزخر به الديارالإيبيريه، مع لمسة خاصة تعود إلى مهارة الطهي عند ريتا، المولودة في سلا، أحد الأماكن التي لجأ إليها مسلمو الشتات في الأندلس، وأصبحت لهذا السبب قطْباً في فن الطعام الرفيع الذي ينافس مثيلَه في فاس.

ريتا مؤرِّخة وغيُّوم مدرِّس فلسفة في ثانوية ديكارت. لذلك، فإن مراكز الاهتمام متوافرة بكثرة، ولقاءاتنا تعطينا دوماً المناسبة لاستعراضها من جديد، مع تفضيلِ ما يتَّصل بالمغرب، وما يتَّصل بفرنسا بدرجة أقل.

في منتصف الوجبة ينضم إلينا جاران مباشران آخران، سامية ومحمد. سامية تعمل في إحدى الوزارات وتتابع في الوقت نفسه أبحاثها للحصول على درجة دكتوراة في الآداب. أما محمد، الشاعر المبكر والعاشق للفن ومتعدد اللغات على نحو مبهِر، فهو شخص يسافر بلا انقطاع، مارس مهناً مختلفة (من بينها مهنة دليل سياحي في فاس) قبل أن يستقر في ستراسبورغ لكي يشغل فيها وظيفة القنصل العام للمغرب، العمل الذي يجبره على العيش بعيداً عن زوجته وأطفاله، ولا يسمح له بلقائهم في الهرهورة إلا أثناء العطَل. معه، تكون على ثقة بأن النقاش سوف ينتعش، فمن تبادُلِ الأخبار إلى المُسارّات، يرتفع نحو تأملاتٍ يُشار فيها إلى فلاسفة، وكتب تُقتَرح للقراءة، وتُستَحضَر فيها بتأثُّرٍ ذكرياتٌ عن فاس مدينتنا بالولادة.

لم أعد أذكر بالضبط عن أي شيءٍ كنا نتحدث عندما رنّ هاتفي المحمول. أظن أن محمد كان يكرر فكرةً دأب على الدفاع عنها، ويُفتَرَض، استناداً إليه، أن أكون أنا منفِّذَ تلك الفكرة. فهو لم يفتأ يثني على قدراتي، ويدلي بملاحظاته بخصوص حدود تجديد الفن السينمائي في المغرب، باعتباره يجد فيَّ الشخصَ القادر على القيام بقفزة نوعية في “الثقافة البصرية” حسب تعبيره، ويحاول إقناعي بالوقوف خلف الكاميرا لكي أصنع “الفيلم” الذي طال انتظاره، من نوع “تحت الأرض” لـ إمير كوستوريكا أو “حياة الآخرين” للألماني فلوريان هنكل فون دونرسمارك. لا شك أنني لطالما افتُتِنتُ بالسينما، ولكنني، في مادة الإبداع، أصبحتُ مع مرور الأيام من أنصار الفن الوحيد الذي توظَّف فيه قدراتُنا بشكل كامل، مهما كنا نميل إلى طرق أخرى في التعبير أو امتلكنا من قدرات كفيلة بتجسيدها. كان محمد يجاهد مرة إضافية لقهرِ تحفظاتي. بلا فائدة.

نهضتُ عن المائدة وانتحيتُ جانباً لكي أرد على الهاتف.

-مساء الخير، وعذراً على الإزعاج. أنا إليزابيت لوكريه من إذاعة فرنسا الدولية.

-مساء الخير.

-هل علمتَ بالخبر؟ سألتْني.

ترددتُ في الإجابة. بأي خبر؟ أغبى فكرة خطرتْ لي هي فرضية جائزة أدبية ربما منحتْ لي.

-محمود درويش مات.

-ماذا؟

-على إثر جراحة في القلب خضع لها في أحد مشافي هيوسطن، بولاية تكساس. أعرف أن هذا الخبر سيكون مؤلماً لك بالتأكيد. فقد كنتَ مترجمَ أعماله، وأحد أقرب أصدقائه.

-نعم… لا، تلجلجتُ. أعني أننا كنا متقاربين ولكن لم نكن صديقين حميمين.

-أفهم انفعالك. أقترح أن أعاود الاتصال بك بعد نصف ساعة. أترك لك الوقت لاستعادة أنفاسك.

-حسناً، أنتظر اتصالك.

تخشَّبتُ كما لو أنّ يداً عدوّةً وجَّهتْ لي بغتةً صفعةً أُضيفت إلى الصفعات الأخرى التي سبق أن تلقَّيتُها خلال الأشهر الماضية ومن ضمنها موت الرسام السوري صخر فرزات إثر نوبة قلبية، هو الذي أصبح ، مع مرور السنين، ومنذ وصولي إلى فرنسا، أقرب أصدقائي، أصبح أناي الآخر. كنا قد التقينا قبل ذلك ببضعة أيام في مقهانا المعتاد، بساحة الباستيل، وافترقنا وفي رأسينا مشاريع جديدة ووعدٌ بأن نلتقي بلا إبطاء لأجل تنفيذها. ما زالت رائحته، عندما تعانقنا، عالقة بذاكرتي. وما زلتُ أراه، في ساعات مختلفة من النهار ومن الليل، ممدداً فوق سرير الموت، وعلى وجهه ملامح السكينة. كانت زوجته عائشة أرناؤوط قد أخذتني من يدي إلى جانبه، وأذكر أنني أبديت هذه الملاحظة “هذا كل ما في الأمر إذن!” احتجتُ إلى شهور بحالها لكي أشفى قليلاً من صدمةٍ لم أتعرض لها سابقاً أبداً حتى بوفاة والدي…

من المكان الذي انتحيتُهُ جانباً لكي أرد على الهاتف، وبقيت أستذكر فيه الصفعات التي تلقيتها، خرجتُ إلى حديقة البيت. رفعتُ ناظريّ نحو قمةِ النخلة الظريفة التي تنتصب في مركزها. جاء بستانيٌّ مؤخراً وقلَّمها. قطعَ الأغصان المصفَرّة ولم يترك سوى باقة في الأعلى تشبه شعراً كثاً عصياً لولدٍ وقح. شجرة الحياة، قلتُ لنفسي، وُضِعتْ هنا لكي تساعدني على التفكير وتؤاسيني. لا بُدَّ أن تنفصل عنها أغصانٌ لكي يسري النسغُ بشكل أقوى في تلك التي تبقى، ويُعِدَّ لإزهار جديد، ثم برْعَمة ثم إثمار. لا شيء يضيع في هذه الدورة الطبيعية. الأغصان الميتة تستمر في الحياة على شكل سماد عضوي سوف يغذي التربة التي بدورها… إلى آخره. لهذا فإن عمّال البستَنَةِ، أولئك الفلاسفة المهمَّلين، غالباً ما تجدهم صَموتين. يكفيهم ما يراقبونه لكي يفهموا من أين نأتي وإلى أين نذهب، وما الذي سنؤول إليه بعد رحيلنا.

السماءُ، بعيداً فوق النخلة، مضاءةٌ بعدد لا يُحصى من النجوم. بعضها يلمع وبعضها لا يلمع وكأنه يكتفي بمرافقة الأولى، بتتبُّعها رافعاً لها ذيول أثوابها الطويلة. والقمر شبه المكتمل، يراقب بعينٍ نصف مغمضة ذلك الموكب الثابت في مكانه. للبحر رائحة قوية هذا المساء. يهيج ويزمجر، خلف المنزل، مثل ثورٍ سجين. آخُذُ نفساً عميقاً وأفرك وجهي. يخِفّ ألمُ الصفعات بعد استحضارها. لقد نسيتُ جلسةَ الأصدقاء المجتمعين. لا بدّ أنهم بدأوا يقلقون بسبب غيابي. أنتزع نفسي من أحلام يقظتي المتعددة الضفاف، وبخطوة مترنحة أعود إلى مكاني. ألبث الوقت اللازم لتناول كأسي من جديد وابتلاع جرعة كبيرة منه، ثم أعلن للآخرين النبأ الحزين، صفعة اليوم الجارحة على نحوٍ خاص.

بعدها سأتحول إلى مُشاهِدٍ بين عشرات الملايين منهم…حفل الوداع المهيب في رام الله، تُنقَل صوره بالأقمار الصناعية إلى كافة أنحاء العالم. مآتم شعبية نادرة الحدوث في التاريخ عندما لا يكون الفقيد أباً للشعوب أو رجل دولة كبير قضى وهو يمارس مهمته. من بين الكتَّاب، في فرنسا مثلاً، حظي فيكتور هوغو وحده بتكريم مماثل. لم يأتِ قلمي عرَضاً على ذكر اسمِ هوغو لأن درويش ممكن تشبيهه دون عناء بمؤلِّف قصائد “العقاب” و “التأملات” إذا وضعنا في الحسبان قامته الفكرية وحجم مؤلفاته الضخم والدور الذي لعبهُ الأدبُ على يديه في المعارك الاجتماعية والسياسية في العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين. لكن الشبَه يقف هنا نظراً للمهمة الخاصة التي استطاع شعرُ محمود درويش أن يؤديها. عند إعادة قراءته جيداً في استمرارية أعماله، نكتشف بأنه كان، لعقودٍ من الزمن، ورشةً نشَطت في إعادة بناءِ ونقلِ ذاكرة الشعب الفلسطيني، وبوتقةً أُعِدَّتْ فيها أساطيرُه المؤسِّسة وجُمعت فيها بصبرٍ الأجزاءُ المبتورةُ من شخصيته لكي تتوكَّد على نحوٍ أفضل. إذا أردتُ أن أخاطر بمقارنةٍ أخرى مع وجهٍ رمزيٍّ آخر من تاريخ الأدب، فسأذكر هوميروس وما جسَّده على الساحة الثقافية اليونانية، وفيما وراءها على الساحة الغربية.

لكن هذه الكلِّيات المجرَّدة لا يجب، في رأيي، أن تحجب أكثرَ صفةٍ كلّيَّةٍ تمسّني فيه. إنها طريقته في مقاربة اليوميّ، الأمر الذي ليس في غاية البساطة لإنسانٍ في ظروفه، أن يدور حول النواة الكامنة في الصميم ويخرقها في وضعٍ يكون الإنسان فيه وحيداً، متحيّراً، وبلا دفاع، وأن يوجِدَ، لكي يؤالفَنا مع جوهرَِ المأساة، ظاهرةَ التجاذُبِ بين الأضداد: البندقية وغصن الزيتون، الوردة والقاذورات ، رائحة قهوة الأم وروائح اللّحم المتفحِّم النتنة، الصفعة والمداعبة. وكما هو الحال مع نصوص أي شاعر آخر، يجب ألاّ تدَعَ الموسيقى الخارجيةَ لنصوصه تجتاحكَ، وذلك لكي تتمكن من التقاط موسيقاها الداخلية التقاطاً أفضل، دون إهمال سكْتاتِها، تلك الفُسحات التي تتنفس من خلالها.

خلال الأيام التي تلت وفاته، كثيراً ما قَصدني الصحفيّون لعلمهم بأنني كنت أول من ترجم أعماله للفرنسية. كانوا يَفتَرِضون أيضاً وجود علاقة صداقة بيننا تسمح لي بمعرفةِ مختلف جوانب شخصيته. استجبتُ، بطريقة أو بأخرى، لتلك الطلبات مقاوِماً شعوراً بالضيق. كنت أعرف أن أطناناً من التعليقات يتم إنتاجُها كل يوم، ترافِقُها جوقةُ النادِبات التي لا بدَّ أنه كان، في حياته، يحصي في عِدادها الكثير من الأعداء ومن ذوي النوايا السيئة. ثم إنني لا أتحمَّل خطابات المناسبات ولو كانت كلمات تأبين، وكنتُ أتمنى لو تُحتَرمَ رغبتي بالصمت، حالما تُستَشفّ.

الآن وقد انحسرت الموجة، أستطيع استحضار ذكراه دون أن يتولد لدي شعور بأنني أشارك في سباق لكيلِ المدائح يزدهي كلُّ مشارِكٍ فيه بالعلاقة المميزة التي كانت له معه ويحاول أن يستأثر بحصةٍ من الهالة المحيطة به، بل من إرثه. يجب أن أقول، مخاطِراً بتخييب الآمال، بأننا منذ بداية الثمانينات التي انكببتُ فيها على ترجمة أعماله، وهو ما أعطانا مرةً بعد مرة فرصة اللقاء والشعور بالتقارب، لم نلتق بعدها مجدداً إلا من بعيد إلى بعيد، لا سيّما عن طريق لقاءات شعرية كان كلانا مشاركاً فيها. السبب هو أن محمود لم يعد شاعراً فقط، وكبيراً فوق ذلك. فالتبجيل الذي كان يحظى به في العالم العربي جعل منه نجماً. كان حشدٌ من المعجبين والمتملّقين يتدافع حوله. وفي مثل هذه الظروف كان يصعب الحديث إليه، والتواصل معه بهدوء و تلقائية. لحسن الحظ أن فرصاً، على ندرتها، أتاحت لنا أن نمضي أمسيات معاً بصحبة بعض الأصدقاء المقرّبين. لحظات استرخاء كنا نتخلى فيها عن تيجاننا وشرائطنا المذهَّبة التي قلَّدتْنا إياها الجماهير، لنكون أنفسَنا، شعراءَ معظمُهم منفيُّون، يعيشون في أربعة أطراف الأرض، وكل منهم يحمل علامةَ مَنشأ جرحهِ، لكنهم يعملون جميعاً على تجديد الشعر، ومواصلة مغامرته، يعملون على مصداقيته عندما ينوي ألاّ يتجاهل شيئاً من الشرط الإنساني وألاّ يقف متفرجاً أو يتراجع أمام المدّ الهمجي.

هنا، كان درويش رفيقاً مرحاً، يسخر دون أن تشي به ملامحُهُ موفِّقاً بين مدرستين للدعابة: المدرسة البريطانية والمصرية (كان أنكلوفونياً وعاش في مصر مدة طويلة). لم يكن يتردد في المشاركة في لعبة قلبِ الدمى3 الرمزية التي تستهدف بالضرورة أشخاصاً غائبين لم نكن نقدِّرهم كثيراً. كلنا يعرف أن ذرة نميمة شيء مريح أحياناً. كان محِبّاً لمتع الحياة حين يتعلق الأمر بالمأكولات والمشروبات الأرضية، وإن بقي شديد التكتُّم بخصوص متعٍ الجسد الأخرى، ولا يتكلم مثلا عن النساء إلاّ مجازياً، كما في قصائده. صحيح أنه في أحيان كثيرة، وعلى كرهٍ منه، كان يشكِّل مركزَ اهتمام الجلسة المصغَّرة. يُحاصَر بالأسئلة فينطلق لسانه بفصاحة. لكنه كانت لديه اللباقةَ لكي يتوقف فجأةً وبصورة قاطعة لكي يدفع الآخرين للكلام. هذا ما حدث لي معه في سهرةٍ شعر فيها بأنه يحتكر الكلام. ولاحظ بأن صديقي الشاعر البحريني قاسم حداد وأنا، مستندَيْن أحدُنا إلى الآخر، كنا نقاطع النقاش. التفت نحونا بهيئة ماكرة معلِّقاً بقوله: “عبد اللطيف وقاسم يتصامتان” وكانت صياغة “يتصامتان” فوق ذلك اشتقاقاً لغوياً جديداً أوجَدَه في حينه لأجل الظَّرف.

عندما ذكرتُ عرَضاً هذا المثال الذي يدل على إحساسه الحادّ بالصياغة، لا أظن بأنني أوضحتُ على نحو أفضل إحدى إنجازات درويش الكبرى: الإنقلاب المضبوط التي أحدَثه داخل اللغة العربية، تلك السيدة العجوز المثقَّفة للغاية، المتعالية، المتمسكة بقواعد السلوك الجيد، والحريصة منذ قرون على ألاّ يتم العبث بشيء من مفروشات بيتها، من ديكوره، أو تنظيمه المنهجي. بعد أن قام درويش باستكشاف زوايا البيت القصيّة واستطلَع حتى طوابقه تحت الأرضية وأعمق أساساته المتوارية في التراب، انتهى به الأمر إلى السكن فيه على طريقته والتصرُّف فيه على راحته دون أن يظن نفسه مضطراً للانحناء تبجيلاً لسيدة البيت. لنقُل بأنه أوجَدَ، لمخاطبتِها، لغةً تراعي اللياقة وفي الوقت نفسه مبتَكَرة، تقترن بحقائقِ العالم الحديث ومتطلباته، وتُقِلّ حريةً تُمهِّد بحذقٍ للمستقبل وترسم منظورَه، دون أن تَشْتُمَ الماضي المَجيد. لقد نجح باختصار في نحتِ لغته الخاصة في صخرِ اللغة، المهمة التي تُعتبر في المحصلة، حيوية بالنسبة لشاعر، أياً كانت الأداة اللغوية المستخدمة. لكن ما يستوقفني في حالة درويش هو التطابق المدهش بين لغة الكتابة ولغة الكلام عنده. قلائل هم الكتّاب والمثقفون الذين لا يغيِّرون الطبقة عند الانتقال من الواحدة إلى الأخرى. أما هو فلا. حين تسمعه يتحدث عن الشعر، أو يمارس التحليل السياسي، أو يتكلم عن مسيرة حياته، يتضح لك في الحال بأن لغته فريدةٌ فرادةً قاطعة. فالمفردات، والحجج، وطريقة النطق، وإيقاع الكلام، كلها كانت تقتفي بدقةٍ أثر تلك التي أوجدها وعوَّدَنا عليها في شعره. وفي رأيي، إن سر الافتتان الذي كان يمارسه على مستمعيه ومحاوريه، يكمن هنا. عندما تسمعه وتنظر إليه، يمثُل أمامك الشعرُ في هيئة رجل.

وداعاً محمود! أسميك باسمك الأول مثلما يفعل جميع مواطنيك منذ أن اكتشفوا ما تمثِّله بالنسبة لهم: ليس أباً، ولا مرشداً أعلى، ولا شيخاً روحياً، بل أخاً أكبر يستطيعون سنْدَ رؤوسهم بكل طمأنينةٍ إلى كتفه. هل هناك مجدٌ لشاعرٍ أثمن من أن يسمع شعبَه، بالإجماع، يستشهد به ويسميه باسمه الأول فقط؟

مقتطف من كتاب شاعر يمر (دار ورد للنشر. دمشق. 2010 )
ترجمة روز مخلوف

الحياة أقوى

الحياة أقوى. حدثٌ سعيد جاء في اللحظة المناسبة ليكنس تلك التأملات الجنائزية. لقد أنجبت ابنتي الأصغر مولوداً في ليل يوم 7 يناير ( كانون الثاني). هرعتُ في اليوم التالي إلى باريس لزيارتها في دار التوليد التي تحمل اسمَ Notre-Dame du Bon Secours4 المطَمْئِن. هناك كانت تنتظرني أعجوبتان، الملاكُ الصغير المؤنث الذي ينام في مهده بسلام، والوجهُ الذي تحوَّل كلياً، للنفساء الجديدة، ابنتي المدللة التي أصبحتْ أماً. حتى وقت قريب، كان يصعب عليّ أن أرى في هذه الفتاة الراشدة المزدهرة غيرَ خليطٍ من الطفلة الجميلة الأنيسة، والمراهِقة العنيدة التي كانتْها. طرأ عليها التحوُّل مع حملها. قَسَتْ ملامحُها قليلاً وندُرت الابتسامةُ الفكِهةُ التي كانت ترسمها على وجهها دوماً. حلت محلها رصانة غير اعتيادية ومُقلِقة إلى حد ما، كنتُ أجيِّرها لحسابِ اللغز الأنثوي. كانت الابتسامة التي تضيء وجهها هذه المرة هي ابتسامة جوكندة حقيقة بشحمها ولحمها. لا يرجع سرُّها، كما في لوحة الرسام، إلى فنٍّ محنّك، بل إلى “المخاض الخلاّق” الذي أنجزته الواضِعةُ للتو، تتويجاً لرغبةٍ ثم حمْلٍ يرتبطان بأجمل غريزة، الحفاظ على النوع.

إعجاب وامتنان، هذا هو المعنى الذي أراه في القبلة التي طبعتُها فوق جبين ابنتي قبل أن أنحني فوق الأعجوبة الأخرى. إنها صوص بالكاد فقست عنه البيضة، برأس مدورة تعلوه خصلة حريرية، وملامح دقيقة ومميزة منذ الآن، ويدين بأصابع شفافة رشيقة رشاقةً مدهشة، وعينين لوزيتين تنفتحان بصعوبة، وأهم من كل شيء ثقة تامة بالحضور في الدنيا. لا فائدة من البحث عن جوهر الجمال في مكان آخر، قلتُ لنفسي، إنه هنا أمام عينيك، متحد جوهرياً مع مجيء الحياة الخارق والمستمر بلا انقطاع.

أهلاً بك بيننا أيتها الصغيرة، استأنفتُ. ها قد بدأتِ الحياة ربما لكي تَعبري هذا القرن الجديد من طرفه إلى طرفه. ما هي الاضطرابات وما أشكال التَقدُّم التي ستكونين شاهِدةً عليها، أو، ولِمَ لا، فاعِلةً فيها؟ من أيةِ معارف واكتشافات ليست لديّ فكرة عنها ستستفيدين؟ ما هي أقطار العالم التي ستسيرين فيها، وأين ستستقرين إذا أحببتِ أن تستقري؟ ما هي اللغات التي ستتعلمينها بحكم الضرورة أو بدافع الرغبة؟ أية مشاعر حب عاصفة تنتظرك، وأية علاقات حب ساكنة وبدون غيوم؟ في أية كتبٍ ستكتشفين الصوت الذي سيؤثر بك من الداخل؟ هل ستقرأين يوماً أحد كتبي، ليس بدافع الواجب، بل، بدافع الفضول المحض، لكي تبحثي فيه عن أجوبةٍ لأسئلتك؟ أمام أية لوحات ستقفين، مذهولةً لاكتشافكِ بأنها رُسمتْ من أجلك وحدك؟ ما هي الألحان والأغنيات التي ستحتضن روحَك وتُراقِصها؟ كيف ستقاربين، أنت، الأسرار التي كرَّستُ، أنا، لها الجانب الأعظم من جهودي في الفهم؟ ما هي الأطعمة الأرضية التي ستفضلينها؟ ما هي الشجرة التي ستعتبرينها حِرزَكِ؟

بعد مجموعة التساؤلات هذه، دعوتُها للصعود فوق كرتي الكريستالية المرتَجَلة. لاحقتُها خطوةً خطوة، فصلاً بعد فصل في الحياة. وفي نهاية الرحلة ميَّزتُ قامة امرأةٍ ناضجة متقدمة في السن، منحنية فوق مهدِ طفلٍ وليد، لا أدري هل هو ولد أم بنت، وغارقة في تأملاتٍ استشفَّيتُ بأنها تشبه، في نقاط عديدة، تلك التي عبَّرتُ عنها للتو. رمقتُها بنظرةِ حنان ممزوج بالاحترام قبل أن تنطق شفتاي بسؤال طريف:

-قولي لي، أيتها السيدة الفاضلة، أيَّ حصةٍ منك ستورثينها لذريتك؟

-كم تتعجل الأمور، ردتْ دون أن تستدير. ألا يتعيَّن عليك أنت أولاً أن تجيب عن السؤال؟

-أصبتِ! قلتُ موافِقاً.

تشوَّشتْ صورةُ السيدة عندما تحرَّكتْ حفيدتي في مهدها وانفتحت عيناها قليلاً.

-أسمعكَ، بدا أنها تقول لي.

-حسناً، سأحاول، ولكن لا تتوقعي أن أروي لك إحدى تلك القصص المخصصة لهدهدةِ نوم الأطفال. أفضِّل قطعَ المراحل ومخاطبتكِ كما أخاطب الكبار.

لم أحظى بالتعرف على جدودي. ليس لدي سوى ذكرى غائمة لجدتي لوالدتي، لالَّه طهور، التي توفيت عندما كان عمري ثلاث أو أربع سنين. لا أعرف شيئاً عن زوجها، أو عن أهل أبي. أعرف أسماء فقط. لم يكن الناس، في الوسط الذي ولدتُ فيه، يهتمون بتاريخ العائلة، أو بما يتعلق بالماضي عموماً. كانوا أساساً قلَّما يتبادلون الكلام. كان الحاضر يبتلع تماماً حياة أبويّ، اللذين كان عليهما تأمين خبزنا اليومي، والثياب اللائقة وزوج الأحذية المتين، مرةً في العام. لقد فهمنا نحن الأطفال (كنا ثمانية) كم كان المستقبل مهماً. لقد وظَّفنا فيه كاملَ طاقاتنا. أردنا أن نتعلم ونتعلم لكي نتمكن من الخلاص ونساعد، حالما نكون قادرين على المساعدة، أولئك الذين لطالما كدُّوا من أجلنا.

ما هو الشيء الذي انتقل من جدَّيّ إلى أبويّ ومن هذين إلي؟ لم يعبَّر عن هذا الموضوع قط بالكلمات. كل شيء كان يتجسد في الأفعال. ولقد احتجتُ إلى وقت لكي أدرك معناها وأهميتها. لم يورّثني أهلي في الحقيقة، سوى ما أخذوه هم عن أهاليهم. وما هو؟ لا شيء مادي، بل ممتلكات أعتبرها اليوم لا تقَدَّر بثمن وأسميها قِيَماً: التواضع، الاهتمام بالآخرين، العطاء بدون انتظار مقابل، الاكتفاء بالقليل، وفضيلة أخيرة كدتُ أنساها في حين أنها ربما تكون الأهم، والأصعب اكتساباً: القدرة على الصفح.

لا تظني بهذا أنني عرفتُ العائلة والمجتمع المثاليين. لا أبداً! كانت هناك عيوب ونواقص كثيرة متداخلة مع هذا النوع من الفضائل، كنت أجدها لا تُطاق: غِلُّ التقاليد، كَمٌّ كبير من الخرافات ، قمع الرغبات، الافتقار إلى الخيال، الخضوع للأقوياء، رفض ما يخرج عن المعيار السائد منذ قرون.

ثرتُ أولاً ضد السلبي قبل أن أكتشف الإيجابي وأتمكن من فصل الجيد عن السيء.

منذ ذلك الوقت دارت رحى الزمن، ودارت، مخلِّفةً وراءها عشرات السنين. تشتَّتَ قسم كبير من العائلة بعد أن غادَرَنا أبوانا. العالم الذي كنتُ قد عرفتُهُ معهما التهمهُ جيشٌ من الجرافات التي كانت تعمل في خدمةِ ما يسمى بـ “مسيرة التاريخ”. ظاهرةٌ شبيهة باختفاء قارة أطلانتيد التي تخيَّلها الفيلسوف الإغريقي، على إثر كارثة طبيعية. كيف أنسى أنني انتميتُ إلى هذا العالم المختفي وأنني كنتُ شاهداً على غرقه؟ ماذا أعمل لكي أسدد دَيْنََهُ عليَّ؟

بهذا الوعي كُتبتْ رواية حياتي. كنتُ أحياناً مؤلِّفَها المتمتِّع بكل قُدراته، وأحياناً قارِئها الحائر أو شخصيةً من شخصياتها، تُفلِتُ، في لحظةٍ من لحظات الحكاية، من مؤلفِ الرواية وتبدأ باختراع نفسها، وتقرير مصيرها بنفسها.

أعترف يا صغيرتي بأنني، في موضوع التوريث ليس لدي ما أورِثُكِ إياه سوى هذا الكتاب الذي يظهر بمظهر متاهةٍ يتم فيها الانتقال من الشعر إلى النثر، من المسرح إلى الحكاية، من الغضب إلى التأمل، ومن الجنون إلى الحكمة. وتُعرض فيها رحلات عديدة، حقيقية أو متخيَّلة. أزعم أنه يمكن أيضاً أن تُقرأ فيها قصة حب جميلة، وأنه حتى عندما يكون الموضوع جسيماً فالابتسامة ليست ببعيدة عنها، إذا لم تكن الضحكة الصريحة، التي استُخدمت بكثرة من أجل تنظيف النفس من أوساخ الغباء.

ما العمل كيلا نضيع فيها؟ ستقولين لي. هنا، سأكشف لكِ سراً. الخيط الهادي موجود، وهو ليس مادياً. إنه من طبيعة تلك القيم التي تلقَّيتُها من أبويّ. باستثناء أن هذه لا تَدين لهما بشيء. أنا الذي اكتشفتُها وقدَّرتُ قيمتها ووضعتُها في مركز كل عمل شرعتُ فيه في حياتي كراشد. إنها ثمينة إلى درجة أنني أخشى أن تفقد من قوَّتها و من ألقِها حين أُسميها.

لحسن الحظ أن المصادفة تساعدني أحياناً. فقد عثرتُ مؤخراً في كتاب إحدى الشاعرات، على استشهادٍ أذهلني. بدا لي مضمونه ملائماً على أكمل وجه، وكلمةً كلمة بلا مبالغة، للفكرة التي في ذهني عن هذه القيمة العليا التي تُمثِّلها الحريةُ لي. ها قد عرفتِ الآن خيطكِ الهادي. اسمعي ما يقوله عنها ميشيل باكونين، مؤلف النص، وهو الرجل الذي لم يعِش في القرن السابق لقرني، إلاّ ليقول لا لكلِّ ما يُبقي الكائنات البشرية في عبودية:

“يهمُّني كثيراً ما هُم عليه جميع البشر الآخرين، لأنني مهما ظننتُ نفسي مستقلاً،…فإنني نتاجُ ما كان عليه آخِرُهم؛ إذا كانوا جهلةً، بؤساء، عبيداً، فقد تحدد وجودي بجهلهم وبؤسهم وعبوديتهم. أكون، أنا الرجل المتنور أو الذكي مثلاً – إذا كان هذا هو الحال-، غبياً لحماقتهم؛ وأكون، أنا الباسل، عبداً لعبوديتهم؛ وأرتجف، أنا الغني، أمام بؤسهم؛ وأمتقع، أنا المحظوظُ، أمام عدالتهم. أنا الذي أريد أن أكون حراً أخيراً، لستُ بالحر. لأن الجميع من حولي لا يريدون بعد أن يكونوا أحرار، وبما أنهم لا يريدون ذلك، فإنهم يصبحون أدوات قمعٍ موجهة ضدي.

لا أكون حراً بالفعل إلاّ عندما تكون جميع الكائنات البشرية المحيطة بي، رجالاً ونساءً، حرة أيضاً… وعندما تتأكد حريتي الشخصية بحريةِ الجميع، فإنها تمتد إلى ما لا نهاية.”

اللعنة! ماذا دهاني حتى أُلقي بخطاب طنّان بهذا الشكل؟ لقد شعرتُ وأنا أغادر دار التوليد بأنني مضحك بعض الشيء. في الخارج، كان الليل قد حل، وكانت واجهات المحلات، في شارع آليزيا، مغطاة بالكامل بملصقات تعلن عن رخصة الأسعار، تصل حتى 70% بفضل الأزمة. وباعتباري لم أعد أذكر أين أوقفتُ سيارتي، درتُ في الشوارع المتاخمة، مذعوراً لفكرة أنها قد احتجزت لكوني ارتكبت مخالفة ما عند صفها. وبما أن من عادتي أن تكون لي استجابات متأخرة، رحتُ أستعرض في رأسي لحظات “محادثتي” مع حفيدتي. لماذا كنتُ ثرثاراً إلى هذا الحد ودلفتُ في اعتباراتٍ بهذا التعقيد؟ مع أنني كنتُ قد أعددتُ شيئاً بسيطاً لكي أقدِّم لها نفسي عن طريقه، هو نوع من لغز، وعندما جاء وقته نسيتُه بكل بساطة، ولم أتذكره إلاّ الآن. ليتني بحتُ لها، دون زيادة، بالجملة، اللؤلؤة التي وجدتُها في كتاب ورود أكاتاما، للكاتب التشيلي لويس سيبولفيدا: “ليس الأجداد سوى أطفال متنكِّرين!”

مقتطف من كتاب شاعر يمر (دار ورد للنشر. دمشق. 2010)
ترجمة روز مخلوف

حدثَ في فاس

في فاس، لا تخرس السماء لمدة طويلة. يكفي لمعاينة ذلك، بذل بعض المجهود. لماذا كانت تفتنني إلى هذا الحد، أنا الجاهل من الشعر حتى اسمه ولا أعرف سوى كلمة “النجوم” اليتيمة لتعيين ما لا يحصى من الكواكب المشعة التي تمتلئ بها قبتها ليلاً؟

كان زادي من الكلمات هزيلاً، هزيلاً للغاية. وكان يغيظني عجزي على أن أصفِّف أمامي أشياء تأملي وأقول لها: أنت تسمى هذا، وأنت ذاك. وما دمت قد تعرفت عليكم وبفمي سميتكم، فكفوا عن الظهور بمظهر المكتنفين بالأسرار، وتعالوا، اتبعوني. هُوبْ، هوب، سأضعكم في مزودي، وهيا، إلى الأمام! في سفري سوف تكونون مؤنسي المؤتمن على أسراري، وإذا ما أطل خطر خلال الطريق سوف تصبحون لسان صرختي وذراع شجاعتي.

كان سطح بيتنا في حي السياج ميداناً فسيحاً بالمقارنة مع سطح “مصريتنا”، القزم، في عين الخيل. لقد حل محل مسرح الجيب الذي مارستُ فيه أحلام يقظتي الأولى، نوعاً من المدَرَّج المتناهي الأطراف والمعلق في الهواء. من هناك كانت المدينة تعرض عليَّ نفسها، من قمة الرأس إلى أخمص القدمين. من كان يعكس الآخر، هي أم السماء؟ لم تكن عيناي قادرتين على الفصل في ذلك. كانتا تتيهان في لعبة المرايا تلك وتنعمان بالإحساس بالتيه. كانت مدينتي تعرف كيف تطبع نفسها على صفحة سمائها، والسماء تبدو أبلغ راوٍ لمدينتي. كنت الناسخ المثابر والمتفرغ لذلك الحوار العالم. أقطف منه الموسيقى وأترك له الملكات التي خبرتها. كان جسدي يتخفَّف من وزنه. لحظة فقط، وأشعر أنني قادر على التحليق، دون أجنحة.

من حسن الحظ لم يكن أحد ليشاهدني أو يستمع لرنين سُبْحَة الهذيانات في رأسي. وإلا كنت سأُتَّهَمُ، في تلك الظروف، بعدم الاكتراث بالمصيبة التي كانت قد أصابتنا وأوصَفُ بالانهزامية. مع ذلك، لم أكن لأتوقع البتة أن السماء كانت ستبعث لنا في تلك الأيام رسالة أخرى مخالفة.

كنا في نهاية شهر يوليوز، مع اقتراب اكتمال البدر. مرَّ الآن عام على خلع ملك البلاد عن عرشه ونفيه. كان الآن تحت مراقبة مشددة، في جزيرة إفريقية بعيدة يلح إدريس على تسميتها مدام كاسْكار. وكنت أسخر، مع بقية متعلمي الأسرة، من هذا التلفظ المبتكر. كنا من مدة قد حددنا موقع الجزيرة على خريطة القارة السمراء وبدأنا نطالع عنها. كانت أنتسيرابي المتواضعة، حيث أبعد بن يوسف تأخذ باهتمامنا أكثر من العاصمة تناناريف. أما تاريخ البلاد فيقدم تشابهات مدهشة مع بلادنا. حماية هناك، وحماية هنا. فيما مضى، كانت ملكة البلاد قد خلعت عن العرش ونفيت هي أيضاً. الظاهر أن مستعمرينا لا يحبّون الملوك. طبيعي، قال أكثرنا علماً: لقد قطعوا رأس ملكهم منذ زمن طويل.

من يحكمهم إذن؟

رئيس يختارونه كل سبع سنوات. ثم يأتي دور رئيس آخر.

ومن يختار؟

الجميع، رجالاً ونساء.

والحمالون أيضاً؟

حتى عسّالة، ميكو أو الشيكي لقرع لو كانوا هناك، لكان بإمكانهم أن يختاروا.

وما رأي العلماء في ذلك؟

العلماء في فرنسا، لا يهتمون بهذه الأشياء.

ومن يهتم بها إذن؟

أناس مثل بلحسن الوزاني.

أهو متفق مع أولئك الذين يقطعون رؤوس الملوك؟

إطلاقاً لا. مع ملكنا، إنه على انسجام تام.

وعلال الفاسي؟

هو كذلك. مع أن…

مع أن ماذا؟

تزعجنا بأسئلتك. انتظر حتى تكبر، وستفهم.

لن يقول قائل إنني لم أبذل الجهد الضروري.

عاد بن يوسف!

تدفق الخبر في مدينتنا مثل موجة هائلة ولدت في بحر باطني هائج. ولأننا لم نكن متعودين على الإبحار، فقد هزتنا الموجة في الأعماق وجرفتنا قُوتها. لم نعرف بم نتشبث لاستقبال الخبر السار دون أن نفقد صوابنا. في جهات المدينة الأربع، في كل الدور، تشبث البعض بالبعض وأقاموا سلسلات بشرية لتَحمُّلِ الصدمة والاستعداد لرد الفعل، وعندما استرجعنا طاقة الكلام ثانية، كان ذلك لتمتمة أسئلة انفلتت من أفواهنا كطيور مضطربة: ماذا، ماذا، ماذا؟ متى؟ أين؟ مع من؟ كيف؟ بحراً أو جواً؟ على متن سيارة أو حصان؟ هل هو بالفعل أو ليمُه؟ هل نطق بشيء؟ هل شاهده أحد بأم عينيه، واستمع إليه بأذنيه؟ ماذا تقول الإذاعات؟ أين يجب الذهاب للمزيد من المعرفة؟

استمرت الموجة في تدفقها، وتحولت فاس شيئاً فشيئاً إلى نوع من سفينة نوح، عاد الإيمان إلى عليائه، مطمئناً القلوب. وأمَّا السماء التي بقيت زرقاء طيلة الإعصار، فذكرتنا بوجودها، وكلّفت الشمس في أفولها بأن تمنحنا غروباً بهياً. تلون وجهها بألف نور ونور ناعم ومحتشم. وعندما نادى المؤذنون لصلاة المغرب، بدوا كأنما غيَّروا الكلمات لما كان لإنشادهم من عذوبة. ونتيجة لذلك، تلاشت الأمواج الصاخبة. كنا نندفع على سفينتنا، مُهدْهَدين بالابتهالات الغنائية والضياء الرقيق.

هل تناولنا عشاءنا ذاك المساء؟ غير مؤكد. كنا بحاجة إلى الكلام، إلى تبادل الزيارات، إلى أن يلمس البعض البعض الآخر، إلى أن يضيف كل واحد إلى حبور الآخر وأن نرسم، نرسم المستقبل بأقلامنا ومدادنا، بألواننا الخاصة. أعدنا اكتشاف أيادينا، تلك الأيادي التي لم تكف عن الرسم، التخطيط، الزخرفة، النقش، النحت، الحلاجة، الغزل، النسيج، الحياكة، الطرز، التفضيض، الصقل، الخياطة، التلصيق، التبليط، التجصيص، التقطير، نحت الطين، الحديد، الفضة، النحاس، البرونز، إطعام الأطفال، الفقراء، اليتامى، عابري السبيل والمجانين. أيادينا تلك، التي كنا قد شككنا فيها وها نحن نفتحها الآن، أكفاً باتجاه السماء، لكي تباركها وتملأها من هباتها.

في تلك الأثناء، حل الليل. لم نكن بحاجة إلى إشعال النور ما دامت السعادة تنيرنا من الداخل. عندها وصلت الزغاريد الأولى إلى أسماعنا. أجابتها زغاريد أخرى، ثم تعاظمت الجوقة إلى حد زعزعة حيطان الدار. بدأت غيثة، المحرومة من زمان، تشارك، وردت عليها أختي زهور مباشرة. وعلى هذا جاء أحدهم يطرق بابنا وأنبأنا بهذا الخبر المدهش: لقد ظهر بن يوسف في القمر!

لنصعد إلى السطح! صاح إدريس.

تدافعنا في السلم. على قدر ما كنا نصعد، على قدر ما كانت الجوقة تتعالى. لما وصلنا إلى السطح، وجدنا جيراننا القاطنين في الطابق الأول. لم تفكر أي من النساء، مع التسرع، في ارتداء جلبابها، أو حجب وجهها. كنَّ في ثيابهن الداخلية. ولم ينتبه الرجال إلى ذلك. كانت العقول طائرة والأعناق ممتدة إلى السماء. الأسطح المجاورة ملأى بالناس، وكل سكان المدينة قد تجمهروا لمشاهدة الظاهرة. كانت الزغاريد تنفجر، موجة تلو الأخرى، تقاطعها ابتهالات لم تعثر في البداية على إيقاعها قبل أن تنصهر في نفس القالب وتُسمع في شعار موحد:

مولانا يا ذو الجلال

بن يوسف والاستقلال!

في غضون ذلك أصبح التدقيق في القمر يثير خلافات جدية. كانت غيثة، التي بدأ نظرها يضعف، تتساءل عما إذا كان السلطان واقفاً أو راكباً حصانه.

أي حصان؟ قال إدريس مستاء. افتحي عينيك جيداً، وجهه وحده هو الذي يظهر.

لعلك تريد أن تعلمني كيف أنظر؟ أقول لك إن هناك حصاناً. وأنا متأكدة من ذلك.

ارجعي إلى الله، أيتها المرأة. ذاك مجرد قُبِّ جلبابه. ألا ترين عيني السلطان، وأنفه؟

والفم، أين هو إذن؟

أين تريدين أن يكون؟ على جبهته؟

وتدخلت زهور بحسها التربوي المعهود، وهي تصوب سبابتها نحو القمر:

أنا سأقول لك، أميمتي. توجد الرأس في الوسط تماماً. تابعي إصبعي.

أين إصبعك؟ أتظنين أن لي عيني قط؟

ها هو ذا، امسكي، وتابعي ما أبين لك. وهذه هي حوافّ القبّ. هذه دائرة الوجه، وهنا الشفتان.

آه نعم، يا بنيتي، يبدو أنك على صواب. الآن أرى فماً، وكأنه يستعد للكلام.

وبينما كانت العائلة تسير نحو الإجماع، كنت أجهد من جهتي للالتحاق به. وللأسف، رغم محاولتي المثابرة لم تكن النتيجة مقنعة جداً، والقمر شاهد على ذلك! أكيد أن البدر كان وضّاءً أكثر من المألوف وأن أشكالاً غامضة كانت تتخلله. لكن وجهاً مرسوماً بوضوح، ماساً من قريب أو بعيد لوجه السلطان الغائب، فكلا. على أية حال، كانت الصورة التي عرفت عنه والتي أتلفها أبي خلال فورة هلع، تعرضه جانبياً معتمراً طربوشاً مفلوقاً في الوسط، من النوع الوطني. في حين أن الحديث حولي كان دائراً عن رأس مواجهة، مغطاة بقب. لكن، كيف كان بإمكاني أن أشك للحظة واحدة في الرؤية المثبتة بسرعة، المفصلة أكثر فأكثر، ثم المجتمع عليها، والمحيَّاة في الحماسة والاستبشار؟ لم يكن بوسعي أن أؤاخذ سوى فقر نظري والآفات المواكبة لسني. فللكبار طاقات ما تزال تعوزني. والأبسط أن أصدقهم بعينين مغمضتين. ومن هنا إلى الادعاء لم تكن سوى مسافة خطوة، عبرتها لتبديد شكوكي والمزايدة حتى. هكذا فاجأتُ نفسي أسخر من غيثة، المتهمة بالتذبذب قبل أن تتبنى الرواية الرسمية:

لقد طار حصانك، أليس كذلك؟

الله يجعله يدوسك، ويصيرك كفتة! أجابتني.

الحل الذي وجدته لإبعاد ذلك السوء عني، هو أن أصدح بدوري منضماً إلى جوقة الابتهالات:

مولانا يا ذو الجلال…

أهو ذلك الدعم المتواضع للحماس الجماعي الذي أتى بالطائر الحديدي؟ هو ما حسبته بكل سذاجة. لاحت المروحية، المسبوقة بدوي هائل، مضيئة السماء بنجوم وامضة، خضراء، حمراء، وبدأت تدور فوق رؤوسنا. حصل صمت قصير قبل أن تتفجر جلبة واسعة من الصياح المناوئ، مصحوبة بحركات مخلة بالحياء اتجاه مقيلي الآلة. عادت المروحية، التي خاب أملها بهذا الاستقبال، إلى الارتفاع، مرت أمام القمر، كما لو أنها تتعمد حجب وجه السلطان وابتعدت. تفاخر الناس، ثملين بنصرهم. ليس لمدة طويلة. كانت الآلة تعلن رجوعها. عاودت الظهور، واعتقد البعض رؤية التماعات مضيئة تصدر من هيكلها مصحوبة بانفجارات خاطفة، وصرخ إدريس، الخبير في الموضوع لكونه قد تدرب على بنادق الفروسية:

إنه البارود الذي يتكلم!

بدأ الذعر ينتابنا. وقلقت غيثة على صغارها.

لم يعد الأمر لعبة أطفال. هيا، انزلوا بسرعة.

أبدينا بعض المقاومة، سيما وأن هذه المرة حقاً لم نشاهد ولم نسمع أي شيء. ظفرنا بوصلة إضافية. لأن المروحية كانت قد ابتعدت من جديد. تنهد الناس انفراجاً وعادوا إلى موضوع انحسارهم. كان القمر قد تغطى بحجاب رقيق. غيرأن التضبيب هذا، لم يمنع المناقشة من التدقيق في التفاصيل. افتتنت امرأة جارنا أمام الملأ بجمال الملك:

تبارك الله، قالت. إنه لفنان من رسم حاجبيه وأعطى لعينيه مدار كأس بِلَّور.

نور وجهه من نور مكة، أضافت غيثة، حتى القمر يغار منه.

أرأيتِ، لالة، استقامة أنفه، لا هو خانس ولا أقنى؟

أهو خال ذاك الذي يبدو على وجنته؟

خال أو غير خال، فبشرته مورَّدة. الدم على وشك النضح من خدَّيه.

ثم أقحمت زهور هذه الملاحظة الملغزة:

ما أسعد المرأة التي تتمتع، يوماً بعد يوم، ببركته!

أمام هذه المدائح الفائقة لمحاسن بن يوسف البدنية، كنت بانتظار لذعة غيرة من طرف الرجال. لا شيء من ذلك. كانوا، هم، منكبون على مادة الأفكار الصلبة، تاركين للنساء الشِّعر الذي لا طائل تحته. وقد بلور جارنا، المولع بالاقتصاد، تحليلاً أسال لعابنا:

هل تعرفون أنه بعد أن يخرج الفرنسيس، سيكون لكل عائلة، بالفوسفاط وحده الذي نملك، ما تغطي به حاجياتها لمدة ثلاثة أشهر دون أن تعمل؟

هذه دجاجة مبخرة بكامونها، قال إدريس متهلِّلاً.

إياه آسيدي، أراضي المعمرين، سنسترجعها وسنزرع فيها كميات من القمح تغذي كل مسلمي الأرض.

عندها سيكون الشعير صالحاً لإطعام دوابِّنا.

لم نُدْخِلْ عبثاً أبناءنا إلى المدارس. عما قريب، سيكونون هم من يحتل المناصب الإدارية وسوف يوزعون ما عليهم أن يوزعوا.

أعطيني نعطيك.

واعْلاش لاَّ؟ لقد أفرغنا شكاكرنا كي يتعلموا ويصلوا إلى أعلى الدرجات. والآن، إلينا بالراحة.

استحقينا ذلك. ضيعنا حياتنا في الكد، أوْهَنّا أيادينا وعيوننا. لقد آن الأوان ليضع الإنسان رأسه على مخدَّة، يستلقي ويتمدد كما يحلو له.

الاستقلال شيء كبير، استخلص جارنا بفخامة.

لم يبدأ الحفل في الفتور، وتُفرغ السطوح من الناس، إلا في وقت متأخر من الليل. تبعنا الحركة. وعندما نزلنا، تنبَّهتُ بمرارة إلى أننا فوَّتنا العشاء. ربما فكرت غيثة في أننا أكلنا وشربنا كفاية بعيوننا وأننا عما قريب مع الاستقلال إن شاء الله سوف نَغْرَق في الملذات. كانت أمعائي، الأقل سذاجة من رأسي، تزمِّر. لكن لم يكن لدي الخيار، وعلي أن أستسلم للمُشْبِعِ الوحيد الذي ما يزال في الخدمة: النوم.

بم حلمت تلك الليلة؟ بحكايات الأكل، طبعاً. كانت عبارة عن نْزاهة في بستان باب الحديد. وكما حصل في المرة السابقة، كانت العائلة بأكملها، بما في ذلك الطويسة، البكّير بشكل استثنائي، الزردة الكبيرة، هي موضع الاهتمام والعناية. لهذا السبب، أجَّرت غيثة، طباخة محترفة. ينتظر أن تهيئ خروفاً مشوياً، دجاجاً محمراً، طواجين لحم، والكسكس الذي لا مناص منه. وكل هذا على شرف من؟ هناك سببان، دون رابط ظاهر بينهما: الاحتفال بعودة إدريس من مكة، وانتظار مجيء ضيف استثنائي.

تتوالى الصور، متقطعة. وكأنه على عرش، يجلس إدريس وسط الحديقة. يرتدي ثياباً فخمة وتبدو عليه أبهة لم أعهدها فيه. يمدُّ كلتا يديه بطريقة مسرحية، وعلى كل واحد منا أن يمثل أمامه، يهنئه على حجِّه الموفق ويدلي بصوت عال بلقبه الجديد: الحاج، ثم يقبل ظاهر وباطن يديه. تقوم غيثة بالشيء ذاته، وتستغل الفرصة لكي تمرر طلبها بخنوع:

وأنا يا حاج، متى سترسلني لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟

قريباً، قريباً، يجيبها إدريس. لن أنساك.

كل هذا يمرُّ تحت وضح… وضح قمر رصاصي. الصورة خاطفة، ولكن ليس في ماديتها ظل شك في ذهن النائم.

طَقْ، طْراق. يمرر سيد الرؤى صوراً أخرى. يستولي ضحك متواصل عام على الجمع. السبب؟ أنا، مرتدياً طربوشاً وطنياً، واقفاً فوق مائدة ومردداً، في رواية معدلة، العدِّية التي كان أخي السي محمد قد أحفظني إياها:

طونيو وكابيزا

وعمي لقرع

مْدَوْرة بيه الغابة

طراق، طق. كنا عدداً نرجّ أغصان شجرة. تسقط منها فواكه ذهب بغزارة. أحاول قضم واحدة، ولا تصادف أسناني سوى صلب المعدن.

طق، طراق. تنطلق غيثة، باتجاه الركن الذي تهيئ فيه الطعام صائحة: أشم الشياط، ماذا تفعل هذه الطباخة؟ أخذتها الحمى!

طراق، طق. يوجد الخطيب المغتال أمام دارنا كأنه كان مدعواً، ويتوجه إلينا قائلاً: لقد جئتكم بقالب السكر هذا وبالنعناع الجيد من مكناس.

طق طراق، وطُق طُق: يقرع باب الحديقة. تنفجر جوقة موسيقية في الخارج، تُدفع الباب ويدخل بن يوسف شخصياً، محاطاً بصفين من الأعيان. وجهه تماماً كما عكسه القمر. يتقدم، ونجري نحن لنقبل يده. يجلس في المكان الشرفي وينحني على إدريس، وهو يطلب منه مُزأزِئاً: “سوف مزيان وقل لي منين زيتْ!1 من مدام كاسكار، سيدي ومولاي”، يرد إدريس.

وينطلق بن سوف ضاحكاً ضحكة خالصة، نرد عليها بمرح، وتعلو قهقهتي فوق الآخرين.

تلك الضحكة هي التي أفاقتني بغتة. وللأسف، لم يكن نصيبي من الزردة إلا روائحها المشهية.

كانت الشمس قد أشرقت فوق مدينتنا المهدهدة بحلم من مستوى أرفع. أُرْسِلْتُ من طرف غيثة مبكراً لشراء السفنج (كانت بهذا تعوضنا عما افتقدناه أمس) فوجدت الأحياء ممتلئة من مدة بالناس. كانوا يتوقفون مع كل خطوة، يتبادلون التهاني، ويعلقون ببهجة على ما شاهدوه البارحة. كانت الوجوه مشرقة والصدور منتفخة زهواً. كان أمام بائع الفطائر زبائن كُثر. لم تكن إذن فكرة غيثة فريدة للغاية. كان عليَّ أن أستعمل مرفقيَّ، أبقى متيقظاً كي لا يمر عليَّ الدور، وأن لا أنسى على الخصوص، الطلبات التي أمرت بها: كيلوغراماً من الفطائر من الحجم العادي، نصف كيلو من الأصغر منها، وثلاثاً من المطفيات بعد القلي تكسر فوق كل واحدة منها بيضة. كادت الأشياء تتبلبل في ذهني عندما اقترب ولدان من التجمهر وهما يصيحان:

اشتروا بن يوسف في القمر!

اعتقدت أن الأمر يتعلق بجريدة تروي الحدث بتفصيل. مدفوعاً بالفضول، غادرت مكاني بتهور لأرى عن قرب. وفعل بعض الطائشين ما فعلت. عندئذ اكتشفنا موضوع الإعلان.

حزمات تلك الصورة تخاطفها الناس فنفذت في رمشة عين. نجحت في اقتناء واحدة منها وانغمست فوراً في التمرين. والنتيجة لا يمكن إنكارها. بعدما رفعت عيني نحو السماء، استطعت التأكد من أن الصورة التي أجهدت نفسي في التعرف عليها البارحة كانت مطابقة لما تم ترسيخه في ذهني. وبذلك تبددت نهائياً شكوكي… لقد أفاد أخيراً التجريب الذي اكتسبته من المدرسة في شيء معين. وبالنسبة إلي، إن ظهور بن يوسف في القمر قد أصبح ثابتاً ثبوتاً لا رجعة فيه.

وجدت نفسي، بعد أن انهمكت في تلك الاختبارات العالمة، مدفوعاً إلى مؤخرة الطابور، مجبراً على الانتظار من جديد، متألماً أكثر من جراء الرائحة المجنِّنة للفطائر القضيمة والتملي في بائعها وهو ينضدها كقلادة مستعملاً لذلك الغرض أعشاب دوْمٍ مفتولة.

بعودتي إلى البيت وأنا ألوح بغنيمتين، خاب أملي، لأن حزمة الفطائر هي التي نالت الإقبال وليست الصورة. كان الجو العائلي قد فتر. لم يكن الكبار يفكرون إلا في الأكل. وحدهن أخواتي الصغيرات تكرَّمن بإلقاء نظرة على ما اعتبرت أنها الغنيمة الأثمن، وخضن بمحض المجاملة في التمرين الذي أقنعني، أنا، على أسس صلبة.

بينت لي المناقشة التي تلت أسباب ذلك التحول في المزاج إذ علمت أن المحطات الإذاعية الملتقطة باكراً، لم تنبس ببنت شفة حول المعجزة التي كانت فاس كلها شاهدة عليها. قد يقبل ذلك من إذاعتي الرباط وطنجة، لكن أن تسكت القاهرة، موسكو، البي بي سي، براغ وصوت أمريكا عن الحدث، فذاك ما صدمنا وعذب نفوسنا. هل كان العالم لا مبالياً إلى هذه الدرجة بمصيرنا وبتجليات إيماننا؟ هل أصابه العمى عن الإشارات الواضحة التي أرسلتها السماء؟ نفس التكتم من جهة الصحافة الرسمية. كانت جرائد الصباح التي حصل عليها السي محمد تصب حقدها على فدائيينا وتمجد في عناوينها البارزة منجزات الحماية: طريق جديدة بُنيت، ميناء وسِّع، مستوصف دُشن، عشرة مخافر شرطة فتحت، حي قصدير استؤصل، أكياس دقيق وزعت على المحتاجين، قواد وشِّحُوا لخدماتهم الجليلة. ألا يكفي هذا؟ ولم نعثر على إحالة لما كان قد قلب حياتنا جذرياً، إلا بالبحث في الصفحات الداخلية. قد عالج الموضوع صحافي وقع بالحرفيين الأولين لاسمه (الجبان!) في بطاقة ساخرة بعنوان “شعب من المخردلين” كاتباً:

“حاول معارضو حركة فرنسا المحضِّرة أن يخدعوا مواطنيهم بنشر الفكرة المضحكة القاضية بأن السلطان السابق، المخلوع شرعياً (بفضل انضمام سكان البلد الأقحاح وصفوة أبنائه المؤيدة لهذا المشروع) قد ظهر ـ يا للمسخرة ـ في القمر! ويظهر أنه كان لعملية الترويض النفسية هاته، المستوحاة من طرف أسيادهم القابضين على الخيوط من موسكو، أثر حاسم على نفوس طيبة ذات العقول البدائية. فعوض مساعدة هذه الأخيرة على تعلم شروط التفكير السليم التي أتينا بها، أراد أولئك المتشبثون بعقلية الوطنية الضيقة أن يبلدوها أكثر بدفعها إلى هلوسة جماعية، وتحويلها بهذا إلى شعب من المخردلين. عمل دنيء! يصعب على المرء أن لا يتبنى معه دون تحفظ الحكم الذي أصدره أحد إداريينا المشهورين في زمنه (أوربان بلان، كي لا نسميه): “مادام العرب يكتبون من اليمين إلى الشمال ويتبولون مقعدين، فلن يُرْجَى منهم خير”.

الله يلعن دين أمك، أيها الكلب الأعور!

لم يمنع نباحه قافلتنا من أن تأخذ الطريق إلى السطح ذاك المساء نفسه. وظهر بن يوسف من جديد، في قمر مورَّم قليلاً. كان قبُّه مائلاً جنباً شيئاً ما. وبدأت في الليالي التالية وَدَفَةُ ظلمة تزحف على الوجه، مغطية العين اليمنى، فالأنف، الفم، العين، الثانية، إلخ. وقد تشبثنا بشكل يائس بأملنا، غير مبالين بنباح الكلاب الضارية وبعدم اكتراث العالم. وذلك إلى الأفول الطبيعي لـ “ثورة” القمر.

في غضون ذلك، كانت الأيام البيضاء تتعاقب، ولم يكن بوسعنا إلا أن نرضخ لحكم الواقع. ظل الأفق أخرس، بخيلاً. بقي بن يوسف غائباً عن الأنظار. كانت إعصارات أخرى تتهيأ، مسبوقة ببروق وقصوف تاريخ في طور الولادة.

وهكذا عشنا، بخبز الانتظار اليابس وبماء الرجاء العنيد. فدام ذلك حزمة فصول أصبح فيها “صيفنا شتاء” قبل التغيير الكبير، الحق، الذي سيشهد طلوع نجم الحرية، الحقيقي، في سمائنا.

لكنها حكاية أخرى.

مقتطف من رواية قاع الخابية (دار ورد للنشر. دمشق. 2009)
ترجمة حسان بورقية والمؤلف

افتراضات

لِنَفترض
ولادةً بلاَ مخاض
تاريخاً
بصفحتِهِ العذراء
الهواءَ
وقد جُدّدَ تماماً
المحيطاتِ وقد طُهّرت من أعماقها
ماءَ النبعِ
لِوحدهِ يُزوّدنا
بالقوتِ والمعرفة
النارَ
حُرِثَت لِتَهَبَنا النبيذَ
وإكسيرَ الطفولة
الريحَ الطيّبَة
تأتي من البَعيد
بالنغَمِ العارفِ
المُشرفِ على الخَلق
حيواناتٍ طليقةً
مجبولةً على الجمال
ترعَى الأنواعَ النادرة

لنفترض
مسكنا جديداً
للّغة والفكر

وَلْنفترض
ما يبتغيه كلُّ امرئٍ
في قرارةِ نفسه :
حياةً بديلة
يختارُ فيها أبويه
بحرّية
يختارُ اسمَه ولَقبَه
نبرةَ صوتِه
لغتَه أو لغاتِه الحَميمة
دينَه إنْ لزمَ الأمر
عشقَه
الأَوحدَ أَو المتعدّد
لونَ أفكارهِ
معاركَهُ المدروسةَ برَوِية
مسكنَه بشجرتِه الوصية
تَيْهَه ودروبَ حَجِّه
الكتبَ المنذورةَ له وحده
الموسيقى
واللوحاتِ
التي تُضاهي
مواهبَه الخاصة
ولم لا
بضعَ أسرارٍ
لا تسيء إلى أحد
مثل صنوٍ حميم
يأتمِنُه على أسرارِه
دون أن يخشى الفَضْح أو الخيانة
بعضَ التفاهاتِ
للتميز عن العامّة
مثل الضحك
لما ليس يَبعَثُ على ذلك ظاهرياً
أو البكاءِ وقت الاحتفال

لنفترض
حياةً
نخلقها بحرية
من الألف للياء

لنفترضِ المرأةَ والرجل
وقد شُفِيا
من الخوفِ
والخضوع
متحرّرَيْن من التملك
ليسَ لهما
شيءٌ للبيعِ
ولا للشراء
عاشقَيْنِ على الدّوام
وفانيين على الدوام

لنفترض حياةً
بلا قاعاتِ انتظار
لا حسرةَ بعدها
ولا ندم
حكايةً تُتَنَاقَلُ
منذ البدايات
وكلٌّ يؤثثها
ويُؤَوّلُها
على شَاكِلته

لنفترض
حلَقةً مُحدَثة
من سِفْر التكوين
تظهر فيها
ما بين السماء والأرض
قارةٌ جديدة
يُدرِك فيها أخيراً
مَنْ هُمْ أوفرُ حظا منا
الفصلَ المُفتقد

هناك
مطمئنةً على حالها
ستكون اليوتوبيا
ما بين الحلم والواقع
ستكون آمادٌ معقولة
وبالتأكيد
ستكون جسورٌ

لن يكونَ العيشُ
أمراً نافلا
سوف ينامُ المرءُ
بعينِه التي خارجَ القلبِ فقط
ولن يقتاتَ
إلا على الخيال
نقيا أو غيرَ نقي
دون مقبّلاتٍ أو أطباقَ مُصاحِبة

سنَحلمُ كالمعتاد
لكنْ بآفاقَ أرحب
كأن نسكُنَ الكونَ كُلَّه
دون حاجةٍ للتنقل
أو نتفاوضَ بشأن معاهدةِ سلام
عادلٍ
مع عناصرِ الطبيعةِ المُهْتاجة
أو نضيفَ مبدأ المحبّة
إلى ديباجةِ
الدستور العالمي

عندها سنُلغي
الكمَّ الكافيَ
من العذاباتِ غيرِ المعقولة
لنُبقِيَ فقط
على تلك التي تغذي اليقظةَ
السؤالَ
والسعيَ وراء أنوارٍ
محتملةٍ وغيرِ محتملة

سوف نشملُ بالعناية
كفَلذَةِ الكبد
كلَّ قطرةِ ماء
كلَّ حبةِ رمل
وكلّ جُزَيْءٍ في الهواء
وأقربَ إلينا
كلَّ ما هو هشّ
مُتلعثم
زائل
وما تَرسّبَ
في باطنِ الرّوح
من شعورٍ بالوحدة
أو الخوف

الموتُ الموجع
والمُذِل
سيترك مكانَه
لفناءٍ هادئ
نقي
يتفهم الجميعُ
أسبابَه
ويُحيّي الجميعُ أناقته

لنفترض ما لا يُدرك
وقد صار في المتناول
الغريزةَ الجبارة
مَلَكَةَ العبقرية
تجعلانِنا
نَمُدُّ اليدَ
ليس كي ندَاعبه
كما في حُلُمٍ
بل لنُحكمَ حولهُ
القبضة

لنفترض
هَذِي المغامرةَ الخارقةَ
مِن جديدٍ
عَالياً تنطلق


من ديوان جديد قيد النشر
ترجمة عبد الهادي السعيد
strong>>

لنفتح عين القلب

1
تُرهبني الصفحات الكبيرة
أشطُرها نصفين
لأكتُبَ
أنصاف قصائد

تدوخني الأرض
آه لو كانت ثابتةً
مُسطَّحة

البدويُّ يحلم ببَيتٍ
والحضري بمطِية
أحلام توأمين

تائهان يلتقيان
يتبادلان نظرة خاطفة
ويتابعان سيرهما
كل واحد يدفع أمامه
ظلَّ الآخر

إذا أردت أن تهتدي إلى نفسك
عليك أن تضيع

الأراجيح
المعلقة بالنجوم
هي الأكثر صلابة

2
عوض ذبح كبش
عند ولادة طفل
لماذا لا نغرس شجرة؟

الأصفر ينتظر الأزرق
الذي تأخر برفقة الأخضرِ
الأبيضُ يبتسم
لهذا المشهد العادي
في ألاعيب الغرام

هذا النور
ليس للوصف
إنه يُشربُ أو يُؤكل

حياة الورقة
في ارتعاشها

ما هو الأجمل
اليدُ تنفتحُ
أم إغماضُ العينين؟

اللاّنهائي يكمُن فينا
ونحن
نَبعُهُ أيضا

ضاع القطار
كان يٌقِلُّ شاعراً

كم تتشابه البلدان
وتتشابه المنافي
خطواتك لا تتحدر من تلك الخطوات
التي تترك آثارها على الرمل
فأنت تمرّ
وكأنك لا تمر

3
من قال إننا نريد استبدال العالم ؟
لا نريد سوى احتمالِه
وبُرعمُ كرامة
في زاوية الشفتين

الموت بالمرصاد
والحياة كذلك

روحي مُلكي
فلِمَ أُسْلِمُها؟

حتى ولو كُنّا أبرياء
من دم القريب
يحصل أن نقتل الحياة
فينا
لأكثر من مرة

الهزائم
هي التي تعلمنا
العطاء

الشعوب السعيدة
ليس لها شعر

لنفتح عين القلب

علينا يوماً ما
أن نعتذر إلى الأرض
وننسحبَ
على رؤوس الأصابع


قصائد مختارة من دواوين متفرقة
ترجمة إلياس حنا إلياس والمؤلف

فواكه الجسد

1
جسدي غير المُدوزن
بأناملك اللاّزوردية
تُقلِّبين صفحات التوليفة
بارعةٌ أنت في الأداء
يغمرني التناغم
أنحتُ اللحظة قبل فوات الأوان

2
الشّفاه المُزهرة
أضحت نحلا نهما
مُشبعاً بالرحيق
من يمتصّ من؟
الزهرة أم النحلة؟

3
ركبتان مصقولتان
إلى هذا الحد
تعكسان القمر
وهو قيد الولادة
إنهما تعلنان نهاية رمضان
وقد بزغ للتّو هلال

4
أنتِ يا الغزال غير المُنتظَر
لم تخرجي من جدول
عند الغسق
لم تُغوني
بمنهل مليء بالذهب
لم أر حوافرك الخرافية
لنقلْها :
أنتِ نزلت من السماء

5
أنت تعطيني يدك
بكل معنى العطاء
وتعرفين جيدا إلى أي مدى
ستغامر يدي
ستباشر أولا
الرقبة الصقيلة
فتهبط لتضيع
بين آكام وهضاب
ثم تعرج صوب
اللؤلؤة العائمة
مقصفُ ملذّاتك

6
عندما أبادر
أطيعك ليس إلاّ
إذن
إملي علي
تعرفين أنني
ناسخ مقتدر

7
أتعبُ
أنا ؟
أنفرُ من الفعل الإلهي ؟
محكومٌ بالأشغال الشاقة
وأطلب المزيد

8
لم أنْحَنِ أبداً
أمام أي مُتجبّر
أمامك فقط
أنحني
يا سيدتي

9
في الحب
وفي كل الأعمار
لسنا سوى
مبتدئين

10
كل شيء طيّب
في فواكه الجسد
البِشرة
العصير
اللُّبّ
حتى النّواة
في منتهى اللذة

11
من لم يذُق
طعم المُحرّم
فليرمني
بالتفاحة الأولى

12
عندما يتطفّـل الفقهاء
المُعمَّمون أو غير المعممين
على الجنس
يقطع ذلك عليَّ شهيتي

13
بمشقة أقرأ
أسفار علم النكاح
فالرياضة البدنية تُقرفني
لو لم يكن الحب
اختراعاً
إبداعاً شخصيّا
لهجرتُ مدرسته

14
بورتريه لِسيِّدة
مع وليدها
عُمرُه ستّ سنوات
ربّما سبعة
وقد زاد حسنَها
حسناً

15
أولادي
يظنّون ربما
أنه لا دراية لي بالجنس
أنا لم أشك أبداً
في درايتهم

16
أَسقي بعناية
نباتات شرفتي
أُكلّمها
ألامسها
أُسمعها مقاطع
من الموسيقى العربية
من الجاز
من الطانغو
بتصرف الكوارتيتو سِدرون
أغنيةً لسِزارا إيفورا
أو لأماليا رودريغس
كلّها عنايات
تساوي تصريحاً بالغرام
سَيقال إنه شذود آخر
فليكن !

17
ماذا سيبقى بعد الاصطدام ؟
ماذا سنقرأ في الرماد
بعد الاحتراق ؟
الجسد انفك عن الجسد
الرّجُل مُلقى الآن
بجانب المرأة
كشجرة اقتُلعتْ من الجذور

18
طحلبكِ
يتعرّف على شجرتي
شجرتي
تضيع في غابتِك
غابتُكِ ترفع سمائي
سمائي تُعيد إليك نجومَك
نجومُكِ تسقط في بحري
بحري يهدهد زورَقَك
زورقُكِ يرسو على شاطئي
شاطئي هو بلادُكِ
بلادُكِ تبهرني
فأنسى بلادي

من ديوان فواكه الجسد (الأعمال الشعرية . دار ورد للنشر. دمشق. 2010)
ترجمة المؤلف

حِيَلُ الحي

هذا الطريق الوجيز
أمامي
يقرّبني من الليل
الخالصِ
الحقيقيِّ
الذي لا مناص منه
أُبطئ السير
أتظاهر
بتأمُّلِ المشهد
يا لها من حيلة !

أُقِرّ بذلك
ولا أُقرّ
ما أصعب التوقّف
وقد استأنستُ المسير
والنور قد أعلن أخيراً
عن زيارته
لا ليقف عند رأس السرير
بل لينحني
على مهد الكينونة

مؤونتي من هذا الضوء
أحملها إلى فَمِ
الطفولةِ
المراهَقةِ
الرُّشدِ
أحتفظُ باليسير منها
لتلك اللحظة
التي تمتدّ فيها
أرقُّ يدٍ رفيقة
لإغماض العينين
المفتوحتين ببلاهة

إياك أن تلتفت
إلى الخلف !
ليس هناك ليلٌ
تصعب مواجهتُه
ليس هناك ظلماتٌ
بدون خطِّ أفق

الرحيل
لن يكون أولَ تمزُّقٍ
ولا أول فضيحة
أهو حقاً
المنفى الأخير؟

أقول لنفسي
كُنْ مُتبصّراً
سأُحضّرُ إذن في الوقت المناسب
حقيبتي المتواضعة
سأضع فيها كتاباً أو اثنين
رقمَ اعتقالي
المنديل الأصفر لنَبِيّةِ أيامي
قارورةً من طيوب فاس
قشرة نارنج
حصاةً
التقطتُها من القدس
وما تكون الحبيبة
قد دسّتهُ فيها
دون علمي

آهٍ لو أن السكينةَ
هي التي ستكون بالانتظار
قد يصبح الرحيلُ نعمة

أستدير نحوكَ
أيها الخوف السحيق
فوق وجهكَ الأملس
أكتشفُ ما يشبه ظلاً
للابتسامة العصيّةِ على الفهم
التي طالما رافقَتْني
تتصلَّب قسَماتُكَ
بقدر ما أنفذ إلى كنهكِ
فيخفّ رَوْعي

مهما يكن
الاستمرار هو الأهم
علينا ألاّ نَنْسى
الخمائل التي تتحلّى بتلك الفضيلة
الكواكب غير المستكشَفة
التي تبحر بمشقّة فوق أمواج الأبدية
أن نَحمِي شعلةَ الشمعة الصغيرة
بقصائدنا العارية
أن نتحمل نار دموعِها
ونعرف كيف نمررها في الوقت المناسب
إلى مَن يأتي بعدنا

أن تحترق من الداخل
أو فوق مِحرقة
هو القربان نفسه
وإن كانت هنالك محض أسئلة
واختبار بالنار

النهايةُ ، البدايةُ
في قلبِ البشَر
ذلك الموطنُ الحُر
حيث لن نعودَ بحاجةٍ
للدلالة على أنفسِنا
إلاّ إلى اسمٍ واحد
حيث سيُسمَعُ صوتنا الواهي
في المجرات
وحيث سيكون للوعد
نبْرةُ القسَم

لنَسْرِعْ !
الحياةُ لا تنتظر

حتى لو كنا أبرياء
من دم القريب
يحدث أن نَقتلَ
الحياةَ فينا
أكثر من مرة

الحجاب
الذي يغطي عيونَنا
والقلبَ
المتاريسُ
التي ننصبها
حول الجسد المريب
الشَّفرة الباردة
التي نُقابِل بها الرغبةَ
الكلماتُ
التي نشتريها ونبيعها
في سوق الكذب المزدهر
الرؤى
التي نخنقُها في المهد
الجنونُ المُقدّس
الذي نحتجزه خلف القضبان
الذعرُ
الذي تبثُّهُ فينا البِدَعُ
الصّممُ
المرفوعُ إلى رتبةِ فنٍّ مستهلَك
ديانةُ اللامبالاة
المُقتسَمة إلى أبعد حدّ

رسُلٌ كثيرون
سيطرقون بابنا من جديد
هل سيوجَد أحدٌ
في البيت؟

أخبروني
تُرى نحو أي عدم
يجري نهرُ الحياة
ومتى استحممتُمْ فيه
آخرَ مرة؟

من ديوان اكتبْ الحياة (الأعمال الشعرية. دار ورد للنشر. دمشق. 2010)
ترجمة روز مخلوف