حوار مع محمود عبد الغني

أنت تمتهن مهنة غريبة : “الكتابة”.فأنت لا تجيد شيئا غير الإنتاج الرمزي، غير تأليف الكتب والإسهام في السجالات؟ ما المنفعة من وجودك؟ ككاتب ألا تطرح هذا السؤال؟

أنا أتساءل بالأحرى لماذا نطرح هذا النوع من الأسئلة؟ أليس من حقنا كشعب أن يكون لنا كُتاَّب؟ هل الكتابة من الترف إلى هذه الدرجة حتى نطرح على أنفسنا جدواها؟ نحن على عكس ذلك في أمس الحاجة إلى الأدب والفن والفكر أكثر من البلدان الغنية والمتقدمة، والتي تزخر بعدد هائل من المبدعين والمفكرين والعلماء. فما أحوجنا للكتابة بالنظر إلى مناخ اجتماعي وحالة نفسية وتركيبة ثقافية لم نتناولها لحد الآن بما يشفي الغليل.أجرؤ على القول بأن واقعنا الإنساني لازال حقلا بكراً بالمقارنة مع وقائع بشرية أخرى تم الكشف عن خباياها الأكثر عمقاً منذ قرون. شعبنا لا زال ينتظر من سيعبر بأمانة ودقة عن معاناته اليومية وتطلعاته، عما يزخر به تاريخه الخاص من تجارب وعبر، عن خصائص طبعه، طريقته في السخرية، نوعية الأسئلة التي يطرحها على نفسه، عن تجاربه في الحب، عن هلوساته وكوابيسه. وهو أيضاً، وفي أعماقه، لا زال ينتظر من سيكون صريحاً معه، ولم لا جارحاً، في نقد بعض تقاليده ومعتقداته البالية، وكافة مساوئه ونقائصه. المغرب إذن قارة إنسانية مازالت مطروحة للاكتشاف إلى حد بعيد. وتساؤلك نابع من الأوضاع المريرة التي يمر بها المغاربة نُخَباَ ومواطنين، الشيء الذي نتج عنه احتقار مدقع للنفس، أو على النقيض نزعة استعلاء غريبة، مبنية على الرياء والخواء. إزاء مثل هذه الأوضاع والحاجيات، يظهر بجلاء أن الكتابة هي بمثابة عملية إنقاذ حيوية لذاكرة وصوت شعب حُكِمَ عليه منذ قرون بالصمت. المنفعة من وجودي؟ القول بما أسلفته كأضعف إيمان، والقيام على مستواي المتواضع بإنجاز قسطي من ذلك البرنامج الشاسع.

ما هي أسرارك كشاعر؟ ما هي أدواتك وآليات عملك في ورشتك الشعرية؟

لا أرى غيوماً من الأسرار تمنع النفاذ إلى العناصر التي تتفاعل في ورشتي الشعرية. هنالك بالأحرى مجموعة من الشروط المسبقة التي أعمل جاهداً على توفيرها : المعرفة طبعاً، التي تشمل كافة الميادين، الأدبية والإبداعية أولا بأول، ثم الفكرية والعلمية. الجانب الآخر هو الاهتمام بالتاريخ وبتطور المجتمعات البشرية، مما يسمح باكتساب الأدوات التي تساعد على فهم ما يحدث في العالم، وبالتالي في الساحة الوطنية. بدون هذا الشرط لا يمكن أن يتكون لدينا الحس المدني أو الهم تجاه الشأن العام، فنبقى جراء ذلك متفرجين على الأحداث السياسية والصراعات حول المصالح التي تدور رحاها في مجتمعنا. الشروط التي أسلفتها هي التي تحدد عنصراً هاماً في الكتابة، ألا وهو الموقف. وهو عنصر قد ترفضه طائفة من الشعراء لاعتبارات تهمها، أحترمها لتشبثي بحرية الكاتب دون أن أشاطرها البتة. أصل بعد هذا إلى عناصر أخرى ذاتية محضة، مرتبطة ببنيتي النفسية وقصتي الخاصة مع الحياة التي عشتها لحد الآن، باختياراتي في مراحل دقيقة، باكتشافي التدريجي لعوالمي الداخلية وحتى طريقة اشتغال جسدي وحواسي. وهي مرتبطة أيضاً، في شعوري ولاشعوري، بتردد عدد من الأحاسيس والرؤى لا أدري من أين هي آتية، مما يفرض علي الاشتغال على دلالتها ومنطقها العجيب. ومن ضمن ما تكَوَّنَ لدي إثر ذلك من حدس يشبه اليقين، يتعلق بالذاكرة. ولا أتحدث هنا عن الذاكرة الفردية بل الجمعية. لي هكذا شعور في أعمق أعماقي بأن أجزاء أو شذرات من تلك الذاكرة البشرية تراودني في المنام واليقظة وتخبرني عن مختلف مراحل تكون عجينتي الإنسانية، من الذرة ثم الخلية إلى الجنين، العضو، وهلم جراً حتى إرهاصات الوعي. في تلك الحالات أجدني أيضا شاهداً على حلقات معينة من تطور النوع البشري، المأساوية منها والمشرقة. (أشير إلى أن الديوان الذي تظهر فيه هذه التجربة بكل جلاء هو شذرات سفر تكوين منسي). ومن هنا يأتي ربما انكبابي على جانب آخر لمسألة الذاكرة في واقعنا المغربي بالتحديد. شدني في المنطلق ما لمسته أثناء تفحصي لحالتي الشخصية. لقد ولدت وترعرعت في الوسط الاجتماعي لمدينة فاس العتيقة، وكل ما عاينته وسلكته خلال تلك الحقبة، أشعر وكأنه ينتمي الآن إلى عالم غمره الطوفان. التجربة الإنسانية، الطقوس الاجتماعية والثقافية، اللغة الخاصة بالفاسيين، كل ذلك صار يختفي من الذاكرة الجماعية. لذا استبدت بي الحاجة للقيام بعملية إنقاذ( يمكن تتبع بعض حلقاتها في كثير من أشعاري وطبعاً في روايتي قاع الخابية). هذه إذن بعض العناصر التي من شأنها أن تساعد على التنقل والاكتشاف في ورشتي الشعرية.

عندما أتأمل مسارك يقودني تأملي إلى استفسارك حول مفهوم من المفاهيم الأساسية والتي تؤمن بها وتمارسها بشكل من الأشكال سواء في كتابتك الشعرية أو الروائية، هذا المفهوم هو الحداثة في الشعر على الخصوص، على اعتبار أن العديد من الجوانب في حياتنا لا حداثة فيها.

لست من المصابين بهوس ما يسمى بالحداثة، وذلك لسبب بسيط. فسؤالها لا يمثل أمامي ضمن الأسئلة الملحة أثناء الكتابة. هذا عن الحاضر. أما عن البدايات، أرى من الضروري بسط بعض الحقائق التي لم يُنتبه إليها في حينها ولم تُأخذ بعين الاعتبار لحد الآن. عندما طُرحتْ المسألة بدءاً في المشرق وبعد ذلك في المغرب، كان الأمر يتعلق بمهمة ملموسة تخص الحقل الأدبي العربي، وأقولها صراحة لا تعني مباشرة ما بدأ يُكتَبُ آنذاك بلغة غير العربية في المغرب وباقي الأقطار المغاربية. مشروع الرواد في المشرق كان هو مواكبة ما تم إنجازه على هذا المستوى في الغرب. الشيء الذي نغفله هو أن قطار الحداثة كان قد انطلق هناك منذ ما يقارب القرن عندما ظهرت عندنا الحاجة للالتحاق به وركبه. أما الكتابة باللغة الفرنسية فكانت تواجه تحديات من صنف مغاير. لقد تأسست منذ المنطلق على الرصيد الحداثي المتوفر في الحقل الإبداعي والثقافي الفرنسي والغربي عامة والذي بدأت تطرح فيه آنذاك مهام جديدة، من جملتها مسألة ما بعد الحداثة. لكن رغم الاستفادة من ذلك الرصيد، وبحكم التجربة الاستعمارية، وجد الكاتب بالفرنسية نفسه في وضع يفرض عليه تحدي الهيمنة الثقافية برفض النمذوج الغربي كشرط لخوض مغامرته المستقلة وتكوين نماذجه الخاصة بالتدريج. نرى إذن تبايناً واضحاً في الأوضاع والحاجيات تبعاً للغة التعبير. آمل أنني أوضحت بما فيه الكفاية السبب الذي يقف وراء عدم انشغالي بقضية الحداثة، على الأقل بالفهم الذي يطرح بها عادة عندنا. هذا مع العلم بأنها، بعد مرور بضع عقود على تناولها المستمر، وصلت إلى حد الاستهلاك والعقم. وعودة إلى مساري الخاص، أرى أن ما كان يهمني في المنطلق ليس يافطة أو موضة، وحتى تخلفاً أو تقدماً. لأن الأمر في تلك المرحلة من استرجاع الكرامة الوطنية كان يتعلق بأمر أن نكون أو لا نكون، فكريا و ثقافيا وأدبيا. الكتابة كانت تعني بالنسبة لي عملية تكوين ونحت للإنسان الذي كنت أصبو إليه، إنساناً جديدا متحررا من الهيمنة ومن كل ما يمت بصلة للتقليد، من كل ما كان ينفي عنا غنانا الخاص وتفردنا.

الأسئلة التي تشدني اليوم أجدها بعيدة عن هذا النقاش. إنها بسيطة، لكنها حيوية وملازمة لوظيفة الكاتب منذ البدايات: ما هي القيم المؤسسة لعمله؟ هل استوعب اللحظة التاريخية والشرط الثقافي الذي سمحت له الصدفة الموضوعية بأن يعيشها ؟ بأي شكل وبأي قسط ساهم في تطوير الأدب؟ هل استطاع فعلا ابتداع لغته المتميزة؟ إلى أي حد استطاع تجاوز الإقليمية والاقتراب من أفق الكونية؟

لي ملاحظة أخيرة في هذا الموضوع. علينا الآن أن نقيس خطاب الحداثة المألوف بنتائجه. منها الإيجابي وهذا ما لا غبار عليه، ولكن هنالك أيضاً السلبي.أنظر مثلا الإنتاجات الغزيرة التي توضع تحت شعار الحداثة. لقد دخلنا مرحلة تحولت فيها روح المغامرة التأسيسية إلى ما يشبه الردة: اعتماد قاموس لغوي متشابه، طغيان النزعة التجريدية، السقوط في بلاغية شعرية من نوع جديد تفوح منها رائحة القديم، النفور من الواقع باعتباره موضوعاً يسيء للشعر، الدفاع عن الغموض كشرط من شروط الخطاب الشعري، إقحام الفكر والخطاب الفلسفي كعنصر مرافق ولازم لـ “عمق” الرؤية، وهكذا دواليك. ونتيجة لذلك فشعرنا بدأ يفقد تلك الشحنة الحيوية وذلك الصدق اللذين بدونهما لن يستطيع أن يصل إلى عامة الناس، أو على الأقل المتعلمين منهم. من هنا “أزمة” القراء التي يتباكى حولها الجميع.

إن الشاعر الحداثي، أو على الأقل الذي يستوعب الحداثة بكل ملابساتها، هو الذي يسعى بلا انقطاع إلى تفجير اللغة حسب تعبير أدونيس. وما دام عصرنا هو عصر الأفكار، ألا تسعى إلى تفجير اللغة والأفكار وأنت في طريقك إلى النص الشعري؟

قمت فعلا بذلك مع شعراء آخرين من جيلي ضمن مشروع يختلف في المنطلق عما طرحه أدونيس. وقد بيَّنْتُ في جوابي السابق الشروط الموضوعية التي تقف وراء ذلك التباين. لكن وإن اختلفت الأوضاع والمهام في المنطلق، فالالتقاء أصبح قائما ومنطقياً فيما بعد. فالشعر العربي الحديث قام على يد رواده ومن تلاهم بعملية تسريع مدهشة للتاريخ الأدبي، إذ قطع في عقدين أو ثلاث المسافة التي كانت تفصله عن الحداثة الغربية. وهكذا وجدنا أنفسنا، بعد مرحلة العنف والصخب الأولية، أمام نفس التحديات خصوصاً وأن الأوضاع السياسية العربية وبالتالي الثقافية دخلت في مرحلة التدهور الذي نعيش أوْجَهُ في واقعنا الراهن. من ثم أطرح اليوم بأنه لا يمكن حصر التحديث في عملية تفجير اللغة. وحتى هذا الجانب أصبح يتطلب مزيداً من التمحيص. ماذا نفجر بالضبط في اللغة بشكل عام، وفي اللغة الشعرية بشكل خاص؟ التفجير ينطلق منطقياً من اعتبار أن هنالك قيودا يجب التخلص منها. فما هي تلك القيود؟ أيتعلق الأمر فقط بما تقادم من القاموس اللغوي؟ من إكراهات في قواعد الإعراب و العروض ؟ من نزوع إلى البلاغة؟ المهمة في رأيي ليست تقنية فحسب، ولو أن هذا الجانب له أهميته. علينا أن نتناولها في شموليتها باعتبار أن اللغة كما هو معروف مؤسسة قائمة الذات مبنية على ما تراكم فيها عبر العصور من خصوصيات ثقافية ومعتقدات، ومتفاعلة مع البيئة الطبيعية والإنسانية التي ولدت فيها. على هذا الأساس فالمطروح هو كيف نُقيِّمَ تلك المؤسسة وكيف نتعامل معها. إذا نظرنا إليها مثلا كما ذهب إلى ذلك البعض على أنها النواة الحقيقية والمركزية للهوية التي لا يقبل أي مساس بها، يصبح من العسير على الكاتب الذي يدافع عن موقف كهذا خلخلة اللغة بكل عزم ويقين. أؤكد هنا أن الأمر لا يعني فقط اللغة العربية كما يمكن أن يتبادر للذهن، بل كافة اللغات،(على سبيل المثال نجد نفس التصور عند الدعاة المتشددين للفرنكفونية). من هنا أطرح شخصيا تحليلا قد يبدو غريباً أو مشيناً لمن يتغنون باستمرار بالعبقرية الفريدة للغتهم ويأمرونك بتبجيلها ومبايعتها دون تردد ولا مناقشة. على عكس ذلك التٌقديس، أرى أن علاقتنا باللغة يمكن أن تكون علاقة صراع بكل مواصفاته، الهدف منه تطويعها لخدمة مشروع تشكيل ونحت لغتنا الخاصة. وبشكل آخر يمكن أن أتصور اللغة كمنزل نستأجره لمدة، له أسسه و جدرانه وغرفه وسقفه، لكننا نحن الذين نُعَمره ونختار كيفية صبغه وتأثيثه وتنظيم حياتنا الخاصة فيه، ونحدد في آخر المطاف وظيفته. في الختام، أكرر أن التحديث لا ينحصر في الاشتغال على اللغة كيفما كانت المنهجية التي اعتمدناها. علينا أن ننتبه إلى أبعاد أخرى أصبح لها في اعتقادي، ضمن واقعنا الراهن، مركز الصدارة تتعلق أساساً بالمضمون، بالرؤية، وما أسميته من قبل بالموقف. حداثة الكاتب من هذا المنظور مشروطة بسَعة ثقافته العامة، بمدى وعيه بنوعية المرحلة التاريخية التي نجتازها وبالتحولات التي نتجت عن ذلك في الوعي الجماعي، في الحاجيات المادية والروحية، في الأذواق والسلوك، في العلاقات الإنسانية، ومن ضمنها طبعاً العلاقة بين الرجل والمرأة. لا حداثة عند الكاتب إن لم يكن قد استوعب تلك المعطيات ولم يقم كفرد بثورة داخلية على البنية الذهنية والنفسية التقليدية المتأصلة فيه، إن لم يكتسب منظومة أخلاقية جديدة تجعل ما يدعيه من حداثة في كتاباته منسجما مع ممارسته الاجتماعية والمدنية، ومع سلوكه في محيطه الأكثر حميمية. وهذا الانسجام هو الذي يمنح للموقف في الكتابة صدقه ومشروعيته.

دائما عندما نتحدث في مجال الأدب نجد أنفسنا أسرى لبعض المواضيع التي اعتقدنا أننا ناقشناها وانتهينا منها. من مثل هذه القضايا مسألة الآخر، القارئ. ففي شجون الدار البيضاء و الشمس تحتضر يحضر لديك هاجس الحوار مع الآخر الذي هو القارئ في هذه الحالة. فأنت تقوده من يده وتطور معه أفكارك ولغتك. الشيء الذي يجعل من قصيدتك مليئة بالطعم، وكلما كثر الطعم، كثر الصيد.

لقد أثرتَ هنا مسألة تحظى عندي بالمركز في اهتماماتي. أنا أصبو دائما إلى جعل القارئ شريكاً لي، وإذا أمكن فاعلا في مغامرتي أثناء الكتابة. وهذا الحرص أو تلك الحاجة تنطلق من كون النتاج الأدبي أصبح ضمن النظام الثقافي العالمي الجديد بضاعة كسائر البضاعات، يخضع بدوره لمستلزمات الكسب المادي. بهذا المنطق يتم التعامل مع القارئ وكأنه زبون لا غير، وهذا التحول يؤثر بدوره على ممارسة الكتابة وعلى أخلاقيات العديد من الكتاب الذين يلهثون وراء الشهرة و الربح. لحسن الحظ أن الشعر، نظراً لتقلص رواجه بل تهميشه، قادر أكثر من الرواية مثلا على النجاة من عملية التسليع التي تحدثتُ عنها. وهذا يكسب الشاعر حرية أوفر من تلك التي يتوفر عليها الروائي المطالب من مؤسسات النشر والتوزيع بنمط معين من الخطاب الأدبي يستسيغه القارئ العجلان الذي رُوِّضَ مسبقاً على منتوج نمطي، يقضي برفقته وقتاً من التسلية عن همومه اليومية. ما أحاول شخصياً هو تكسير هذا المنطق الجهنمي وخلق شروط أخرى للقراءة تحفظ كرامة القارئ وحريته وتجعل منه في نفس الوقت مرافقا وأنيساً. هاجس الحوار مع الآخر طبيعي إذن. نحن نكتب بالمادة الإنسانية لذلك الآخر، نكتب معه ومن أجله. الشعر لا يأتي من الغيب، بل ينبت في التربة الإنسانية ويطلع منها. رغم أن الكتابة هي أيضاً بنت العزلة والوحدانية. عندما نكون أمام الصفحة البيضاء لن يأخذ بيدنا ولن يشفع لنا أحد. لكن تلك العزلة بدورها مليئة بالحضور الإنساني. عندما نكتب، نكون في نوع من الحوار الصامت مع الآخر، مع القارئ المحتمل. لذا فإن الكتابة بدون قراء، عملية مبتورة. زد على ذلك أنه عندما ينشر النص، فإنه يبدأ مغامرة ثانية لا نتحكم فيها نحن. إنها مغامرة عبر القراء والقراءات المتعددة. وهذا أجمل ما يمكن أن يحدث للنص بأن يصبح متعددا ومواكباً للحاجيات الإنسانية عبر الزمن. كل ذلك يجعلني بصراحة غير مستاء لكوني أمارس مهنة كاتب.

ترجمتْ جل أعمالك شعرا ورواية إلى اللغة العربية. هل سرقت منك الترجمة شيئا ما؟ هل ضيعت جزءا أو أجزاء من نصك؟

لا أشتكي من سوء حظ على هذا المستوى. ففي غياب المؤسسات عندنا التي توظف الإمكانيات والكفاءات اللازمة للقيام بهذه المهمة الدقيقة والحيوية، لا يسعني إلا أن أعبر عن امتناني للأصدقاء و المحبين الذين ترجموا بعض كتبي لحد الآن، وعموماً دون مقابل مادي يذكر. هذا مع العلم بأن المادة التي لم تنقل بعد إلى العربية تناهز تلك التي ترجمت. لكنني أقابل هذا النقص بالعناد المعروف لدي. فلن يهدأ لي بال حتى تكون أعمالي برمتها في متناول القارئ العربي. مؤخراً، انطلقتُ في هذا المشروع مع دار ورد السورية وتمت إعادة نشر عدد من الأعمال التي قمت بمراجعة دقيقة لها حتى في بعض تفاصيل ترجمتها. تم كذلك نشر كتابي الأخير شاعر يمر ولأول مرة بالعربية والفرنسية في نفس الوقت. هذه العملية تكتسي أهمية قصوى بالنسبة لي لأن القليل من الأعمال التي نشرت لي في الماضي نفذت منذ زمان، مما يشكل الانطباع بأنها أصبحت غائبة. لي إذن طموح في أن يجدد القارئ معرفته بما نشر لي من قبل( أو يكتشفه بالنسبة للجيل الجديد) وأن يستدرك ما ضاع منه لعدم ترجمة الأعمال المتبقية. لكم عانيت، في العقدين الأخيرين، من هذا الوضع الذي جعل مني إشاعة أدبية أكثر من كاتب يقرأ فعلا وبانتظام مواكب لانتظام إنتاجه.

أما عن “الضياع” إثر الترجمة، فهو يبقى في رأيي نسبيا مقارنة مع الكسب. ولربما أن أهم كسب في نظري هو ما قد تنقله نصوصي المكتوبة أصلا بالفرنسية إلى اللغة العربية من صيغ ودلالات وإيقاعات وأنغام غير اعتيادية في لغة الضاد.وأملي هو أن ينتبه لذلك القارئ العربي المتمرس والمتسامح أيضاً تجاه بعض التفاصيل التي لا تمس جوهر النص. أشير في نفس السياق إلى أن القارئ الفرنسي مثلا واع تمام الوعي بما تكسبه معي لغته الأم بفضل حضور اللغة العربية الطبيعي عندي أثناء الكتابة وتشغيلي لمخيلتي الثقافية الأصلية في نفس العملية. وعموماً، أستطيع القول بناء على تجربتي الطويلة في مجال الترجمة بأن الربح الذي نجني منها هو ربح حضاري فوق كل شيء. إن الترجمة أسمى شكل للتقارب والتآلف ما بين الثقافات، وحركة الترجمة في أي حقبة تاريخية وفي أي منطقة من العالم هي إحدى المؤشرات الدالة على مستوى التقدم المجتمعي والازدهار الحضاري لأي شعب. لو أردنا أن نقيس حالتنا في المغرب (وحتى في باقي العالم العربي الآن) بهذا المقياس لاستبد بنا الغم،  واستدعينا النائحات.

 ما هي نصائحك ووصاياك للكتاب الجدد، على طريقة فارغاس يوسا وريلكه، إذا صح أن في الكتابة وصايا وصائح؟

– كُنْ وفياً للكتابة بحضورك اليومي وبقبولك الطيع لكافة متطلباتها. ضَعْها في المركز، ونَظِّمْ حياتك على هذا الأساس.

– اعملْ على التحلي بقيمها: اليقظة المستمرة، السّعيُ الدؤوب، الصدق مع النفس كشرط للصدق مع الآخرين، السؤال الذي يعلو على الجواب، الرفق بالكلمات الجريحة.

– لا تأْبَه بالموجات الصاخبة والعابرة. إزاءها لا تتردد في أن تكون “متخلفاً”.

– اجتنبْ السلطة، كيفما كانت. وإن هي حاولت امتصاصك، قاومها مهما كان الثمن.

– أكتبْ بقدر، واقرأ بقدرين.

– القواميس ليست إلا مقابر للكلمات. ازرعْ فيها الحياة.

– احترسْ من اللغة الجاهزة. لا تبايعها. صارعها، قصد إبداع لغتك الخاصة.

– تجنبْ الشعرية إن كنت شاعراً، ولا تتخل عن معين الشعر إن كنت روائياً.

– كنْ أشَدَّ نُقّادك.

– انظرْ لما تكتب كرغيف متواضع مُعَدٍّ للاقتسام. اعتَبِرْهُ مِلكاً عميماً وليس خاصاً.

– لا تَبْقَ سجين محيطك. اخرجْ، غادرْ، ابتعدْ. لا تأبه بالحدود ولا تخف من الضياع، فالأرض كلها وطنك، والبشرية كلها شعبك.

– في كل ما تقوم به وأينما ارتحلت، لا تنس من أين أتيتَ: الأرض- الأم التي أنجبتك، سلالتك الإنسانية.

– حتى لو أصبحت شيخاً، لا تُفَرِّطْ في الطفل الذي كُنتَهُ، وفي أحلام الشباب.

مقتطف من القراءة العاشقة (دار ورد للنشر. دمشق. 2010)
ترجمة روز مخلوف