حوار مع رشيد المومني

ما رأي الصديق الشاعر عبد اللطيف لو نستهل حوارنا بسؤال تقليدي، يدعوك لاستعادة خطواتك الأولى باتجاه أرض الكتابة، حيث التقيتَ لأول مرة بالشاعر المقيم فيك، ذاك الذي ستكتشف معه سحر أبجدية كان لها الفضل في صياغة حروف إسمك الشخصي؟

لا أذكر بالضبط متى تَمَّ ذلك الموعد، وأحترس على العموم من تلك القصص، إن لم أقل الخرافات، التي يحيكها بعض الكتاب وحتى العظام من بينهم، ليبينوا عن عبقريتهم المُبكِّرة ونبوغهم منذ نعومة أظافرهم. علينا أن نكون متيقظين إزاء ذاكرتنا، لأنها ميالة إلى دس آياتها الشيطانية في نفوسنا الميالة بدورها إلى مرايا النرجسية الخادعة. لذا أود الانتقال من الخاص إلى العام لأطرح في هذا الشأن ما أراه قاعدة: إن هوس الكتابة وكافة أشكال الإبداع الأخرى يستوطنا منذ اللحظة التي نشعر فيها بتَفرُّدنا كأشخاص ضمن المجتمع الصغير و الكبير الذي نعيش فيه. وعندما نعي بذلك نجد أنفسنا، أحببنا ذلك أم كرهناه، في موقع جديد علينا، ألا وهو الهامش. من هذا الموقع نبدأ تأملنا الحقيقي للذات والمحيط و نصطدم بالسائد والمُجمَع حوله من المعتقدات والقواعد والسلوكيات. ومن ثم يبدأ البحث عن الأداة التي يمكن التعبير بواسطتها عن الوعي الذي تكون لدينا

إذا كنت واثقا من القاعدة التي أسلفتها، فليس لي أي جواب على السؤال الذي يتبادر للذهن بعد ذلك: لماذا ينتاب ذلك الشعور بالتفرد شخصاً ما وليس غيره؟ إنه نوع من النداء الداخلي لا نعرف من أين هو آت ولا نستطيع سبر كُنهه، وهو  سر من أسرار الإنسان، ذلك المخلوق العجيب.

هذا عن البدايات أو الموعد الأول مع الكتابة. أما عن المسار فيما بعد، فالأمر يختلف حسب الكُتاب طبعاً. هنالك من سيغادرون الهامش عن قصد، لمحاولة غزو مركز ما. نرى من بينهم من يستعملون وظيفتهم كسلم للترقية الاجتماعية والمادية ولاكتساب الجاه والشهرة. وهنالك شريحة أخرى، أقل عدداً، تفهم بشكل مغاير تلك الوظيفة وتعمل جاهدة على صونها من المغريات المُخِلّة بجوهرها. وهذه الأخيرة محكوم عليها، عموماً، بشكل أو آخر من الهامشية. لقد سبق لي أن كتبت إزاء هذه المعادلة ما يلي: ” قد يكون المركز الحقيقي هو الهامش.”

بعد محنتك السجنية التي دامت ثماني سنوات ونصف(72/80) والتي كانت حافلة بالعطاء، أصبحْتَ دائم السفر والتجوال في مدارات الكتابات والحياة والأمكنة واللغات، دون إغفال سفرك في الشبكة العنكبوتية. فهل ثمة مجال للحديث عن منفى ما؟

قصتي مع المنفى رواية حقيقية كتبتها على دفعات منذ زمن طويل ولا زلت أكتبها لحد الآن(أحيل مثلا على يوميات قلعة المنفى، مجنون الأمل، تجاعيد الأسد، شجون الدار البيضاء، الهوية شاعر، الخ…). آخر حلقة منها يمكن مراجعتها في شاعر يمر الذي صدر حديثاً. ماذا يمكن أن أضيف؟ ربما أن هذه الرواية التي أستطيع اليوم قراءتها كقارئ شبه عادي تحكي عن تجربة قاسية، مضنية، وفي نفس الوقت مشوقة وغنية إلى أبعد حد. لقد أمدتني في نهاية المطاف بخبرة في شؤون الوضع البشري لم تكن لتتوفر لدي لو بقيت “حضريا” ولم أعش ظروف الكائن المبعد والمرتحل على الدوام.اكتشفت مثلا بفضلها أن حالتي ليست شاذة أو استثناء. إنها تجمعني بفصيلة من النوع البشري يزداد عددها باستمرار وتتكون من أفراد وجماعات منحدرة من كافة الشعوب وأقطار المعمور. كما أنها تجمعني والعديد من المبدعين الوافدين إلى “المركز” من “الهوامش”. إنها فصيلة تبحث عن هوية إنسانية جديدة ورحبة خارج أسوار الانتماءات الضيقة دون أن تحيد عن التزامها بحق الشعوب في الحرية والعدالة والانعتاق من كل أشكال الهيمنة، ودون أن تفرط في حقوق الفرد عندما تصطدم حاجاته ورغباته بالسلطة أو المجتمع السالب للحريات.

إنني أصف هنا مكاناً أو موقعاً له تمايزه ضمن الوضع البشري. هل يحق لي الاستمرار في نعته بالمنفى؟ صدقاً لا. لقد استوطنت منذ زمان ما أسميته بـ المابين، وأصبحت إنسان ذلك الـ مابين، دون تمزقات مُشلَّة لطاقاتي في العطاء ولا انفصام مأساوي في الشخصية. أعرف أن هذا لن يروق من يعتبرون المثقف والمبدع مِلكاً خاصاً لهم بمجرد أنه يحمل نفس بطاقة هويتهم الوطنية. هل من الممكن أن يتخيلوا أن المبتغى هو أن ينجز ذلك المبدع والمثقف ما يؤهله كي يصبح ملكاً للبشرية جمعاء؟

في تضاعيف نصوصك الشعرية والنثرية أيضا، تتوهج دونما كلل إشاراتك التعريفية بجوهر الكتابة، بجماليتها وتعدد وظائفها المحددة في فضح كيد التاريخ والانتصار للإنساني المغيب في ظلمة الإقصاء. هل ثمة لديك من تعريف آخر للكتابة يمكن أن تتداركه في هذا الحوار؟

كفاية ما كتبته في الموضوع لحد الآن. أنا لست من المولعين بالتنظير في هذا الشأن. لماذا نطلب من الكاتب أن يكون أيضاً فيلسوف إنتاجه؟ العديد من تلك التعاليق التي يغامرون بها أجدها مغرقة في الذاتية، ناهيك عن النرجسية شبه العادية التي تشوبها. الخطر في ذلك هو تشويش قراءتنا لنص الكاتب، إذا كنا قراء حقيقيين أو الاكتفاء بالتعليق عوض النص في حالة القارئ العجول أو الكسول. أعتقد (وهذا الطرح ليس تخريجة جديدة) أن أفضل نظرية حول النص هي تلك المُتضمَّنة فيه والتي على القراءة الذكية والمرهفة حساً أن تكتشفها في طياته. غير أن النظرية الصرفة لا تكفي لوحدها لاستيعاب أغوار النص وأبعاده المختلفة. ما سبق لي أن أسميته بـ “القراءة العاشقة” وحدها كفيلة بجعلك تتذوق النص بالحواس الخمس المعروفة وربما بحواس أخرى لا نشغلها إلا ناذراً. القراءة المُثلى تتم عندما نتوحد مع النص و نستسلم له لينقلنا إلى أعماقه وكنهه. للأسف، ليس هذا هو الجاري به العمل، خصوصاً عندنا.

من ضمن ما توحي به القراءة المتأملة لنصوصك، قابلية كل ماله صلة بالحياة، بالحرية وتخريب الجدران العازلة لأن ينقال شعرا. هل هذا هو سر الغزارة الملموسة في إنتاجك الإبداعي والفكري ؟

فعلا، أحد سماتي ككاتب هو عدم التخصص في جنس أدبي على حساب الآخرين. لست متعصباً لا للشعر ولا للرواية مثلا. لا تعنيني تلك النزعة شبه الأصولية للإعلاء من شأن نوع أدبي و التقليل من أهمية الآخر. فلو أنني أُعتَبَرُ، من طرف الرأي العام الأدبي، شاعراً قبل كل شيء(و قد أوافق على هذا الانطباع دون تردد)، لن أخفي عليك بأنني أقرأ منذ عقود الرواية أكثر مما أقرأ الشعر، وأن الكتاب الذين فتحوا عندي شهوة الكتابة في المنطلق كان أغلبهم من الروائيين. أصل الآن، بعد هذه التفاصيل، إلى جوهر السؤال. ما يستهويني في الكتابة، أكانت لي أو للآخرين، هي المفاجأة. الشعور الحاد بأنني أمام نص في أتم الجدة على مستوى المعمار والنَّفَسِ والإيقاع والمخيلة. إن التخصص في نوع أدبي دون غيره يقلص من حظوظ عامل كهذا. لذلك تراني حريصاً على تشذيب المتاريس الذي يضعها البعض بين الأجناس الأدبية وأعمل بالأحرى على تلاقح تلك الأجناس والتفاعل الخصب فيما بينها. ما أصبو إليه، عندما أكون قد أتممت رسالتي الأدبية، هو أن يكون النتاج في مجمله عبارة عن سمفونية، تحظى فيها كل شريحة من الآلات بمجالها الحيوي وتبذل عطاءها الخاص من أجل إحداث التناغم المنشود. مع كل هذا، يبقى الشعر عندي هو آلة الأوركسترا المركزية و ضابط الإيقاع، إذا أردنا الإحالة على توزيع المهام في التخت العربي. إذن، الغزارة التي تحدثتَ عنها ناتجة عن ذلك التنقل المستمر بين الأجناس (هنا أشير أيضاً إلى إنتاجي المسرحي و في مجال الكتابة للأطفال، ولم لا إلى كتاباتي “النظرية” في موضوعات ثقافية وسياسية حتى).إنه سعي مستمر لاستكشاف الحقل الأدبي برمته على أمل استخراج بعض المعادن النفيسة والمجهولة التي لا زال يدخرها.

في سياق تشبيهك لتفاعل وتكامل الأجناس الإبداعية بالبناء السمفوني، هل لك أن تحدثنا عن مفهومك للموسيقى، وشكل حضورها في كينونة الشاعر عبد اللطيف، في ذاكرته، وفي لغته؟

لا أغار شخصياً ككاتب من فن آخر بقدر ما أغار من الموسيقى. فهي في رأيي الفن الأكثر اكتمالا في وسائله التعبيرية والأقوى تأثيرا وبشكل مباشر في النفس البشرية. ثم إنها معفية من لعنة برج بابل، فلغتها الكونية تخترق دون عناء سائر الثقافات. منذ زمان وأنا أشعر وكأني مصاب بعاهة لكوني لم أتعلم أصولها منذ الصغر، ولا أجيد العزف على آلة موسيقية. لن يفوتني هنا أن أشير إلى ذلك النقص الفادح في تربية وثقافة الإنسان المغربي رغم ما يقال عن ازدهار الأشكال التعبيرية الموسيقية عندنا. لكنه موضوع شائك آخر، أعرج عليه فقط.

أما عن حضور الموسيقى فيما أكتب فهو هَمٌّ مستمر أقابله يومياً. أنا مثلا أكتب بصمت ولكن بالجهر أيضا حتى عندما يتعلق الأمر بنص نثري أو روائي. كل بيت أو جملة أصيغها لا أستطيع التصديق عليها إلا بعد قراءتها بصوت عال عدة مرات. هكذا أشتغل لاقتناعي بأن العين لا تكفي لاستيعاب كل مكونات النص. أحتاج إلى اختبار آخر لا يتحقق إلا من خلال تفاعل الصوت بالأذن. وتجاوزاً لحالتي الشخصية، أرى فيما يخص الشعر بالتحديد أن هنالك نوعان من الموسيقى الملازمة له: الأولى يمكن وصفها بالخارجية، والثانية بالباطنية أو العضوية. ألاحظ أن الاهتمام في جل الدراسات ينصب عادة على النوعية الأولى وأنها، عند الإلقاء العمومي للشعر، تتصدر العوامل التي تجعل الجمهور يطرب له، خصوصاً في المحيط الثقافي العربي. وهذا ناتج في رأيي عن التأثير البالغ الذي لا يزال يمارسه التراث الكلاسيكي على إنتاج الشعر وتذوقه في عصرنا. الأذن العربية مؤطرة بتلك الموسيقى الخارجية، الخاضعة لما سمي بميزان الذهب وما يفرضه من “علوم” في ضبط الأوزان والقوافي. وحركة الحداثة نفسها، على الأقل في مراحلها الأولى لم تتخلص من ذلك التأطير نظراً لاعتمادها المنهجي للتفعيلة. ليس في نيتي هنا الحكم على هذا النوع من الموسيقى بالسطحية أو المجانية. أشير فقط لما قد يعتريه من تخطيط تقني مفتعل، مقحم في لحمة القصيدة و مشوش لعنصر الفطرة فيها، تلك الفطرة التي، لحسن الحظ، نبه القدامى إلى أهميتها القصوى. من هنا تراني أركز فيما أكتب على النوعية الثانية، تلك الموسيقى الخافتة والباطنية التي تنتج عن خيمياء معينة تتفاعل فيها عناصر أو معادن مختلفة: الصوت الداخلي، إيقاع تسلسل الصور والرؤى، أنين الأحشاء، حركة اليد فوق الصفحة وخشخشة الورق، ترانيم آتية من أعماق الذاكرة، أصداء جريان نهر الزمن، احتكاك الشكل بالمضمون، رقصة الروح في معمعة الكتابة. أظن أن تلك الموسيقى هي التي لها أعمق تأثير في الوجدان لأنها لا تهدهد القارئ أو السامع بل تتسرب إلى دواخله لتوقظ فيه جمرة السؤال والحنين إلى الجمال والتّوق إلى إنسانيته الكاملة.

تعتبر ذاكرة المكان مكونا مركزيا من مكونات شعريتك. طبعا، المكان المتسائل عن إنسانيته، الفرِحُ و المعذب بها. إلى أية شرفة من شرفات هذه الذاكرة أراك قريبا، أو بعيدا؟

الشرفة الأولى، التي لا مناص منها، تفضي إلى أزقة مدينة فاس العتيقة، البيت الذي ولدتُ فيه، حارة عين الخيل، مدرسة اللمطيين الابتدائية، حرم ومسجد المولى إدريس، سوق السقاطين الذي كان يكد فيه أبي الصانع التقليدي، مقبرة باب الجيسة المثوى الأخير للوالدة والوالد، عين عللو، أسفل زقاق الحجر، المكان الذي كِدتُ أن ألفظ فيه أنفاسي الأخيرة خلال مظاهرة وطنية وعمري آنذاك لا يتجاوز سبع سنوات. هذه الشرفة لم تفارقني قط أينما حللت و ارتحلت. الآن، وأنا أكتب هذه السطور، إنها ماثلة أمام عينيّ، وأقول مع نفسي: إذا كنتَ لا تعرف أين ستكون وجهتك الأخيرة، فعلى الأقل أنت واثق من أين أتيتَ. ومن أين أتيتُ؟ الأمكنة التي تحدثت عنها تبقى في آخر المطاف مسرحاً في الهواء الطلق، محفورا في الذاكرة والوجدان طبعاً. لكن الأهم عندي هو مَنْ كان يملأ ذلك المسرح بمعاناته اليومية وصراعه من أجل العيش الكريم، بجهله ومعرفته، بنقائصه ومزاياه، بنصه غير المكتوب واللاهج بلغة فريدة، مهددة اليوم بالانقراض، أعني ذلك الجزء من البشرية الذي أنا من صلبه والذي أضحى نصيبي من البشرية. لحسن الحظ أن الوسط الذي ترعرعت فيه كان في مجمله من البسطاء والمستضعفين. وهذا هو العامل الذي حدد فيما بعد موقع انتمائي الحقيقي ومنهج سلوكي واختياراتي.

الشرفة الثانية لا أدري في أي مكان أضعها: بين السماء والأرض؟ تحت الماء أو فوق اليابسة؟ في مغارة أو الربع الخالي من المعمور؟ إنها شرفة متنقلة باستمرار قد أغلقها أو أفتحها حسب المزاج والفضول أو الرغبات. وهي تطل على مسرح آخر، تارة في الهواء الطلق، وتارة أخرى في السراديب. أشعر بنفسي وأنا واقف أمامها بأني متلصص أحياناً، وأخرى بأنني خبير بكم عِلْمٍ، أمارس عمليات تشريح معقدة على ما أراه وأسمعه وأستوعبه. إنها شرفة المرتحل الساعي إلى محاولة فهم لغزه الخاص ككائن، الباحث عن معنى وجوده ضمن الوجود العام وإزاء لانهائية الكون العسيرة الفهم عليه. هي أيضاً شرفة الشاهد المتيقظ على الهمجيات التي تقترف يومياً والمفتتن في نفس الوقت بما أنجزته البشرية من خوارق، وعلى رأسها روائع الفكر والمخيلة.

لي شرفة أخيرة كدت أن أنساها، وهي شرفة الغرفة التي أشتغل فيها والمطلة على الحديقة الصغيرة التي تحوط العمارة. هذه الشرفة تسمح لي فقط برؤية شجيرات ثلاث ومربع صغير من السماء. لكنني لولاها لا أستطيع الكتابة. ما تسمح لي برؤيته حيوي على تواضعه. عندما أغرق أعيني فيه، أبحر دائماً نحو أفق تلتقي عنده الأبعاد الظاهرة الملموسة بالأبعاد الباطنية. لحظة، فتأتي الكلمات لكي أعانقها.

في الكثير من قصائدك حضور دائم لمديح الشبيه المفارق، بدل المنسجم والمتناغم مع هويتك، هل يعني ذلك محاولة ممكنة للتخلص من هيمنة الأنا عليك، أم هو محض هاجس البحث عن المنسي أو المفقود فيها ؟

أي كاتب عركته الصفحة البيضاء وعركها يعرف جيداً ذلك القرين الأليف الساكن فيه والذي يتدخل في النص حسب طقوسه وأهوائه الخاصة. قد يحيره ذلك القرين، وقد يخيفه أحيانأ، لكنه يبقى مع ذلك محاوره الأول والمباشر.العلاقة التي ربطتُها شخصياً معه تتميز بالاحترام، الود، واليقظة في نفس الوقت. أقبل معه بنوع من توزيع المهام لأنني أعرف أنه يقطن في مكامن من الذات ليس بمقدوري دائما النفاذ إليها. أضف إلى ذلك أنه قادر أكثر من أي كان على نصب المرآة في وجهي وجعلي أرى نفسي على حقيقتها المُرَّة أحيانا. إن صراحته تجاهي هي التي تمدني بتلك الطاقة على انتقاد النفس و توجيه السخرية لها قبل توجيهها للآخرين. ورغم ذلك، فإنني حريص على عدم إطلاق العنان له إلى درجة تهميش دوري والقدرات الخاصة التي أتمتع بها دونه.

هناك مسألة متقاربة يمكن طرحها في هذا الموضوع : القرين يوحي أيضاً بتلك الحروب الأهلية التي تدور رحاها في دواخلنا، ما بين الخير والشر، العطاء و الأنانية، الصدق والكذب، الحب والكراهية، التسامح والعنصرية، العصيان والخضوع، الشجاعة والجبن، الكسب والتقشف، الكسل والتعبئة الخ…الكاتب ليس من الأولياء والقديسين. إنه إنسان لا غير، تخترقه باستمرار تلك النزعات المتضاربة. لكن وظيفته تفرض عليه مصارعة جانبها المميت للعقل والروح، والدفاع عن القيم الإنسانية النبيلة. ونضاله هذا لن يحظى بالمشروعية على المستوى العام إن هو لم يقطع أشواطاً معتبرة في المعركة على مستواه الخاص. هنا بالضبط يمكن أن نتخيل القرين كحَكَمٍ نزيه، صارم و مشاكس في نفس الوقت يراقب حلبة الصراع عن كثب ويسجل على الكاتب أي تردد أو تنازل، أي إخلال بالقيم التي يدعي أنه المدافع الشهم عنها. يمكننا أيضاً أن نتخيله كناقد لا تنطلي عليه الحيلة وهو يقول: حذار من السهولة والتكرار، من الغموض المجاني والقاموس الجاهز، من الاستعلاء إزاء القارئ أو مغازلته، من الدمعة أو الصرخة التي لا تنبع من المشاركة في تمزقات ومحن من يعانون أكثر منك. حذار من الغرور نظراً لما تعتقد أنك أنجزته. سؤالك يسمح لي في الأخير بالقول بأن اكتشافي لذلك القرين واعترافي التام به شكل بدون شك إحدى التحولات الأساسية في تجربتي الخاصة، وهي التي أمدتني بحرية أكثر جرأة، بتيقظ دائم وبمعين من السخرية لا أود البتة أن ينضب. وتجاوزاً لمسألة القرين هذه، ألا ترى أننا نكتب بالمجهول فينا ومن حولنا أكثر مما نكتب بالمعلوم والماثل بوضوح في الوعي؟ إننا نواجه دائماً في عملنا ذلك الوحش الذي أوردته الأسطورة اليونانية (أبو الهول) الذي يطرح عليك اللغز تلو اللغز، وأنت تعرف مسبقاً أن بقاءك رهين بإيجاد الحل الصائب. من هنا جانب المأساوية في الكتابة لأنها تفرض عليك أن تضع رأسك أو حياتك في الميزان. إنها تنبذ السطحية والتساهل أو التلاعب، وتطالبك بأن تسخر لها حياتك دون أي مقايضة.

هل يمكن اعتبار ديوانك فواكه الجسد، الذي تحتفي فيه اللغة بتهتكها الخلاق، انتقاماً لنداءات دفينة، خفيضة وعميقة، كان صخب الواقع وعنفه يحُول باستمرار دون سماعها؟

نعم، ولو أن وعيي بوجود القرين الذي تحدثنا عنه، كان مبكراً. لكن الشروط العامة التي كانت تؤطر الكتابة في المراحل الأولى لم تسمح لي بالتمعن فيه ملياً و الإنصات لصوته المختلف. ضغط التاريخ. المحن التي اجتزتُها. ضيق الأفق. شروط العيش نفسها. ومع ذلك، فإن ديوان فواكه الجسد جاء تتويجاً لعدد من المقاربات لنفس التيمة متضمنة في أعمال سابقة عليه، شعرية و نثرية، لم يُنتبَه إليها للأسف. وهذا راجع إلى عوائد القراءة عندنا، المصابة بآفات عدة، وعلى رأسها ربما نزعة الاختزال. لطالما عانينا من وضع يمكن تلخيصه في هذه الجملة الموجعة :” أكتبْ ما شئتَ، سنقرأ منك ما شئنا “. يبقي أملي في أن تتحرر تلك القراءة من قيودها لترفع عن أيدينا نحن الكتاب فائض قيودنا.

أغلب المبدعين العرب المنتمين إلى تيار الحداثة وما بعدها وجدوا ضالتهم في الذاكرة التراثية وخاصة منها الصوفية. بماذا تعلل انصرافك عن هذه التجربة. هل بتبرمك من ركوب الموجات، أم باختيارات(شعرية وفكرية) مغايرة لاتلتقي بالضرورة مع اختياراتها؟

سؤالك ممتع. أستقبله كمفاجأة سارة لأنه ينأى عن الأبواب المطروقة ويلتقي مع إحدى الاهتمامات المركزية لدي. فالنص الشعري الذي يستوقفني هو المتضمن لمرجعيته الخاصة، المستقلة عن أي مرجع سابق عليه، كيفما كانت قوة وعبقرية ذلك المرجع. لذا أحترس من تلك الموجة (التي يبقى من الضروري الإلمام بمسبباتها ودلالاتها) التي اجتاحت جزءاً لا يستهان به من الشعرالعربي الحديث.لا تُعَدُّ تلك النصوص التي يستشهد أصحابها بشكل شبه آلي بذلك القطب أو ذاك من المتصوفة. المعضلة هو أن النص المستحدث لا يرقى إلا نادراً إلى مستوى المرجع المُستشهَد به. وهذا ما يحز في النفس. شخصياً، وهذا جانب من عناد طبعي الخاص، لم يسبق لي أن وضعت رأس أي نص لي استشهاداً يذكر، لسبب بسيط: فإما أن يكون النص الذي أكتبه قائماً بذاته، شكلا ومضموناً أو لا يكون. حرصي هو ألا أدرج عاملا خارجاً عنه وكأني أضفي على ما أكتب فائضاً من المعنى والعمق والتألق، أو أظهر سعة مرموقة وغزارة في ثقافتي. هذا مع العلم أن العديد من الاستشهادات التي تحدثت عنها قد لا تكون لها أي صلة منطقية أو عضوية بالنص المنضوي تحت لوائها، فيصبح الاستشهاد نتيجة لذلك نوعاً من الإدعاء أو الزينة لا غير.

أريد الآن أن أدلي بما يلي: التراث الصوفي(العربي والإسلامي وغيره من التراث العالمي) له عندي مكانة رفيعة. فبلإضافة إلى رسالته الروحية السامية وقوة صداه في الوجدان، ما يبهرني فيه هو حداثته العابرة للأمكنة والأزمنة، تلك الحداثة ما قبل الحداثة التي نَحَتتْ قاموسها اللغوي المتميز وشَغَّلتْ بإبداعية مدهشة كافة آليات اللغة المتوفرة في حقبتها التاريخية. منذ أكثر من عقدين وأنا أعب من رحيقه. قرأته طبعاً بالعربية، لكن بالفرنسية أيضاً مما سمح لي باكتشاف قدرته على اختراق اللغات والثقافات بشكل لم يستطع أن يحققه إلا نادراً الشعر العربي الحديث المترجم، على أهمية أصواته الكبرى. مسألة توظيف هذا التراث في الإنتاج الحداثي مشروعة إذن شريطة أن نقدم الإضافة النوعية، وذلك لن يتأتى إلا بحضورنا المتيقظ في واقع عصرنا واستبطان المكتسبات التي تحققت فيه على كافة مستويات المعرفة وكذلك المنجزات التي تمت في مجالات الفكر والإبداع. ومع كل ما أسلفت، فالعلاقة بالتراث وإن كانت خصبة ومثمرة في بعض الحالات فإنها ليست إلزامية. قد تطرح نفسها بإلحاح على ذلك الشاعر أو ذاك في فترة من مساره، ثم تأتي رغبات وتحديات أخرى لتحتل عنده الصدارة. تلك سُنَّةُ الإبداع ولا مرد لها.خذ حالتي الشخصية: لو كنت أقبل باليافطات لما استهجنتُ أن أُنعتَ بـ “المتصوف العلماني”. لكنني كما تعلم لا أطيق السجون كيفما كانت رحابتها. هويتي الشعرية تعكس حتماً هويتي الإنسانية. إنها متعددة، بتعدد ما أنجذب له ويستلهمني من القارة الإنسانية.

على امتداد مسارك الإبداعي تبدو علاقتك بالمؤسسات الثقافية بالمغرب،كما خارجه، ذات طبيعة اختبارية، عابرة ومؤقتة، وبعيدة كل البعد عن أي انصهار محتمل. إذا كان الأمر كذلك، فهل نؤوله بحاجتك الدائمة لاختبار حدود تنازلاتك، أم بمدى استجابتك لهاجس الاندماج؟

الاندماج في ماذا؟ حبَّذا لو كان الوضع الثقافي(ناهيك عن السياسي) القائم في المغرب يسمح بذلك. أنا لست مازوخياً ولا معتنقاً لديانة تسمى الرفض المبدئي.إنما للضرورة أحكام. عيشي مثلا في فرنسا ليس من قبيل المتعة، الارتخاء أو الرخاء، الشهرة، الربح أو ما شابه ذلك. لست من المتهافتين على سُبُلٍ اعتبرتُها تافهة منذ زمان ومؤذية لصدق العمل الإبداعي. هكذا على الأقل أفهم شرف المهنة. إنني أعيش هنا أيضاً في هامش اخترته منذ البداية. لا ألبي دعوات توجه إلي من طرف الرسميين وأتحاشى التقرب من أي كان، يمثل سلطة سياسية أو رمزية. الدار التي تنشر أعمالي من الدور المتواضعة في باريس. العمل الوحيد الذي نشَرتْهُ دار غاليمار المعروفة هو قاع الخابية. حقوق التأليف التي تذرها علي أعمالي وبعض الترجمات أكثر من متواضعة (ثلث الحد الأدنى للأجور في فرنسا). لذلك أضطر للقيام بعدة نشاطات قصد ملئ الطنجرة كما يقال. إنني لا ” أتمَسْكَنُ” هنا بطرح هذه التفاصيل بل لإعطاء صورة دقيقة عن وضع أفضله ألف مرة عن المكانة والامتيازات التي كان من الممكن أن أحظى بها في المغرب لو قبلت في مرحلة ما بالاندماج، أي الانخراط في السائد بشكل من الأشكال. الوضع الذي وصفته هو الأريح بالنسبة لي نفسياً وأخلاقياً، الضامن لاستقلاليتي الفكرية وحريتي ككاتب.لا تظن مع ذلك أنني أرقص ابتهاجاً لهذا الوضع. أشعر بقساوته أحياناً وبعبثيته حتى. كم مرة تهتُ في الخيال وتصورتُ مغرباً مغايراً، يُسَيِّرُهُ الذكاء و المخيلة الخلاقة والتفاني في خدمة الصالح العام، مغرباً مُعْتَرَفاً فيه بوظيفة المثقف ودور هذا الأخير في صنع الإنسان المتحرر من الجهل والشعوذة، الواعي بحقوقه وواجباته كمواطن، سيد أفكاره واختياراته، المنفتح على الآخرين والقابل باختلافهم، المقبل على المعرفة والإبداع كإحدى حاجياته الحيوية. أراني طبعاً بين ظهران ذلك المغرب/الحلم، أقدم كل ما ملكت يداي من حدس وخبرات ومعارف ورؤى، و أمارس على ضوئها يومياً في الواقع الملموس. لكن سرعان ما يتفتت الحلم فأصطدم بالمغرب المبتذل الذي سبق لي كم مرة أن صرخت في وجهه وكشفت عن عاهاته واقترحت أيضاً بعض الإجراءات العاجلة لإنقاذ بيته من الانهيار، وفتح نافذة فيه على الأمل وصنع مستقبل جدير بالعيش للأجيال الصاعدة. كل ذلك دون جدوى على ما يبدو، و لكن وأقولها في وجه الشامتين، دون أن ينال مني اليأس قيد أنملة.

كانت القضية الفلسطينية وماتزال، أحد أسئلتك الإبداعية والفكرية الكبرى، ماذا جدَّ في هذه الأسئلة على ضوء ماتعيشه القضية حاليا من تصدعات ؟ ثم ماذا بعد رحيل الشاعر الكبير محمود درويش؟

قلت مراراً أن القضية الفلسطينية كانت هي المولدة الحقيقية للوعي السياسي لدي، ذلك الوعي الذي يتجاوز الفهم الضيق للسياسة ويطمح إلى الإلمام بواقع الوضع البشري بشكل عام، بالتناقضات والقوى الفاعلة في مجرى التاريخ، وبطبيعة المعارك التي لا مناص منها قصد التحرر من كل أشكال القهر والعبودية وبناء المجتمع البشري الذي تسود فيه قيم العدالة والمساواة والإخاء، والإبداعية أيضاً. إذن، القضية الفلسطينية هي التي جعلتني أفهم أن ما كان يحدث في المغرب خلال الستينيات (ومن أبرز تلك الأحداث مجزرة مارس 65 في الدار البيضاء) ليس معزولا عما كان يجري في أقطار ومناطق أخرى من العالم، وأن الفهم الدقيق لتلك الأحداث “المحلية” لن يتأتى دون الإلمام بما يُتصارَعُ حوله قومياً وعالمياً من مصالح و ثروات وسبل للسلطة والهيمنة. هذا على المستوى الفكري العام. أما عن الخاص، فتعرفي المباشر على شرائح مختلفة من الفلسطينيين(و ضمنهم طبعاً المثقفين والكتاب) جعلني ألتحم أكثر بقضية شعبهم إلى حد الانصهار والانتماء الطوعي . شعرت معهم بقوة الأخوة وبحميمية لم أعشها من قبل حتى مع مواطني المباشرين. أحببت تفانيهم في خدمة شعبهم، سعة أفكارهم، سماحتهم إزاء المختلف، حبهم المتطرف للحياة، خفة دمهم وروح الفكاهة لديهم، هم الذين يعيشون قسوة المأساة اليومية. أحببت أكلهم، شرابهم، وموسيقى لغتهم مما جعلني أفضل التخاطب معهم بلهجتهم المختلفة جداً عن اللهجة المغربية، دون أن أشعر بأدنى استلاب لغوي.

تلك العلاقة الخاصة فتحت لي دربا ثانياً ولجته عندما قمت سنة 1969 بإنجاز أنطلوجية الشعر الفلسطيني المقاوم.ومن ذلك الوقت، لم أحد عنه، إذ أصبح درباً موازياً ومكملا لدرب الكتابة. الفضل في اشتغالي بالترجمة على امتداد العقود الأخيرة يرجع إذن لذلك الوعي المكتسب من خلال انخراطي في القضية الفلسطينية.

أما عن المحن المستجدة التي تخنق أنفاس الشعب الفلسطيني فإنني أعيشها بكل صدق كمأساة شخصية. هل كان بمقدوري أن أتصور، ولو في أسوء الاحتمالات، الوضع القائم حالياً على أرض فلسطين؟ الانقصام الحاصل في صفوف شعب كنت أعتبره متفوقاً بكثير من الميزات على مجمل الشعوب العربية، ومؤهلا أكثر من غيره على تحقيق مشروع المجتمع الديمقراطي المنشود والدولة العلمانية بكل مواصفاتها. إنها لفاجعةٌ لا تقدر.ورحيل محمود درويش في أوجها هو أدق تعبير عن الخسارة المعنوية التي تكبدها شعبه من جراء انغلاق العقل لدى بعض فئاته وقصور الرؤية وطغيان المصالح الضيقة لدى فئات أخرى.

في أي منعطف هي الآن حكاية الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية التي تعتبر بحق أحد رموزها وأبطالها النموذجيين ؟

لي أمل: هو أن نكف عن استعمال هذا النعت، وأن نتناول الأدب المغربي المعاصر بمختلف مشاربه، في تجانسه إذا أمكن، ودون خلفيات إقصاء أو مغالاة. ألا ترى أن الوقت قد حان كي نقر بكل موضوعية أن التعددية اللغوية أضحت معطى هيكليا وقاراً في حقلنا الأدبي؟ أمس، كانت تقتصر على مكونين أساسيين (على الأقل فيما يخص الأدب المكتوب) هما التعبير باللغة العربية والفرنسية. أما اليوم، فبالإضافة إلى النمو الملحوظ للكتابة بالعربية العامية وبالأمازيغية، نشهد بروز إنتاج جديد بلغات عدة كالإسبانية والهولندية والإيطالية والإنجليزية وغيرها من اللغات الواسعة الانتشار أو الأقل انتشاراً. ما العمل أمام هذه الظاهرة ؟ نفيها بشكل اعتباطي؟ تناولها على الطريقة القديمة، التي عانينا منها مثلا في بدايات تجربة أنفاس عندما رجمنا البعض بتهم التغريب والاستلاب اللغوي، أم فحصها والتمعن فيها كتحول في الثقافة المغربية ناتج عن تحول هائل في البنيات المادية والمعنوية للشعب المغربي المنتشر الآن عبر القارات؟ والمهمة المستعجلة في رأيي، لأن لا شيء يعلو فوق المعرفة، هي إدماج هذا الإنتاج المتنوع، الذي وصلت رسالته إلى مئات الآلاف من القراء خارج المغرب، في دائرة اهتمامنا أو فضولنا الأدبي على الأقل. هذا مع العلم بأن عملية إضفاء هوية وطنية على أدب من الآداب أصبحت إلى حد ما متجاوزة. علينا أن ننتبه إلى الطريقة المستجدة التي تنتشر بها الأعمال الأدبية عبر العالم وإلى المقاييس المستحدثة التي تقاس بها تلك الأعمال. فإذا كان الانحدار الوطني والثقافي للكاتب وكتابته بلغة معينة (أكانت لغته الأم أم لغة اختارها لنفسه) أشياء تُأخُذ بعين الاعتبار و ينَبَّهُ إليها عادة، فالأهم يكمن فيما يقدمه ذلك الكاتب من سبرٍ لأغوار النفس البشرية ورؤية خاصة للعالم وإبداعية في اللغة المستعملة وتجديد للمادة الأدبية.

أُنظرْ مثلا لظاهرة جديدة أصبحت تعَرَّفُ بـ “أدب العالم” يدرج فيها إنتاج العديد من الكتاب ذوي الوزن الكبير ضمن الإنتاج الأدبي العالمي، وهم ينحدرون في مجملهم من العالم الثالث(إفريقيا، الهند وباكستان، إيران، أفغانستان، جزر الكارايب وفي بعض الحالات شمال إفريقيا والعالم العربي). معظمهم يكتبون بلغة أخرى غير لغة الأم، إنما الأمر الذي لا جدال فيه هو أنهم أحدثوا ما يشبه الانقلاب في الحقل الأدبي على المستوى الكوني و يشكلون الآن إحدى مكوناته الأكثر حيوية وتأثيراً. أقولها، ليس من باب التبجح بل الموضوعية والأمانة، أنني لو أردت تحديد مكان لي ضمن الحقل الأدبي العام لوضعت نفسي عن وعي ضمن هذا التيار. وهذا لا ينفي أو ينافس في اعتقادي انتماءاتي الطبيعية وتموقعي ضمن الحقل الأدبي المغربي والعربي دون أن أكترث بمن قد يجادلوني في ذلك، عن حسن أو سوء نية.

داخل إعصار العولمة، و في أتون تمظهراها المتوحشة التي توشك أن تعصف بما تبقى، حيث انقرضت أو تكاد، الكثير من الثوابت التي كنا نعتقد أننا سنحيا بها، كي تتأسس على أنقاضها أخرى تبدو هي أيضا آيلة لأفولها. داخل هذا الواقع الهجين، بأي طوق نجاة أراك تتشبت الآن ؟

لست مولعاً بالاستشهادات كما تعلم، لكن اسمح لي ولو مرة أن أعيد إلى الأذهان المقولة النفيسة للفيلسوف و المناضل الايطالي أنطونيو غرامشي عندما تحدث عن ” تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”. إنها درة من الدرر العزيزة على قلبي، أهتديت بها منذ زمن بعيد، خصوصاً أثناء المحن التي اجتزتها. ما أود التأكيد عليه اليوم من خلالها هو كيفية مواجهة الانتكاسات والعواصف المدمرة للأحلام العادلة. فإما أن نستسلم لها كقدر محتوم ولاعقلاني أم نحاول الإلمام بمسبباتها و نخضعها للتحليل العقلاني كيفما كان الجهد والوقت المتطلب وكيفما كانت المراجعات الموجعة التي نضطر للقيام بها. هذا عن تشاؤم العقل أو حيطته عندما يشتغل في مختبره على مادة الهزائم والتفكك والخراب. لكن العقل، إضافة إلى وظيفته النقدية يمتاز بخصائل أخرى من ضمنها المثابرة والعناد مما يجعله يرفض مبدئياً الهزيمة. تلك العزيمة هي التي توفر له طاقة الأمل و تجعل منه في آخر المطاف أداة مقاومة ورافعة لإعادة البناء. على أية حال، ليس لنا خيار آخر. فإما أن نستقيل ونقبل ببشاعة ما هو قائم، وهذا نوع من الانتحار(والانتحار الجسدي قد يكون الحل الأكثر منطقية) أو أننا نواجه بالملكات والقدرات المتوفرة لدينا انطلاقاً من اقتناعنا( إذا كان فعلا اقتناعاً) بأن حياتنا الفردية والجماعية على هذه الأرض تستحق أن تعاش وأن يناضل من أجل أن تحقق كل الآمال المعقودة عليها.

إذن ليس لي طوق سحري أحتمي به ولا أتصور طوقاً فردياً أنجو به لوحدي. إنني أحاول فقط أن أكون جديراً بوظيفتي الصعبة كمثقف و كاتب، تلك الوظيفة التي لا فائدة منها إذا لم تكن ممتثلة إلى منظومة أخلاقية صارمة تنبذ التقوقع على الذات، الكسل، سبات العقل والاستسلام للأمر الواقع.

لو كان بإمكانك أن تفكر/أن تغامرمن جديد بإصدار مجلة أنفاس، ماهي الرؤية التي يمكن أن تكون ناظمة لتوجهها الفكري و الإبداعي واللغوي ؟

سؤالك قد يعطي الانطباع وكأن تجربة أنفاس ملك لي، ولي وحدي. لقد نبهت مراراً للميزة الأساسية لتلك التجربة وهي الروح الجماعية التي تخللتها. المجلة كانت، في لحظة تاريخية دقيقة، عبارة عن بؤرة التقت وانصهرت فيها طاقات إبداعية مختلفة، وذلك ليس بعامل الصدفة بل الضرورة الموضوعية. لذا فإنها سرعان ما حددت مشروعها وتحولت إلى حركة فكرية وإبداعية قائمة الذات، متجانسة في الطروحات والرؤية، رافضة لما هو قائم وعازمة على خوض المغامرة بحافز التأسيس.

جانب آخر في التجربة لربما يبدو ثانوياً بينما له دلالاته الكبيرة في اعتقادي: عملنا في المجلة آنذاك كان تطوعياً ودون مقابل مادي، لم يكن حتى ليخطر على البال. كنا نتحمل كل الأعباء ( التمويل، التحرير، الضرب على الآلة الكاتبة، التصميم، توفير بعض الإشهارات، الإشراف على الطباعة والتوزيع، إرسال الأعداد للمشتركين) كواجبات ضمن الواجبات اليومية الأخرى. هل يمكن أن نتصور اليوم تعبئة من هذا النوع واشتغالا بهذه الطريقة؟ هذا للجواب السريع على منطلق سؤالك. لقد عشنا مرحلة يمكن لنا مع المسافة الزمنية أن نصفها، دون مبالغة مفرطة بالملحمية، لأن العطاء الصرف كان ممكناً وشبه طبيعي. أما اليوم فنحن في زمن آخر، لست في حاجة أن ألح على رداء ته. الطوعية، المجانية والروح الجماعية تكاد تنعدم في ساحتنا الثقافية، المصابة علاوة على ذلك بأمراض شتى، من ضمنها ذلك التهافت على سلطة وهمية وامتيازات تافهة، تتعارض مع القيم المرتبطة بوظيفة المثقف والثقافة.

ستجد ربما أن نظرتي للمشهد الحالي متسمة بالقسوة والسوداوية، لكنها نابعة من أعمق ما أدرجته لحد الآن. ففقدان الروح الجماعية مثلا له دلالته القوية بالنظر إلى ما آلت إليه أوضاعنا العامة، الاجتماعية والخلقية والسياسية. إنه تعبير عن تدني الروح المدنية لدى النخبة أو ما أسميه بكتلة المثقفين، وكأن المثقف معفى من إدلاء الرأي والتحليل والمقترح في الظواهر الاجتماعية والشأن العام والسياسات المنتهجة من طرف السلطة. وهو في نفس الوقت تعبير عن قصور في الرؤية للمشروع المجتمعي (الديمقراطي الحداثي كما تتفوه بذلك العديد من الببغاوات) الذي تدور حوله نقاشات وصراعات تكاد تكون حصراً على الطبقة السياسية، وتلك السلطة الرابعة في طور التكوين ألا وهي الصحافة. صوت المثقف في هذه المعمعة خافت جداً وغير مسموع على أية حال. هذا في الوقت الذي نحن في أمس الحاجة إلى سماعه خصوصاً إن هو طلع بما هو شبه غائب في برامج الأحزاب السياسية و أعمدة الصحافة : طرح الرهان الثقافي كحجر الزاوية في مشروع التحديث المتواصل وخلق شروط المواطنة الكاملة وإرساء قواعد الحكامة الديمقراطية. أستخلص من هذا أنه لو كان بإمكاني اقتراح تصور لمجلة جديدة في وضعنا الراهن، لطرحت عليها كإطار للبحث والعمل مهمة وضع المسالة الثقافية في مركز النقاش الوطني حول المشروع الديمقراطي المتعثر منذ سنين. إنها مهمة مصيرية تتطلب طبعاً التعبئة الجماعية والبذل بكل سخاء واسترجاع منهجية الحوار والجدل الايجابي النافع، كما أنها تستدعي روح المبادرة والممارسة العملية، أي الانخراط بشكل خلاق في المعركة القائمة من أجل إحلال المجتمع المتحرر والنظام السياسي الحضاري المنشود.

أما عن الأداة اللغوية، أرى من الضروري أن تكون مزدوجة لسبب براغماتي بين. فالهوة ما بين من يكتبون ويقرؤون بالعربية أوالفرنسية اتسعت من جديد في العقدين الأخيرين. لقد عملنا كل المستطاع إبان تجربة أنفاس على تقليصها ومد الجسور ما بين الفريقين، وخلق شروط الحوار والتفاعل الخلاق. لكن التطورات اللاحقة نسفت إلى حد ما ذلك الانجاز. علينا إذن، في الوضع الراهن، أن نعيد الكرة من أجل إشراك الجميع في المهمة الصعبة التي تحدثت عنها منذ قليل، وهي وضع المسألة الثقافية في مركز المشروع المجتمعي المنشود.

في أية خانة يمكن وضع فوزك بجائزة أكادمية الغونكور ؟ في خانة الاعتراف الحضاري أو الإبداعي أو اللغوي؟

لنكن متفائلين ونعتبر أنها باقة من المكونات الثلاث. هذا على الأقل ما شعرت به من خلال المكالمات الهاتفية والرسائل التي تلقيتها من العديد من الأصدقاء و المثقفين والمواطنين العاديين، وأيضاً من خلال الاهتمام البالغ الذي أولته للحدث وسائل الإعلام المغربية والعربية على الخصوص. لقد أثرت في عميقاً تلك الفرحة واكتشفت أنها تفوق بكثير فرحتي الخاصة. إذ أنني صراحة لم أكن أنتظر شيئاً على هذا المستوى ولم أعمل شيئاً قصد الفوز بأي امتياز. منذ عقود وأنا أشتغل في الهامش بعيداً عن أضواء الخشبة، معتبراً أن ما يسمى بالشهرة، فبالأحرى النجومية، عامل مُخِلّ بصدق التجربة الإبداعية. إنه يبعدك عن الجوهر في تجربتك ويسقطك لا محالة في المظهرية والحسابات والتنازلات في آخر المطاف. لكنني مع ذلك أفهم الحاجة الجماعية لاعتراف الآخر بقدراتنا وعطائنا الخاص، خصوصاً في الوقت العسير الذي نجتازه حيث يُنظَرُ إلينا عادة من خلال عاهات التخلف والتعصب والعنف الملتصقة بصورتنا عن جور، وكأنها قدرنا المحتوم. من هذه الزاوية فقط، قد أشعر بقسط من العزة لو أنا، بفضل هذا الاعتراف، ساهمت حقاً في النيل من تلك الصورة المزيفة وقدمت عنا بذلها تعبيراً صادقا عن القيم الحضارية التي نحن ورثتها، وعن انخراطنا دون عجرفة ولا مركبات نقص، في مغامرة إعادة إحياء الفكر والإبداع على المستوى الكوني.

تبدو عصيا وعنيدا في أعين محترفي التدجين، عميقا وشفافا في أعين رفيقات ورفاق دروبك الإبداعية والإنسانية، بينما تبدو ملتبسا في أعين المصابين بقذى النكران، فمن تكون؟

بعد كل هذه المسافات التي قطعتُها، لا زلت أبحث عن نفسي وأتقصى لغزي الخاص، لغز وجودي ككائن بمواصفاته التي تحيرني بعضها لحد الآن. هذا ناهيك عن وجودي ضمن مجتمعي الخاص والمجتمع البشري أيضاً، ثم وجودي إزاء سر الكون ولانهائيته المحيرة. إن محاولة النفاذ إلى الكنه الخاص مرتبطة بمحاولة التقرب من لغز الكينونة الشاملة. الأسئلة التي أطرحها في هذا المضمار تقدمت بدون شك في اتجاه الدقة و النسبية في آن معاً، لكن الأجوبة عليها قليلة جداً وقد لا تعنيني بالدرجة الأولى. أنا لست عالماً ولا فيلسوفاً بل شاعراً له طريقته المغايرة في المعرفة، تتأسس على الحدس والمخيلة، على الذاكرة الفردية والجمعية، على الحلم في الصحو، ليلا وفي واضحة النهار، وكذا على ما تمده له حواسه الخمس من معلومات وأحاسيس. الشعور الذي يطغى عندي هو أنني أنتسب إلى عالم آخر مواز للعالم المادي الذي أعيش فيه. أحيانا أسبح وأغرق في العالم الأول إلى درجة أن الثاني يختفي تماماً أو على الأقل يخف وزره ويصير عبارة عن صدى لا غير. لكنني مع ذلك أبقى واثقاً بأن ما أعيشه ينتمي إلى حالة من الحالات البشرية، يمكن أن أنعتها بحالة الشعر قصد التبسيط.

التباسي إذن في أعين الكثير من أبناء جلدتي ناتج عن اختلافي معهم في كيفية العيش والسلوك، في المعنى الذي أضفيه على الحياة والموت، الحب و الحرية، الأرض والوطن، المرأة والرجل، العبادة والملذات، الفرد والجماعة، الفشل والنصر، الهوان والشرف، الربح والخسارة، جهنم والفردوس، وحتى الخير والشر. مشكلتي معهم هي أنني أرفض فكرة التفاوض عندما يتعلق الأمر بعدد من المبادئ والقيم، لا أقبل بالمقايضة حولها وبأنصاف الحلول اتجاهها. في هذا المضمار أحترم الخصم الواضح، المختلف معي تماماً، وأتحمس للصراع معه فكرياً، بينما لا أحترم كثيراً المخادع الذي يتأقلم مع الشيء وضده، حسب مخاطِبيه ومصلحته الآنية. لا أشعر بالرغبة في هديه أو “تنويره”.

مع كل ذلك، أنا لست من أهل الكهف، وأنت تعرف جيداً من خلال جلساتنا الحميمية، النادرة للأسف، كم أنا حيوان اجتماعي. أبحث فقط في العلاقات الإنسانية عن الصفاء، عن الصوت الصادق، عن الإنصات المتبادل، عن سعة القلب والعقل، عن أي إنسان يشعرني، ولو في لحظة خاطفة، بأنني لست الوحيد الحامل لهموم الدنيا والآخرة، لست طفلا / شيخاً ضائعاً في غاب ولا معتوهاً يباح رجمه، بل كائناً حياً، باحثاً عن استكمال هوته الإنسانية، مُتورطاً في حلم شاسع يفوق قدراته و يتجاوز إلى أبعد الحدود البُرهة الزمنية التي قُدِّرَ له أن يعيشها.

مقتطف من القراءة العاشقة (دار ورد للنشر. دمشق. 2010)

حوار مع محمود عبد الغني

أنت تمتهن مهنة غريبة : “الكتابة”.فأنت لا تجيد شيئا غير الإنتاج الرمزي، غير تأليف الكتب والإسهام في السجالات؟ ما المنفعة من وجودك؟ ككاتب ألا تطرح هذا السؤال؟

أنا أتساءل بالأحرى لماذا نطرح هذا النوع من الأسئلة؟ أليس من حقنا كشعب أن يكون لنا كُتاَّب؟ هل الكتابة من الترف إلى هذه الدرجة حتى نطرح على أنفسنا جدواها؟ نحن على عكس ذلك في أمس الحاجة إلى الأدب والفن والفكر أكثر من البلدان الغنية والمتقدمة، والتي تزخر بعدد هائل من المبدعين والمفكرين والعلماء. فما أحوجنا للكتابة بالنظر إلى مناخ اجتماعي وحالة نفسية وتركيبة ثقافية لم نتناولها لحد الآن بما يشفي الغليل.أجرؤ على القول بأن واقعنا الإنساني لازال حقلا بكراً بالمقارنة مع وقائع بشرية أخرى تم الكشف عن خباياها الأكثر عمقاً منذ قرون. شعبنا لا زال ينتظر من سيعبر بأمانة ودقة عن معاناته اليومية وتطلعاته، عما يزخر به تاريخه الخاص من تجارب وعبر، عن خصائص طبعه، طريقته في السخرية، نوعية الأسئلة التي يطرحها على نفسه، عن تجاربه في الحب، عن هلوساته وكوابيسه. وهو أيضاً، وفي أعماقه، لا زال ينتظر من سيكون صريحاً معه، ولم لا جارحاً، في نقد بعض تقاليده ومعتقداته البالية، وكافة مساوئه ونقائصه. المغرب إذن قارة إنسانية مازالت مطروحة للاكتشاف إلى حد بعيد. وتساؤلك نابع من الأوضاع المريرة التي يمر بها المغاربة نُخَباَ ومواطنين، الشيء الذي نتج عنه احتقار مدقع للنفس، أو على النقيض نزعة استعلاء غريبة، مبنية على الرياء والخواء. إزاء مثل هذه الأوضاع والحاجيات، يظهر بجلاء أن الكتابة هي بمثابة عملية إنقاذ حيوية لذاكرة وصوت شعب حُكِمَ عليه منذ قرون بالصمت. المنفعة من وجودي؟ القول بما أسلفته كأضعف إيمان، والقيام على مستواي المتواضع بإنجاز قسطي من ذلك البرنامج الشاسع.

ما هي أسرارك كشاعر؟ ما هي أدواتك وآليات عملك في ورشتك الشعرية؟

لا أرى غيوماً من الأسرار تمنع النفاذ إلى العناصر التي تتفاعل في ورشتي الشعرية. هنالك بالأحرى مجموعة من الشروط المسبقة التي أعمل جاهداً على توفيرها : المعرفة طبعاً، التي تشمل كافة الميادين، الأدبية والإبداعية أولا بأول، ثم الفكرية والعلمية. الجانب الآخر هو الاهتمام بالتاريخ وبتطور المجتمعات البشرية، مما يسمح باكتساب الأدوات التي تساعد على فهم ما يحدث في العالم، وبالتالي في الساحة الوطنية. بدون هذا الشرط لا يمكن أن يتكون لدينا الحس المدني أو الهم تجاه الشأن العام، فنبقى جراء ذلك متفرجين على الأحداث السياسية والصراعات حول المصالح التي تدور رحاها في مجتمعنا. الشروط التي أسلفتها هي التي تحدد عنصراً هاماً في الكتابة، ألا وهو الموقف. وهو عنصر قد ترفضه طائفة من الشعراء لاعتبارات تهمها، أحترمها لتشبثي بحرية الكاتب دون أن أشاطرها البتة. أصل بعد هذا إلى عناصر أخرى ذاتية محضة، مرتبطة ببنيتي النفسية وقصتي الخاصة مع الحياة التي عشتها لحد الآن، باختياراتي في مراحل دقيقة، باكتشافي التدريجي لعوالمي الداخلية وحتى طريقة اشتغال جسدي وحواسي. وهي مرتبطة أيضاً، في شعوري ولاشعوري، بتردد عدد من الأحاسيس والرؤى لا أدري من أين هي آتية، مما يفرض علي الاشتغال على دلالتها ومنطقها العجيب. ومن ضمن ما تكَوَّنَ لدي إثر ذلك من حدس يشبه اليقين، يتعلق بالذاكرة. ولا أتحدث هنا عن الذاكرة الفردية بل الجمعية. لي هكذا شعور في أعمق أعماقي بأن أجزاء أو شذرات من تلك الذاكرة البشرية تراودني في المنام واليقظة وتخبرني عن مختلف مراحل تكون عجينتي الإنسانية، من الذرة ثم الخلية إلى الجنين، العضو، وهلم جراً حتى إرهاصات الوعي. في تلك الحالات أجدني أيضا شاهداً على حلقات معينة من تطور النوع البشري، المأساوية منها والمشرقة. (أشير إلى أن الديوان الذي تظهر فيه هذه التجربة بكل جلاء هو شذرات سفر تكوين منسي). ومن هنا يأتي ربما انكبابي على جانب آخر لمسألة الذاكرة في واقعنا المغربي بالتحديد. شدني في المنطلق ما لمسته أثناء تفحصي لحالتي الشخصية. لقد ولدت وترعرعت في الوسط الاجتماعي لمدينة فاس العتيقة، وكل ما عاينته وسلكته خلال تلك الحقبة، أشعر وكأنه ينتمي الآن إلى عالم غمره الطوفان. التجربة الإنسانية، الطقوس الاجتماعية والثقافية، اللغة الخاصة بالفاسيين، كل ذلك صار يختفي من الذاكرة الجماعية. لذا استبدت بي الحاجة للقيام بعملية إنقاذ( يمكن تتبع بعض حلقاتها في كثير من أشعاري وطبعاً في روايتي قاع الخابية). هذه إذن بعض العناصر التي من شأنها أن تساعد على التنقل والاكتشاف في ورشتي الشعرية.

عندما أتأمل مسارك يقودني تأملي إلى استفسارك حول مفهوم من المفاهيم الأساسية والتي تؤمن بها وتمارسها بشكل من الأشكال سواء في كتابتك الشعرية أو الروائية، هذا المفهوم هو الحداثة في الشعر على الخصوص، على اعتبار أن العديد من الجوانب في حياتنا لا حداثة فيها.

لست من المصابين بهوس ما يسمى بالحداثة، وذلك لسبب بسيط. فسؤالها لا يمثل أمامي ضمن الأسئلة الملحة أثناء الكتابة. هذا عن الحاضر. أما عن البدايات، أرى من الضروري بسط بعض الحقائق التي لم يُنتبه إليها في حينها ولم تُأخذ بعين الاعتبار لحد الآن. عندما طُرحتْ المسألة بدءاً في المشرق وبعد ذلك في المغرب، كان الأمر يتعلق بمهمة ملموسة تخص الحقل الأدبي العربي، وأقولها صراحة لا تعني مباشرة ما بدأ يُكتَبُ آنذاك بلغة غير العربية في المغرب وباقي الأقطار المغاربية. مشروع الرواد في المشرق كان هو مواكبة ما تم إنجازه على هذا المستوى في الغرب. الشيء الذي نغفله هو أن قطار الحداثة كان قد انطلق هناك منذ ما يقارب القرن عندما ظهرت عندنا الحاجة للالتحاق به وركبه. أما الكتابة باللغة الفرنسية فكانت تواجه تحديات من صنف مغاير. لقد تأسست منذ المنطلق على الرصيد الحداثي المتوفر في الحقل الإبداعي والثقافي الفرنسي والغربي عامة والذي بدأت تطرح فيه آنذاك مهام جديدة، من جملتها مسألة ما بعد الحداثة. لكن رغم الاستفادة من ذلك الرصيد، وبحكم التجربة الاستعمارية، وجد الكاتب بالفرنسية نفسه في وضع يفرض عليه تحدي الهيمنة الثقافية برفض النمذوج الغربي كشرط لخوض مغامرته المستقلة وتكوين نماذجه الخاصة بالتدريج. نرى إذن تبايناً واضحاً في الأوضاع والحاجيات تبعاً للغة التعبير. آمل أنني أوضحت بما فيه الكفاية السبب الذي يقف وراء عدم انشغالي بقضية الحداثة، على الأقل بالفهم الذي يطرح بها عادة عندنا. هذا مع العلم بأنها، بعد مرور بضع عقود على تناولها المستمر، وصلت إلى حد الاستهلاك والعقم. وعودة إلى مساري الخاص، أرى أن ما كان يهمني في المنطلق ليس يافطة أو موضة، وحتى تخلفاً أو تقدماً. لأن الأمر في تلك المرحلة من استرجاع الكرامة الوطنية كان يتعلق بأمر أن نكون أو لا نكون، فكريا و ثقافيا وأدبيا. الكتابة كانت تعني بالنسبة لي عملية تكوين ونحت للإنسان الذي كنت أصبو إليه، إنساناً جديدا متحررا من الهيمنة ومن كل ما يمت بصلة للتقليد، من كل ما كان ينفي عنا غنانا الخاص وتفردنا.

الأسئلة التي تشدني اليوم أجدها بعيدة عن هذا النقاش. إنها بسيطة، لكنها حيوية وملازمة لوظيفة الكاتب منذ البدايات: ما هي القيم المؤسسة لعمله؟ هل استوعب اللحظة التاريخية والشرط الثقافي الذي سمحت له الصدفة الموضوعية بأن يعيشها ؟ بأي شكل وبأي قسط ساهم في تطوير الأدب؟ هل استطاع فعلا ابتداع لغته المتميزة؟ إلى أي حد استطاع تجاوز الإقليمية والاقتراب من أفق الكونية؟

لي ملاحظة أخيرة في هذا الموضوع. علينا الآن أن نقيس خطاب الحداثة المألوف بنتائجه. منها الإيجابي وهذا ما لا غبار عليه، ولكن هنالك أيضاً السلبي.أنظر مثلا الإنتاجات الغزيرة التي توضع تحت شعار الحداثة. لقد دخلنا مرحلة تحولت فيها روح المغامرة التأسيسية إلى ما يشبه الردة: اعتماد قاموس لغوي متشابه، طغيان النزعة التجريدية، السقوط في بلاغية شعرية من نوع جديد تفوح منها رائحة القديم، النفور من الواقع باعتباره موضوعاً يسيء للشعر، الدفاع عن الغموض كشرط من شروط الخطاب الشعري، إقحام الفكر والخطاب الفلسفي كعنصر مرافق ولازم لـ “عمق” الرؤية، وهكذا دواليك. ونتيجة لذلك فشعرنا بدأ يفقد تلك الشحنة الحيوية وذلك الصدق اللذين بدونهما لن يستطيع أن يصل إلى عامة الناس، أو على الأقل المتعلمين منهم. من هنا “أزمة” القراء التي يتباكى حولها الجميع.

إن الشاعر الحداثي، أو على الأقل الذي يستوعب الحداثة بكل ملابساتها، هو الذي يسعى بلا انقطاع إلى تفجير اللغة حسب تعبير أدونيس. وما دام عصرنا هو عصر الأفكار، ألا تسعى إلى تفجير اللغة والأفكار وأنت في طريقك إلى النص الشعري؟

قمت فعلا بذلك مع شعراء آخرين من جيلي ضمن مشروع يختلف في المنطلق عما طرحه أدونيس. وقد بيَّنْتُ في جوابي السابق الشروط الموضوعية التي تقف وراء ذلك التباين. لكن وإن اختلفت الأوضاع والمهام في المنطلق، فالالتقاء أصبح قائما ومنطقياً فيما بعد. فالشعر العربي الحديث قام على يد رواده ومن تلاهم بعملية تسريع مدهشة للتاريخ الأدبي، إذ قطع في عقدين أو ثلاث المسافة التي كانت تفصله عن الحداثة الغربية. وهكذا وجدنا أنفسنا، بعد مرحلة العنف والصخب الأولية، أمام نفس التحديات خصوصاً وأن الأوضاع السياسية العربية وبالتالي الثقافية دخلت في مرحلة التدهور الذي نعيش أوْجَهُ في واقعنا الراهن. من ثم أطرح اليوم بأنه لا يمكن حصر التحديث في عملية تفجير اللغة. وحتى هذا الجانب أصبح يتطلب مزيداً من التمحيص. ماذا نفجر بالضبط في اللغة بشكل عام، وفي اللغة الشعرية بشكل خاص؟ التفجير ينطلق منطقياً من اعتبار أن هنالك قيودا يجب التخلص منها. فما هي تلك القيود؟ أيتعلق الأمر فقط بما تقادم من القاموس اللغوي؟ من إكراهات في قواعد الإعراب و العروض ؟ من نزوع إلى البلاغة؟ المهمة في رأيي ليست تقنية فحسب، ولو أن هذا الجانب له أهميته. علينا أن نتناولها في شموليتها باعتبار أن اللغة كما هو معروف مؤسسة قائمة الذات مبنية على ما تراكم فيها عبر العصور من خصوصيات ثقافية ومعتقدات، ومتفاعلة مع البيئة الطبيعية والإنسانية التي ولدت فيها. على هذا الأساس فالمطروح هو كيف نُقيِّمَ تلك المؤسسة وكيف نتعامل معها. إذا نظرنا إليها مثلا كما ذهب إلى ذلك البعض على أنها النواة الحقيقية والمركزية للهوية التي لا يقبل أي مساس بها، يصبح من العسير على الكاتب الذي يدافع عن موقف كهذا خلخلة اللغة بكل عزم ويقين. أؤكد هنا أن الأمر لا يعني فقط اللغة العربية كما يمكن أن يتبادر للذهن، بل كافة اللغات،(على سبيل المثال نجد نفس التصور عند الدعاة المتشددين للفرنكفونية). من هنا أطرح شخصيا تحليلا قد يبدو غريباً أو مشيناً لمن يتغنون باستمرار بالعبقرية الفريدة للغتهم ويأمرونك بتبجيلها ومبايعتها دون تردد ولا مناقشة. على عكس ذلك التٌقديس، أرى أن علاقتنا باللغة يمكن أن تكون علاقة صراع بكل مواصفاته، الهدف منه تطويعها لخدمة مشروع تشكيل ونحت لغتنا الخاصة. وبشكل آخر يمكن أن أتصور اللغة كمنزل نستأجره لمدة، له أسسه و جدرانه وغرفه وسقفه، لكننا نحن الذين نُعَمره ونختار كيفية صبغه وتأثيثه وتنظيم حياتنا الخاصة فيه، ونحدد في آخر المطاف وظيفته. في الختام، أكرر أن التحديث لا ينحصر في الاشتغال على اللغة كيفما كانت المنهجية التي اعتمدناها. علينا أن ننتبه إلى أبعاد أخرى أصبح لها في اعتقادي، ضمن واقعنا الراهن، مركز الصدارة تتعلق أساساً بالمضمون، بالرؤية، وما أسميته من قبل بالموقف. حداثة الكاتب من هذا المنظور مشروطة بسَعة ثقافته العامة، بمدى وعيه بنوعية المرحلة التاريخية التي نجتازها وبالتحولات التي نتجت عن ذلك في الوعي الجماعي، في الحاجيات المادية والروحية، في الأذواق والسلوك، في العلاقات الإنسانية، ومن ضمنها طبعاً العلاقة بين الرجل والمرأة. لا حداثة عند الكاتب إن لم يكن قد استوعب تلك المعطيات ولم يقم كفرد بثورة داخلية على البنية الذهنية والنفسية التقليدية المتأصلة فيه، إن لم يكتسب منظومة أخلاقية جديدة تجعل ما يدعيه من حداثة في كتاباته منسجما مع ممارسته الاجتماعية والمدنية، ومع سلوكه في محيطه الأكثر حميمية. وهذا الانسجام هو الذي يمنح للموقف في الكتابة صدقه ومشروعيته.

دائما عندما نتحدث في مجال الأدب نجد أنفسنا أسرى لبعض المواضيع التي اعتقدنا أننا ناقشناها وانتهينا منها. من مثل هذه القضايا مسألة الآخر، القارئ. ففي شجون الدار البيضاء و الشمس تحتضر يحضر لديك هاجس الحوار مع الآخر الذي هو القارئ في هذه الحالة. فأنت تقوده من يده وتطور معه أفكارك ولغتك. الشيء الذي يجعل من قصيدتك مليئة بالطعم، وكلما كثر الطعم، كثر الصيد.

لقد أثرتَ هنا مسألة تحظى عندي بالمركز في اهتماماتي. أنا أصبو دائما إلى جعل القارئ شريكاً لي، وإذا أمكن فاعلا في مغامرتي أثناء الكتابة. وهذا الحرص أو تلك الحاجة تنطلق من كون النتاج الأدبي أصبح ضمن النظام الثقافي العالمي الجديد بضاعة كسائر البضاعات، يخضع بدوره لمستلزمات الكسب المادي. بهذا المنطق يتم التعامل مع القارئ وكأنه زبون لا غير، وهذا التحول يؤثر بدوره على ممارسة الكتابة وعلى أخلاقيات العديد من الكتاب الذين يلهثون وراء الشهرة و الربح. لحسن الحظ أن الشعر، نظراً لتقلص رواجه بل تهميشه، قادر أكثر من الرواية مثلا على النجاة من عملية التسليع التي تحدثتُ عنها. وهذا يكسب الشاعر حرية أوفر من تلك التي يتوفر عليها الروائي المطالب من مؤسسات النشر والتوزيع بنمط معين من الخطاب الأدبي يستسيغه القارئ العجلان الذي رُوِّضَ مسبقاً على منتوج نمطي، يقضي برفقته وقتاً من التسلية عن همومه اليومية. ما أحاول شخصياً هو تكسير هذا المنطق الجهنمي وخلق شروط أخرى للقراءة تحفظ كرامة القارئ وحريته وتجعل منه في نفس الوقت مرافقا وأنيساً. هاجس الحوار مع الآخر طبيعي إذن. نحن نكتب بالمادة الإنسانية لذلك الآخر، نكتب معه ومن أجله. الشعر لا يأتي من الغيب، بل ينبت في التربة الإنسانية ويطلع منها. رغم أن الكتابة هي أيضاً بنت العزلة والوحدانية. عندما نكون أمام الصفحة البيضاء لن يأخذ بيدنا ولن يشفع لنا أحد. لكن تلك العزلة بدورها مليئة بالحضور الإنساني. عندما نكتب، نكون في نوع من الحوار الصامت مع الآخر، مع القارئ المحتمل. لذا فإن الكتابة بدون قراء، عملية مبتورة. زد على ذلك أنه عندما ينشر النص، فإنه يبدأ مغامرة ثانية لا نتحكم فيها نحن. إنها مغامرة عبر القراء والقراءات المتعددة. وهذا أجمل ما يمكن أن يحدث للنص بأن يصبح متعددا ومواكباً للحاجيات الإنسانية عبر الزمن. كل ذلك يجعلني بصراحة غير مستاء لكوني أمارس مهنة كاتب.

ترجمتْ جل أعمالك شعرا ورواية إلى اللغة العربية. هل سرقت منك الترجمة شيئا ما؟ هل ضيعت جزءا أو أجزاء من نصك؟

لا أشتكي من سوء حظ على هذا المستوى. ففي غياب المؤسسات عندنا التي توظف الإمكانيات والكفاءات اللازمة للقيام بهذه المهمة الدقيقة والحيوية، لا يسعني إلا أن أعبر عن امتناني للأصدقاء و المحبين الذين ترجموا بعض كتبي لحد الآن، وعموماً دون مقابل مادي يذكر. هذا مع العلم بأن المادة التي لم تنقل بعد إلى العربية تناهز تلك التي ترجمت. لكنني أقابل هذا النقص بالعناد المعروف لدي. فلن يهدأ لي بال حتى تكون أعمالي برمتها في متناول القارئ العربي. مؤخراً، انطلقتُ في هذا المشروع مع دار ورد السورية وتمت إعادة نشر عدد من الأعمال التي قمت بمراجعة دقيقة لها حتى في بعض تفاصيل ترجمتها. تم كذلك نشر كتابي الأخير شاعر يمر ولأول مرة بالعربية والفرنسية في نفس الوقت. هذه العملية تكتسي أهمية قصوى بالنسبة لي لأن القليل من الأعمال التي نشرت لي في الماضي نفذت منذ زمان، مما يشكل الانطباع بأنها أصبحت غائبة. لي إذن طموح في أن يجدد القارئ معرفته بما نشر لي من قبل( أو يكتشفه بالنسبة للجيل الجديد) وأن يستدرك ما ضاع منه لعدم ترجمة الأعمال المتبقية. لكم عانيت، في العقدين الأخيرين، من هذا الوضع الذي جعل مني إشاعة أدبية أكثر من كاتب يقرأ فعلا وبانتظام مواكب لانتظام إنتاجه.

أما عن “الضياع” إثر الترجمة، فهو يبقى في رأيي نسبيا مقارنة مع الكسب. ولربما أن أهم كسب في نظري هو ما قد تنقله نصوصي المكتوبة أصلا بالفرنسية إلى اللغة العربية من صيغ ودلالات وإيقاعات وأنغام غير اعتيادية في لغة الضاد.وأملي هو أن ينتبه لذلك القارئ العربي المتمرس والمتسامح أيضاً تجاه بعض التفاصيل التي لا تمس جوهر النص. أشير في نفس السياق إلى أن القارئ الفرنسي مثلا واع تمام الوعي بما تكسبه معي لغته الأم بفضل حضور اللغة العربية الطبيعي عندي أثناء الكتابة وتشغيلي لمخيلتي الثقافية الأصلية في نفس العملية. وعموماً، أستطيع القول بناء على تجربتي الطويلة في مجال الترجمة بأن الربح الذي نجني منها هو ربح حضاري فوق كل شيء. إن الترجمة أسمى شكل للتقارب والتآلف ما بين الثقافات، وحركة الترجمة في أي حقبة تاريخية وفي أي منطقة من العالم هي إحدى المؤشرات الدالة على مستوى التقدم المجتمعي والازدهار الحضاري لأي شعب. لو أردنا أن نقيس حالتنا في المغرب (وحتى في باقي العالم العربي الآن) بهذا المقياس لاستبد بنا الغم،  واستدعينا النائحات.

 ما هي نصائحك ووصاياك للكتاب الجدد، على طريقة فارغاس يوسا وريلكه، إذا صح أن في الكتابة وصايا وصائح؟

– كُنْ وفياً للكتابة بحضورك اليومي وبقبولك الطيع لكافة متطلباتها. ضَعْها في المركز، ونَظِّمْ حياتك على هذا الأساس.

– اعملْ على التحلي بقيمها: اليقظة المستمرة، السّعيُ الدؤوب، الصدق مع النفس كشرط للصدق مع الآخرين، السؤال الذي يعلو على الجواب، الرفق بالكلمات الجريحة.

– لا تأْبَه بالموجات الصاخبة والعابرة. إزاءها لا تتردد في أن تكون “متخلفاً”.

– اجتنبْ السلطة، كيفما كانت. وإن هي حاولت امتصاصك، قاومها مهما كان الثمن.

– أكتبْ بقدر، واقرأ بقدرين.

– القواميس ليست إلا مقابر للكلمات. ازرعْ فيها الحياة.

– احترسْ من اللغة الجاهزة. لا تبايعها. صارعها، قصد إبداع لغتك الخاصة.

– تجنبْ الشعرية إن كنت شاعراً، ولا تتخل عن معين الشعر إن كنت روائياً.

– كنْ أشَدَّ نُقّادك.

– انظرْ لما تكتب كرغيف متواضع مُعَدٍّ للاقتسام. اعتَبِرْهُ مِلكاً عميماً وليس خاصاً.

– لا تَبْقَ سجين محيطك. اخرجْ، غادرْ، ابتعدْ. لا تأبه بالحدود ولا تخف من الضياع، فالأرض كلها وطنك، والبشرية كلها شعبك.

– في كل ما تقوم به وأينما ارتحلت، لا تنس من أين أتيتَ: الأرض- الأم التي أنجبتك، سلالتك الإنسانية.

– حتى لو أصبحت شيخاً، لا تُفَرِّطْ في الطفل الذي كُنتَهُ، وفي أحلام الشباب.

مقتطف من القراءة العاشقة (دار ورد للنشر. دمشق. 2010)
ترجمة روز مخلوف