بلدي العزيز

لقد داهمتَ حياتي وأنا طفل. كانت المظاهرة تهدرُ على بعد مئة متر من الحي الذي يقع فيه بيتُنا، والمتظاهرون يهتفون يحيا المغرب! يسقط الاستعمار! يعيش الاستقلال! كلماتٌ كان لها وقع المغناطيس في نفسي، وهتفتُ بها بدوري قبل أن أغوص وسط الأمواج الهائجة للمتظاهرين.

إذا كنت حتى اليوم أذكِّر بتلك الواقعة، فلأنها ما تزال ترنّ في ذاكرتي مثل فرقعةِ شارة انطلاق. ما الذي حدث؟ بعد أن شبَّهْتُ اسمكَ الذي تلهج به الحناجر بحماس شديد، بنوعٍ من السمسم، حملَتْني خطواتي إليكَ. ودون إملاء من أحد اجتزتُ عتبةً، ولم أفعل ذلك برفقة والدي أو واحدٍ من أخوتي أو من رفاق اللعب، بل مع آلاف من أشخاص مجهولين لم تكن تربطني بهم غيرُ بضع كلمات سحرية كنا نهتف بها موقَّعةً بصوتٍ موحَّد.

بعد قليل دوّت طلقات نارية، لقَّم العسكر بنادقهم وارتدَّت الأمواج البشرية بعنف. رفعتني إحداها ثم انغلقتْ حولي مثل مِلْزِمة.

أثناء الدقائق القليلة التي استغرقتْها تلك التجربة، انتقلتُ من حالة انشداه إلى حالة ذهول لوقوعي في الفخ، ثم إلى إدراك واضح جداً بما يمكن أن يمثله الموت لكائنٍ حيّ. أحسست بحاجة غريبة إلى تركِ كل شيء مرتَّب ورائي، ثم فكرتُ بكل فردٍ من أقربائي، والشيء الأغرب هو أنني طلبتُ الصفح من أمي. لا بأس من القول بأن الطفولة انسحبتْ مني قبل أن تغشى العتمةُ دماغي.

لم أنقم عليك وأنا أعاين هذه النتيجة المخيفة. فما يقع لي معك من حوادث مزعجة وغير مزعجة، أمرٌ ينتمي إلى الأسرار، وإذا نجوتُ منها بمعجزة، فلأنك بعد أن التقفْتَني وابتلعتَني، أخرجْتَني إلى العالم من جديد. ذلك هو مَرَدُّ تلك العلاقة العضوية بيننا، التي ستسير على نحو لا يخطئ في المراحل القادمة.

تأخَّر الاستقلال في المجيء، ثم جاء. بعد احتفالات دامت بضعة أسابيع، أو بضعة شهور كحد أقصى، رحل الموسيقيون والراقصون ولاعبو الخفة وبائعو الأشربة السحرية. لم تنفتح السماء على نحو استثنائي كما في ليلة القدر. لا بدَّ أن المَنَّ المنتظَر قد سقط في وضح النهار وذهب مباشرةً إلى جيوب بعض الشُّطّار شديدي الاطِّلاع على نزوات السماء وعلى سهولةِِ بيعِ العرَّافين وشرائهم. في المدينة التي ولدتُ فيها، حيث كانت الآمال المرجوّة من أكثرها عنفاً، استُؤنِفت الحياة السابقة، رماديةً في أغلب الأحيان، لا وردية. مَن، من بين أهلي كان بمقدوره أن يعلمني بوضوح بأن ما عشناه جماعةً كان أشبه بإجهاض، وأن باب المستقبل الذي بالكاد انفتح، كان بصدد الانغلاق من جديد؟ لكنني، حتى دون أن يعلمني أحد بذلك، كنت أشعر بضيق عميق. إذا كانت ذاكرتي قوية، فإنّ نوبات الاختناق التي بدأت تنتابني أثناء النوم، تعود إلى تلك الحقبة. كان أثرها يستمر وأنا مستيقظ لشدة حنقي من قلة المعرفة وقلة العون الذي يمكنني انتظارُه من محيطي. كان شعوري بعدم الفهم ينتهي بي إلى عزلة كاسحة.

هكذا عُزفتْ موسيقى مراهقتي على آلةٍ ذات أسنان منشار. وبصفتي حيواناً اجتماعياً، كنتُ الشيءَ وعكسَه: في الظاهر حياتي مرتَّبة، وجهودي ممتَدحة في المدرسة الثانوية، وليست لي تصرفات رعناء تُذكَر، أما في الخفاء فقد كنت أستغرق، مباشرةً بعد أزمة صوفية طفيفة، في حمّى إداناتٍ للنظام المستتبّ القائم من حولي، والذي تعيشه الأكثرية الساحقة بوصفه النظام الوحيد الممكن والقابل للتخيُّل. إدانات تشمل كل شيء: الأعراف والتقاليد، الممارسات والمعتقدات الدينية، الموروث الخرافي، مواطن الخلل الاجتماعي، خواء الأفكار. اتسع الرفض حتى شملَ الأغذية، بما فيها أغذية الروح. مثل كُسكُس أيام الجمعة، وحساء رمضان، وأطباق الفول والعدس في أيام الفاقة، والموسيقا الأندلسية التي تقدَّم مع كل شيء، والأحاديث النبوية التي تستخدم كيفما اتفق. كأن شعاري آنذاك كان: وحدي ضد الجميع! ولو أنني كنتُ أمارس تمردي رفقة بضع أوغادٍ من معارفي.

لا يوجد أي سر وراء “ضلالاتي”. فقد كانت المدرسةُ قد وضعتْ أسُسَها، وأكمَلََ شرَهي للقراءة في ذلك العمر الغضّ، الباقي. أضِفْ إلى ذلك، بلا تواضع كاذب، ملَكةَ ملاحظةٍ عزَّزها ميلي إلى الوحدة.

لا بأس من القول بأن علاقاتي معكَ يا بلدي العزيز قد تدهورت بعض الشيء. فبما أنكَ اعتدتَ على التعامل مع جماعات أو مع المجتمع ككلّ، يصعب عليك قبول احتمال أن يتصوَّر فرد بسيط رابطةً شخصية معك، وأن يكلّمك بلا كلفة، في الوقت الذي كان هذا هو بالضبط ما أحتاج إليه في عمرٍ يكون الانزعاجُ الذي نكابده حيال ما هو خارج أنفسنا، انعكاساً لضيقٍ أشدّ نعيشه داخل أنفسنا. ولكنه صحيح أن علم النفس ليس ما تَبْرَعُ فيه، ولا دفق المشاعر. إنك تدع أبناءك ينمون في تربة تعتبرها التربة المثالية من أجل إعادة إنتاج قيم وسلوكات مروَّضة منذ قرون. لستَ بستانياً مطَّلعاً بما فيه الكفاية على التغيرات المناخية الجذرية أحياناً، ولا متيقِّظاً بما فيه الكفاية لكي تميِّز البراعم الهشة وتلك المفرطة في النمو. ثم إنه لا داعٍ للتذكير بمصيبة الجفاف الدوري الذي تعاني منه.

كبرتُ كيفما استطعتُ، مفتقراً للاهتمام والرعاية، ولستُ في النهاية مستاءً من اضطراري للاعتماد على قواي الخاصة وللتكيُّف مع ظروفٍ أقرب إلى العوز. لا تستغرب إذن إذا نمَوْتُ بشكل منحرف وبدأتُ أُبرْعِم قبل أواني، وإذا اكتسبتُ وعياً بنفسي منفصلاً عن الوعي الذي كنت قد كوَّنتُه بالآخرين جاعلاً نفسي في وضع لا يستند بشكل مباشر إلى دعامة، قياساً إلى أفكار وممارسات الآخرين عامّةً.

بدأتِ الفكرةُ التالية مشوشة، ثم بدأت تتضح شيئاً فشيئاً إلى أن فرضت نفسها علي: ما كنتَ تقدمه لي منكَ بوصفهِ المعيارَ والطموح، بل المثالَ المكتمل الذي يجب بلوغُه، ربما لم يكن سوى إمكانية من بين إمكانيات أخرى، وليست بالضرورة تلك المشتهاة أكثر. ومن جهته، كان العالم الذي أكتشفه داخل الحرم المدرسي والكتب التي ألتهمها، يقدم لي خيارات من طرق التفكير، واختبار المشاعر، والعيش في المجتمع، وإدراك العلاقة مع بلدٍ ما، والنظر إلى ما ورائه نحو العالم، كما أنه، وهو شيء مربِكٌ أكثر من هذه الانفتاحات، كان يتيح لي إمكانية الخيار الحر الذي يصل إلى مستوى الحق.

من المؤكد، وهو ما أراه الآن مع فاصل المسافة الزمنية، أن العالم الذي كنتُ أكتشف ملامحه في ذلك الوقت ليس بعيداً عن العالم الافتراضي الذي يميل الشباب جماعاتٍ إلى الاستغراق فيه اليوم .

بهذه الأمتعة الفكرية وبتنهيدة ارتياح شديد، غادرتُ أسرتي والمدينة التي شهدت ولادتي كي أذهب للدراسة في العاصمة.

كانت الستينات في بداياتها المتلعثمة. ولقد أكدتْ لي إرهاصاتُ التغيير الذي وجدتُه يمضي في الرباط بالاتجاه نفسه، أكدتْ لي سريعاً ما كنتُ أعتبره انتفاضةًً ضد بُنيانك الثقيل وضد وسائلك التي عفا عليها الزمن.

كانت الدوائر التي تتجلى فيها هذه الإرهاصات، مقتصرة على بضع مجموعات من الطلاب وتجمعات الفنانين. لكن الرباط بدت لي بلداً آخر بالمقارنة مع مدينة فاس. فمن المتاهة الرتيبة والشديدة المراقبة خرجتُ إلى مدينةٍ مفتوحة يزداد فيها الإحساس بالفضاء الرحب بفضل المحيط الذي تستند عليه بظهرها. من ناحية أخرى، كانت هذه تضم خليطاً من السكان ذوي الأصول والمعتقدات المختلفة وتعيش بإيقاعٍ تحرَّرَ من تلك الساعات المثقّلة بالرصاص التي كانت ساعاتُ الحائط العتيقة في مدينة مولاي إدريس تكرُّها بلا نهاية. كنت أستطيع أن أخرج وأعود على مزاجي، وأن أسهر إلى وقت متأخر إذا ارتأيتُ ذلك دون تقديم كشف حساب لأحد. وكنت في الحقيقة أكتشف أن النهار الحقيقي والأكثر إثارة، هو الليل.

كانت السمة الكوسموبوليتية الراسخة لحي “الأوسيان”، تجتذب طبعاً جماعةَ المتحولين ثقافياً مثلي. وكنا نلتقي في حانات التاباس2، وتغتني السجالات، بالمعنى الفلسفي للكلمة، وسط هذه الجمهرة من الناس، ويتم جرد وتحليل آخر أخبار روّاد الأدب والفن الطليعيين عبر العالم. كان هذا أو ذاك من بيننا يحمل دوماً في جيبه، دون أن يظهر عليه ذلك، نصاً من تأليفه، في حال اتجه اهتمام الجماعة إلى إبداعات أفرادها.

في مرات نادرة، كنا نجلس إلى طاولة في الخارج لكي نأكل أطعمة مشوية على السيخ، وننصت للحفلة البوليفونية من اللغات، الصادرة من الطاولات المجاورة، وهو ما كان يبدو لنا أمتعَ مظهرٍ في الحي. إلى هذا يجب أن نضيف الأرصفة التي تعدّ مسارح حقيقية في الهواء الطلق. كنا نشاهد مواكب تتقاطر فوقها من حسناوات صارخات الجمال، وأشخاص يعرجون مقدِّمين إصابتَهم بطريقة مدروسة، ولاعبي خفة من الدرجة الدنيا، ومجاذيب في حبِّ الرب يتكلمون بلغةٍ مستَعِرة، وبائعين يبيعون ما هبّ ودبّ، وأطفال أرِقين، ومثقفين ثملين وفخورين بثمَلهم.

كان مركز المدينة، حول شارع محمد الخامس، يضم بضع أماكن تشتد فيها حمّى اللقاءات والنقاشات أثناء النهار. هناك أيضاً توجد عدة مكتبات بدأتُ أتردد إليها منذ قبضتُ نقودَ منحتي الأولى كطالب. كانت المكتبة مؤسسةً جديدة عليّ لأنني لم أعرف في فاس معبداً للكتاب غيرَ المكتبة العمومية في “البطحاء”، التي تعود أحدثُ مقتنياتِها إلى آخرِ عهد الحماية.

رحتُ أُجري عمليةَ تحوُّلي، منساقاً بكامل إرادتي إلى قلب هذه الدوامة التي جعلَتْها علاقاتي الأولى مع الجنس الآخر واكتشافُ ألاعيب الغرام ومُتعِ الجسد، مُسْكِرةً أكثر. كان الحاجز الحديدي المزروع في صدري أثناء المراهقة، بصدد الانصهار. رحتُ أتخفَّف من الوطأة الساحقة للممنوعات ومن عارِ خرْقِها. كان جسدي نفسه يتحوّل. فلم يعد قفصاً لُجِمتْ فيه إفكاري ورغباتي ونزواتي. بل غدا امتداديَ المحسوس، والمنفِّذَ المطواع لرقصِ روحي والمستفيدَ بامتنانٍ من نشواتي.

بفضل شرطِ الحرية المسبق هذا، أصبحتُ أخيراً موجوداً وأعرف بأنني موجود. رحتُ أسمح لنفسي بالتفكير بالأشياء وبنفسي، بالكلام عن “حياتي” في الماضي بالتأكيد، إنما أيضاً في المستقبل. ما الذي سأفعله فيها، كيف، وأين، ومع من؟

وبالطبع، كنتَ بانتظاري عند المنعطف.

كنتَ قد تركتَني مثل حلزون في ماء مالح، أُفرِزُ بلا طائلٍ لُعابَ هرطقاتي، ثم أُطهى على مهل في صلصةِ إحباطاتي قبل أن تضعني في فرنِ الحرية الفاتنة وأنت تسقّيني من وقت إلى آخر بعصيرِ نقْمَتي الذي كنتُ أسرِّبه لكي أَطْرَى وأغدو قطعةَ لحمٍ فاخرة لأجلِ الغول الذي لا يَشبع والذي يُدْعى التاريخ. لقد لعبتَ الدورَ الاعتيادي الذي خصصه هذا لكل بلد في ظروف محددة، موهِماً هذا البلد بأنه مهدد في وجوده. كيف كان لي أن أنقم عليك في الوقت الذي رحت أتطلّع فيه المواجهة مع ذلك الغول، ورحتُ، مثل عوليس، أشحذ في السر ركاستي التي أحلم بغرْزِها في عينه؟ لِمَ لا يستطيع كائن بشري، في لحظة معينة من حياته، أن ينجو من كافة عمليات الأقلَمة، وفي صحوة ضميرٍ تقترب من الإشراق، أن يصبح سيِّدَ مصيره؟ في حالتي، أصبح النداء هاجسياً. رشقةً وراء رشقة، راحت الأسئلةُ تهاجمني: “الحرية بالنسبة لي، إنها شيء جميل، ولكن ما الذي تعنيه بالنسبة للشعب القابع في الهوة التي أحاذيها، الشعب المخدوع والمخبَّل والمسحوق، بلا حول ولا قوة؟ ماذا عن حلم الحرية التي قاتلَ من أجلها؟ عن الكرامة التي اعتقَدَ بأنه لمَحَها؟ من هم المعتَدون، من هم مدمِّرو الرجاء؟ وبعد فضحِهم، ما السبيل إلى هزّ سلطتهم وإسقاطها؟ وبأي نظام عادل يجب استبدالها؟ ومن سيكون صنَّاعُ هذا الانقلاب وهذا الإحياء؟ ما الذي سيتوجب عليهم إعطاؤه من أنفسهم؟”

وشيئاً فشيئاً، رحنا نلقي بأنفسنا في الماء سواء كنا نعرف السباحة أم لا.

وألقيت بنفسي في الماء.

يا لها من سنين مجنونة ورهيبة! لا أظن أنني أجافي الحقيقة إذا أكدتُ بأن علاقتي بك وصلتْ، خلال تلك الفترة التي قارَعَ فيها القلمُ السيفَ بشدة، إلى المستوى الحميمي، واكتسبتْ كثافةً تُقارِب الشغف.

هنا، لا بأس من التذكير بأنه، قبْل محنة النار التي تعرضتُ لها، كانت هناك تلك المغامرة الفكرية والفنية المدهشة التي خضتُها مع بعض زملائي والتي تجلّى إنجازُها الكبير في البحثِ ثم العثور، فيكَ، على مناجم مهمَلةٍ للنزعة الإنسانية وعلى مصادر للنزعة الكونية طال إنكارُها. عند مرور ذلك الشهاب الذي يحمل اسم “أنفاس”، توقف الصدام بيني وبينكَ لأنني تأكدتُ بأن بلداً مختلفاً يقبع خلف واجهتِكَ المصطَنعة، عذراءَ فراشةٍ تستعد للانطلاق وشق طريقها إلى العالم. لقد أعطيتَني أخيراً جناحين.

لم ترُق العلاقة الطيبة لـ “سادةِ الوقت”، فقرروا، بِساطورِهم الذي كاد يقطع لي يديّ، أن يفصلوني عنك الزمنَ اللازمَ لكي تنطفئ الشعلةُ ويطالَ القلبَ سُمُّ الشكِّ. كان جهداً ضائعاً. وطوال المحنة ، لم تخْبُ تلك الشعلةُ الداخلية، وبفضل نشاط الذهن المستمر، استوعبتُ أنواراً أخرى.

سأقفز إذن فوق تلك الصفحات الرمادية المُرّة من حياتي فلا أَستبقي هنا إلاّ اللُّطف الذي أحطْتَني به حين كنتُ محاصراً بالظلام. كان الحبُّ والشِّعرُ مبعوثيكَ المواظِبَيْن. كان لكل منهما أسلوبه في كنسِ العتمةِ من حولي وفي الكشف عن نفسيهما معبِّرَيْن عن هذا الطلب المحيِّر: أَعِدْ خَلْقي! لذا كان أمامي دوماً عمل كثير أقوم به.

اضطرّ سجّانيَّ لإطلاق سراحي لأن التقنيات التي جُرِّبت عليَّ من قبل كَسَّاري الرؤوس التابعين لهم، لم تُجدِ نفعاً، ولأنّه تبيَّن أنّ الاستضافة التي فرضوها عليّ مكلفةٌ لهم أكثر مما يجب بالنظر للصورة التي كانوا يحاولون إضفاءها عن أنفسهم. ولأنهم جهَّزوا الوضعَ في الخارج من أجل احتواء أذايَ وتحييده، فقد قلَّتْ مصلحتُهم في الاحتفاظ بي. اعتُمدَ النظام الذي يسيِّر السجن المادّي كنموذج سياسي واجتماعي. طُبِّقَ عنفُه على الشعب بأكمله وعلى العُصاة الناجين، بنوع من المكر المضاف. هكذا كنت أستطيع التنقَّل دون عوائق ظاهرة، وطواف مئات الكيلومترات، وكان الأمر كما لو أنني ما زلتُ أذرعُ باحة السجن بخطواتي. كان باستطاعتي كتابة القصائد والقصص والمقالات ونشْرها كيفما اتفق. ولكن كان لدي أثناء كتابتها، شعورٌ بأنني أخطّها فوق ورقِ إدارة السجن الرسمي، ولم ينتابني شك لحظة واحدة بأنها ستتلوث مِن عينِ الرقيبِ المُتَمَتْرِس ويديه. كنت أختنق أكثر مما وراء القضبان.

لقد سندْتَني في أشد ظلمات الليل حلكةً، ولكنك لم يكن بمقدورك أن تفعل الشيء الكثير من أجلي لأننا، أنت وأنا، كنا في الوضع الصعب نفسه. تلك السنوات التي تسمى بسنوات الرصاص، رصاص طلقاتٍ حقيقية في الواقع، سنوات الجمر الكهربائي الذي يخرق اللحم، والتفريق بالفأس، والمعتقلات الشائنة، سنوات الصلف والاختطاف، اللغة السوقية والانهيار الأخلاقي، سنوات النذالة وأفعال المقاومة اليائسة، سنوات الريح المجنونة والخسوفات المتكررة، كانت تلك السنوات مدمرةً بالنسبة لكَ. لقد أضعَفَتْ لك صحتكَ. فسقطتَ في ما يشبه انحطاط القوى وانغلقتَ على نفسك. من جانبي، لم يكن حالي أفضل بكثير. فالحرية العجيبة التي عبثاً حاولتُ أن أجعلها تُعطي ثمراً، باتت بطعم الرماد وبدأتُ بصراحة أجدها طويلة. أصبح حالنا، أنتَ وأنا، مثل حالِ زوج تعرَّضَ للجروح نفسها، ويخشى أن يزيد الوضع سوءاً إذا تكلَّم عنها. لا، لم يكن ذلك كبرياءً في غير محله، بل حرصاً على عدم الضغط على إرادة الآخر ومراعاةً لألمه الصامت.

منذ ذلك لم يكن أمامي من حلٍّ سوى الابتعاد.

هل أرحل لكي أحيا من جديد قليلاً؟ لكي أعيد بناءَ شيء ولو كان مؤقتاً؟

كان يوجد شيء من ذلك ويوجد عكسُه بالضبط: الرحيل من أجل تلبية نداءِ التجوال بلا نهاية، الحاجة إلى الضياع، النزوع إلى الاضمحلال التام.

المنفى في البداية رواحٌ ومجيءٌ بين هذين القطبين. تعايُشٌ بين الارتياح والضيق. ثمَلٌ بالحريات البرّية وشعور بخسارة لا تعوَّض. يشعر المنفيّ بالنقمة على العالم بأسره ويعذِّب نفسه بوحشية.

يمكن معرفة المنفيّ، عن بُعْدٍ، من خلال مشيته، مشية طير كسر جناحاه واضطرّ صاغراً أن يمشي، وعن قرب، من خلال نظرته التي تكنس صوَراً غيرَ مرئية ثم تتجمدُ فجأةً فوق تفصيلٍ برزَ من الواقع. تراه في أغلب الأحيان يرتدي ثياباً واسعة ً يسبح جسمه بداخلها، ويحمل، حتى عندما يخرج لشراء الخبز، محفظة جلدية تالفة تقريباً. يدخّن بشراهة، ليس بدافع الرغبة، بل كأنما من قبيل الواجب. كلما نظر إلى ساعته، ترى الخيبة على وجهه، وينظر إلى الأعلى كأنه يناشد السماء أن تكذِّب له تَعاقُبَ الساعات الرتيب. في المترو لا نعرف كيف يتدبَّر أمره دوماً لكي يجد مكاناً للجلوس، لن يستطيع شيءٌ أو أحدٌ أن يزيحه عنه قبل نهاية الخط. عندما يصل إلى “منزله”، يقرأ الكتيِّبات الدعائية التي التقطها في علبة بريده، من ألفِها إلى يائها، ثم يجلس مرتاحاً قرب الهاتف، وظهره إلى النافذة…

لو أنني راقبتُ نفسي من الخارج خلال الشهور الأولى من وصولي إلى فرنسا، لَتَعرَّفتُ على نفسي في هذا البورتريه الذي يتأرجح بين الكاريكاتير والتضامن. لحسن الحظ أنه لم يتح لي وقت كثير لكي أتفحص نفسي في مرآة. الشهرة التي سبقتني سرعان ما جعلتْ مني شاهداً يُلتَمَس من أجل صيانةِ شعلةِ معاركَ معينةٍ، أو موضوعاًً مثيراً للفضول يتهافت البعض على تفحُّصه بالعدسة المكبِّرة. كثر الطلبُ عليّ من أجل لقاءات ومداخلات منوعة، وجعلوني أعبر البلد الذي استقبلني من طرف إلى آخر، ومن هناك جعلوني أطوف العالم طولاً وعرضاً.

هل فعلتُ ذلك لحسابي لكي أعوِّض على الأقل “الزمن الضائع” الذي سُرق مني أثناء سنوات السجن؟ هل أسكَرَني اتساعُ عالمي هذا الاتساع المذهل، وكوني مركزاً لهذا القدر من الاهتمام الذي لا يغيب عنه الإعجاب أبداً؟ سأكون كاذباً إذا أنكرتُ بأنني شعرتُ بدوخةٍ بسبب الانفعالات غير المتوقعة، وأنني تذوّقتُ متعاً تُعتبر بحكم التعريف “أنانية” لدى دُعاة النقاء السلوكي، واكتشفتُ في نفسي، بالمباغَتة، رغباتٍ ونوازع وافتتانات وقابليات وطاقات كانت إما في حالة سُبات، أو أنها خُنقت في المهد أثناء حياتي السابقة. على أية حال، لا أعرف إذا كنتُ أخدع نفسي إذا أكدتُ بأنكَ أنتَ، يا بلدي العزيز، الذي كنتَ تدفعني لاستقبال المجهول بذراعين مفتوحين، وإعادة النُّبْل للرغبة، وتحطيم آخر قيودي، وتوسيع حدودي، وإسكِات اللازمة المملة للتعاسة بداخلي، والاحتفاء بشراراتِ الفرح الخالص الثمينة. كففتُ عن عدِّ المواقف التي كنتُ أكشف فيها علامةً تدل على حضورك، وبادرةً تُواكِب اندفاعاتي وأفعالي، بحيث أنني في النهاية تخيَّلتُ لكَ وجهَ أمٍّ تنظر بحنان إلى خلاعات ابنها وتجِد لها مبررات وافرة، كونُها باتت تعود عليه بالفائدة.

كنا قد وصلنا في علاقتنا إلى مستوىً من الشراكة لا يُبنى إلاّ على حدٍّ أدنى من الهناء. يا إلهي، كم كان مريحاً أن تتكلم بحرية، وتجتاز الحدود بالسهولة التي تجتاز بها عتبة بيتك! كنتُ، في تنقلاتي، أستطيع الدفاع عن قضيتنا، وكان الناس يَفهمونها. كنتُ أمارس ما اعتدتُ أن أسميه “دفاع وإيضاح”، مشترِطاً القيام بذلك عن طريق لغتي المفضَّلة، لغة الشعر.

وبهذه المناسبة، كان للفراق أثر جيد لم أتخيله في قلق البدايات، حين كنتُ فريسةً لحالة نضوبٍ قاتل في مصادرِ إلهامي. لقد أزالَ الحواجزَ التي تقف بوجه الكتابة من داخلي على نحوٍ مدهش. رحتُ أكتب بغزارة وتقريباً بلا انقطاع، دون أن أرفع رأسي. لم يعد المكان الذي كنتُ أتواجد فيه سوى فقاعة ضوء وُضعتْ في مكان ما من الفضاء، ولم يكن لضوئها، الطبيعي أو الإصطناعي، من وظيفة سوى إضاءة الصفحة التي أكتب عليها. من أين كان يأتيني ذلك المَنُّ؟ وإلى ماذا ولِمَن يعود الفضلُ في مجيئه؟ الفضل، وهو ما أدركه الآن على نحو أفضل، للعلاقة الجديدة بيني وبينكَ، المبنية، هذه المرّة، ولْنقُل الأشياء كما هي، على ميثاق أدبي. نعم، لقد تبيَّن أن الكتابة هي وسيلتي المُثلى لكي أسكُنكَ وأدعَكَ تسكنني كما تشاء. لقد أخذتَ راحتك أساساً وبدأتَ تنظّم إبداعي الفني تبعاً لِما امتنعتَ طويلاً عنه، وما أنكروه فيك وما كنتَ تتشوق لكي تخصّ نفسك به وتهتف به بلا تحفّظ.

لقد لزمكَ وقتٌ طويل لكي تدرك بأنّ ما أطالبك به منذ ثوراتي الأولى، كان بالضبط هذا الفعل السيادي بأن تكون حاضراً في العالم.

لقد اجترح الفراقُ معجزتَه الصغيرة. تَحرَّرنا من الطاعة، من التملُّك الأعمى، من الضغائن ومن الهذيانات العاطفية. بلغنا سن الرشد حيث الحرصُ على الآخر هو حرصٌ على حريته أولاً، كيلا نقول سعادته.

بالنسبة لي، كانت الرواية التي تنطق بنبرةِ المنفى التراجيدية تقترب من نهايتها. كنتُ قد عملتُ على مادّتها بما يكفي لكي أصوغ نصاً جديداً يرقص على موسيقا مختلفة. هذا يعني أن مفهوم المنفى لم يعد يبيِّن طريقة تَموضُعي في الشرط الإنساني. كنت قد سلكتُ طريقَ شعبٍ مهاجر لا يبحث عن أرض، سواء كانت أرضاً معروفة أو مجهولة، بل يبحث عن نزعة إنسانية قيد التنظيم. لأن الأرض، وهذه هي قناعتي لحظةَ كتابتي لهذه الكلمات، تُعطى مرةً وإلى الأبد. وتعود ملكيتُها لك حتى عندما تُمنَع عنك أو تُسحَب من تحت قدميك. أما النزعة الإنسانية فهي لا تُعطى لك تلقائياً ولا تعود ملكيتُها لأحد. إنها دوماً مشروعٌ قيد الدرس عليك أن تستحقّه وأن تفوز به باستمرار.

أعتقد بأنني عرفتُ جيداً مواطن العتمة ومواطن الضوء، مواطن العظمة والصَّغار، الهمجية والتحضُّر الكائنة في فرعَيْ الشجرة البشرية اللذين احتككتُ بهما حتى الآن. هذا ما جعلني أستقر مؤقتاً في منطقة واقعة بينهما، لكي أتمكن على نحو أفضل من تقييم الشرخ الذي يفصل بينهما وحالة الجذور التي تجمع بينهما بعيداً تحت الأرض. سطحُ بيتي موقعُ مراقبة من واجبي أن أشير منه إلى كل حركة مريبة يقوم بها مثيرو الكراهية. من ذلك الموقع أتوجه بالكلام إلى أولئك الذين يقاومون انحراف العقل، ويصونون شعلةَ اليقظة، رجالاً ونساءً في كلا الجانبين.

أقوم بهذا الواجب سواء طلبتَ ذلك أم لا، لأنني أشعر قليلاً بأنني مترجِمُ ومبعوث هذا التغيير الذي أجراه أحدنا على الآخر، تغيير يمثِّل لوحده رسالة تستحق أن تُحمَل إلى العالم.

ينتهي اعترافي في مناخ ساده الهدوء ليبدأ قلقٌ بالنهوض لأننا يجب أن نتكلم عن المستقبل.

سأرحل قريباً بالطبع، وأنتَ الذي لا يعنيه احتمال من هذا النوع، سوف تبقى. وسيستمر التاريخ بالسير بكل طيش. سيعود ويقدّم لك أطباقه الباردة أوالحارقة. وسيأتي شعراء آخرون، ليلاً، لاستفزازك والصراخ بمعاناتهم تحت نوافذك، وسوف يهرع الحشد المتزايد من المتزلّفين واللصوص، نهاراً، أمام عتبتك. ولن يبقى مخلصاً لك، من بين أصدقائك أو ممن يُفترض بأنهم كذلك، سوى أولئك الذين لم ينتظروا منك هِباتٍ سخية قط، بل انتظروا عدالةً عادلةً حقاً. معظمهم سيخونونك تبعاً للامتيازات غير المستحَقَّة التي منحْتَها لهم وبالتناسب معها بالضبط. هل ستقع من جديد تحت سطوة شياطينك السابقين؟

ما الذي تنويه أن تفعله بخصوص ذاكرة البيت المغربي ومستقبله لكي لا ينهار هذا البيتُ فوق رأس هذا الجيل القادم أو ذاك؟

لا أعرف إذا كان ما عشناه معاً سيفيد، وبأية طريقة؟ لنكن واقعيين. أنا لستُ سوى نقطة في محيطك، وهل المحيطُ يدرِك، هل يحتفظ بذكرى جميع نقاط الماء التي تكوِّنه؟ أليس كل إدراك، كما في الحياة التي هي مسرحُهُ، يتوقف على رمْيةِ زهر؟

ليت الحظ يساعدك ، يا بلدي العزيز!

مقتطف من كتاب شاعر يمر (دار ورد للنشر. دمشق. 2010 )
ترجمة روز مخلوف

وداعاً محمود

لم أتوقع أن يكون للرواية التي أنهيتُها أخيراً، لرحلتي إلى فلسطين، وبعدَها بأسابيع قليلة، امتدادٌ أليم.

الوقت نهاية يوليوز، ونحن في المغرب في منزلنا بالهرهورة قرب الرباط. نحتاج إلى عدة أيام من أجل تنظيفه وإعادة النظام إليه قبل وصول أولادنا وأحفادنا الذين يَعتَبرون قضاءَ جانبٍ من إجازة الصيف عندنا طقساً من إعادة الاكتشاف والبهجة والشراكة الظريفة.

أصبحنا في 10غشت.

زوجتي وأنا نمضي وقت العشاء عند ريتا وغيّوم، جارَيْنا اللذين أصبحا صديقَيْن لنا. ما نتوافق عليه كثير، وكالعادة، يتفاعَلُ “هاجس الأندلس” بيننا على أحسن وجه. إنه شغفٌ مشترك يزاوجه كلٌّ منا على طريقته ويغذِّيه باستكشافاتٍ تُتابَع على الجانب الآخر لمضيق جبل طارق. فوق المائدة التي نتواصل حولها، تشكيلةٌ من مأكولات ومشروبات لذيذة تمثل أطيب ما تزخر به الديارالإيبيريه، مع لمسة خاصة تعود إلى مهارة الطهي عند ريتا، المولودة في سلا، أحد الأماكن التي لجأ إليها مسلمو الشتات في الأندلس، وأصبحت لهذا السبب قطْباً في فن الطعام الرفيع الذي ينافس مثيلَه في فاس.

ريتا مؤرِّخة وغيُّوم مدرِّس فلسفة في ثانوية ديكارت. لذلك، فإن مراكز الاهتمام متوافرة بكثرة، ولقاءاتنا تعطينا دوماً المناسبة لاستعراضها من جديد، مع تفضيلِ ما يتَّصل بالمغرب، وما يتَّصل بفرنسا بدرجة أقل.

في منتصف الوجبة ينضم إلينا جاران مباشران آخران، سامية ومحمد. سامية تعمل في إحدى الوزارات وتتابع في الوقت نفسه أبحاثها للحصول على درجة دكتوراة في الآداب. أما محمد، الشاعر المبكر والعاشق للفن ومتعدد اللغات على نحو مبهِر، فهو شخص يسافر بلا انقطاع، مارس مهناً مختلفة (من بينها مهنة دليل سياحي في فاس) قبل أن يستقر في ستراسبورغ لكي يشغل فيها وظيفة القنصل العام للمغرب، العمل الذي يجبره على العيش بعيداً عن زوجته وأطفاله، ولا يسمح له بلقائهم في الهرهورة إلا أثناء العطَل. معه، تكون على ثقة بأن النقاش سوف ينتعش، فمن تبادُلِ الأخبار إلى المُسارّات، يرتفع نحو تأملاتٍ يُشار فيها إلى فلاسفة، وكتب تُقتَرح للقراءة، وتُستَحضَر فيها بتأثُّرٍ ذكرياتٌ عن فاس مدينتنا بالولادة.

لم أعد أذكر بالضبط عن أي شيءٍ كنا نتحدث عندما رنّ هاتفي المحمول. أظن أن محمد كان يكرر فكرةً دأب على الدفاع عنها، ويُفتَرَض، استناداً إليه، أن أكون أنا منفِّذَ تلك الفكرة. فهو لم يفتأ يثني على قدراتي، ويدلي بملاحظاته بخصوص حدود تجديد الفن السينمائي في المغرب، باعتباره يجد فيَّ الشخصَ القادر على القيام بقفزة نوعية في “الثقافة البصرية” حسب تعبيره، ويحاول إقناعي بالوقوف خلف الكاميرا لكي أصنع “الفيلم” الذي طال انتظاره، من نوع “تحت الأرض” لـ إمير كوستوريكا أو “حياة الآخرين” للألماني فلوريان هنكل فون دونرسمارك. لا شك أنني لطالما افتُتِنتُ بالسينما، ولكنني، في مادة الإبداع، أصبحتُ مع مرور الأيام من أنصار الفن الوحيد الذي توظَّف فيه قدراتُنا بشكل كامل، مهما كنا نميل إلى طرق أخرى في التعبير أو امتلكنا من قدرات كفيلة بتجسيدها. كان محمد يجاهد مرة إضافية لقهرِ تحفظاتي. بلا فائدة.

نهضتُ عن المائدة وانتحيتُ جانباً لكي أرد على الهاتف.

-مساء الخير، وعذراً على الإزعاج. أنا إليزابيت لوكريه من إذاعة فرنسا الدولية.

-مساء الخير.

-هل علمتَ بالخبر؟ سألتْني.

ترددتُ في الإجابة. بأي خبر؟ أغبى فكرة خطرتْ لي هي فرضية جائزة أدبية ربما منحتْ لي.

-محمود درويش مات.

-ماذا؟

-على إثر جراحة في القلب خضع لها في أحد مشافي هيوسطن، بولاية تكساس. أعرف أن هذا الخبر سيكون مؤلماً لك بالتأكيد. فقد كنتَ مترجمَ أعماله، وأحد أقرب أصدقائه.

-نعم… لا، تلجلجتُ. أعني أننا كنا متقاربين ولكن لم نكن صديقين حميمين.

-أفهم انفعالك. أقترح أن أعاود الاتصال بك بعد نصف ساعة. أترك لك الوقت لاستعادة أنفاسك.

-حسناً، أنتظر اتصالك.

تخشَّبتُ كما لو أنّ يداً عدوّةً وجَّهتْ لي بغتةً صفعةً أُضيفت إلى الصفعات الأخرى التي سبق أن تلقَّيتُها خلال الأشهر الماضية ومن ضمنها موت الرسام السوري صخر فرزات إثر نوبة قلبية، هو الذي أصبح ، مع مرور السنين، ومنذ وصولي إلى فرنسا، أقرب أصدقائي، أصبح أناي الآخر. كنا قد التقينا قبل ذلك ببضعة أيام في مقهانا المعتاد، بساحة الباستيل، وافترقنا وفي رأسينا مشاريع جديدة ووعدٌ بأن نلتقي بلا إبطاء لأجل تنفيذها. ما زالت رائحته، عندما تعانقنا، عالقة بذاكرتي. وما زلتُ أراه، في ساعات مختلفة من النهار ومن الليل، ممدداً فوق سرير الموت، وعلى وجهه ملامح السكينة. كانت زوجته عائشة أرناؤوط قد أخذتني من يدي إلى جانبه، وأذكر أنني أبديت هذه الملاحظة “هذا كل ما في الأمر إذن!” احتجتُ إلى شهور بحالها لكي أشفى قليلاً من صدمةٍ لم أتعرض لها سابقاً أبداً حتى بوفاة والدي…

من المكان الذي انتحيتُهُ جانباً لكي أرد على الهاتف، وبقيت أستذكر فيه الصفعات التي تلقيتها، خرجتُ إلى حديقة البيت. رفعتُ ناظريّ نحو قمةِ النخلة الظريفة التي تنتصب في مركزها. جاء بستانيٌّ مؤخراً وقلَّمها. قطعَ الأغصان المصفَرّة ولم يترك سوى باقة في الأعلى تشبه شعراً كثاً عصياً لولدٍ وقح. شجرة الحياة، قلتُ لنفسي، وُضِعتْ هنا لكي تساعدني على التفكير وتؤاسيني. لا بُدَّ أن تنفصل عنها أغصانٌ لكي يسري النسغُ بشكل أقوى في تلك التي تبقى، ويُعِدَّ لإزهار جديد، ثم برْعَمة ثم إثمار. لا شيء يضيع في هذه الدورة الطبيعية. الأغصان الميتة تستمر في الحياة على شكل سماد عضوي سوف يغذي التربة التي بدورها… إلى آخره. لهذا فإن عمّال البستَنَةِ، أولئك الفلاسفة المهمَّلين، غالباً ما تجدهم صَموتين. يكفيهم ما يراقبونه لكي يفهموا من أين نأتي وإلى أين نذهب، وما الذي سنؤول إليه بعد رحيلنا.

السماءُ، بعيداً فوق النخلة، مضاءةٌ بعدد لا يُحصى من النجوم. بعضها يلمع وبعضها لا يلمع وكأنه يكتفي بمرافقة الأولى، بتتبُّعها رافعاً لها ذيول أثوابها الطويلة. والقمر شبه المكتمل، يراقب بعينٍ نصف مغمضة ذلك الموكب الثابت في مكانه. للبحر رائحة قوية هذا المساء. يهيج ويزمجر، خلف المنزل، مثل ثورٍ سجين. آخُذُ نفساً عميقاً وأفرك وجهي. يخِفّ ألمُ الصفعات بعد استحضارها. لقد نسيتُ جلسةَ الأصدقاء المجتمعين. لا بدّ أنهم بدأوا يقلقون بسبب غيابي. أنتزع نفسي من أحلام يقظتي المتعددة الضفاف، وبخطوة مترنحة أعود إلى مكاني. ألبث الوقت اللازم لتناول كأسي من جديد وابتلاع جرعة كبيرة منه، ثم أعلن للآخرين النبأ الحزين، صفعة اليوم الجارحة على نحوٍ خاص.

بعدها سأتحول إلى مُشاهِدٍ بين عشرات الملايين منهم…حفل الوداع المهيب في رام الله، تُنقَل صوره بالأقمار الصناعية إلى كافة أنحاء العالم. مآتم شعبية نادرة الحدوث في التاريخ عندما لا يكون الفقيد أباً للشعوب أو رجل دولة كبير قضى وهو يمارس مهمته. من بين الكتَّاب، في فرنسا مثلاً، حظي فيكتور هوغو وحده بتكريم مماثل. لم يأتِ قلمي عرَضاً على ذكر اسمِ هوغو لأن درويش ممكن تشبيهه دون عناء بمؤلِّف قصائد “العقاب” و “التأملات” إذا وضعنا في الحسبان قامته الفكرية وحجم مؤلفاته الضخم والدور الذي لعبهُ الأدبُ على يديه في المعارك الاجتماعية والسياسية في العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين. لكن الشبَه يقف هنا نظراً للمهمة الخاصة التي استطاع شعرُ محمود درويش أن يؤديها. عند إعادة قراءته جيداً في استمرارية أعماله، نكتشف بأنه كان، لعقودٍ من الزمن، ورشةً نشَطت في إعادة بناءِ ونقلِ ذاكرة الشعب الفلسطيني، وبوتقةً أُعِدَّتْ فيها أساطيرُه المؤسِّسة وجُمعت فيها بصبرٍ الأجزاءُ المبتورةُ من شخصيته لكي تتوكَّد على نحوٍ أفضل. إذا أردتُ أن أخاطر بمقارنةٍ أخرى مع وجهٍ رمزيٍّ آخر من تاريخ الأدب، فسأذكر هوميروس وما جسَّده على الساحة الثقافية اليونانية، وفيما وراءها على الساحة الغربية.

لكن هذه الكلِّيات المجرَّدة لا يجب، في رأيي، أن تحجب أكثرَ صفةٍ كلّيَّةٍ تمسّني فيه. إنها طريقته في مقاربة اليوميّ، الأمر الذي ليس في غاية البساطة لإنسانٍ في ظروفه، أن يدور حول النواة الكامنة في الصميم ويخرقها في وضعٍ يكون الإنسان فيه وحيداً، متحيّراً، وبلا دفاع، وأن يوجِدَ، لكي يؤالفَنا مع جوهرَِ المأساة، ظاهرةَ التجاذُبِ بين الأضداد: البندقية وغصن الزيتون، الوردة والقاذورات ، رائحة قهوة الأم وروائح اللّحم المتفحِّم النتنة، الصفعة والمداعبة. وكما هو الحال مع نصوص أي شاعر آخر، يجب ألاّ تدَعَ الموسيقى الخارجيةَ لنصوصه تجتاحكَ، وذلك لكي تتمكن من التقاط موسيقاها الداخلية التقاطاً أفضل، دون إهمال سكْتاتِها، تلك الفُسحات التي تتنفس من خلالها.

خلال الأيام التي تلت وفاته، كثيراً ما قَصدني الصحفيّون لعلمهم بأنني كنت أول من ترجم أعماله للفرنسية. كانوا يَفتَرِضون أيضاً وجود علاقة صداقة بيننا تسمح لي بمعرفةِ مختلف جوانب شخصيته. استجبتُ، بطريقة أو بأخرى، لتلك الطلبات مقاوِماً شعوراً بالضيق. كنت أعرف أن أطناناً من التعليقات يتم إنتاجُها كل يوم، ترافِقُها جوقةُ النادِبات التي لا بدَّ أنه كان، في حياته، يحصي في عِدادها الكثير من الأعداء ومن ذوي النوايا السيئة. ثم إنني لا أتحمَّل خطابات المناسبات ولو كانت كلمات تأبين، وكنتُ أتمنى لو تُحتَرمَ رغبتي بالصمت، حالما تُستَشفّ.

الآن وقد انحسرت الموجة، أستطيع استحضار ذكراه دون أن يتولد لدي شعور بأنني أشارك في سباق لكيلِ المدائح يزدهي كلُّ مشارِكٍ فيه بالعلاقة المميزة التي كانت له معه ويحاول أن يستأثر بحصةٍ من الهالة المحيطة به، بل من إرثه. يجب أن أقول، مخاطِراً بتخييب الآمال، بأننا منذ بداية الثمانينات التي انكببتُ فيها على ترجمة أعماله، وهو ما أعطانا مرةً بعد مرة فرصة اللقاء والشعور بالتقارب، لم نلتق بعدها مجدداً إلا من بعيد إلى بعيد، لا سيّما عن طريق لقاءات شعرية كان كلانا مشاركاً فيها. السبب هو أن محمود لم يعد شاعراً فقط، وكبيراً فوق ذلك. فالتبجيل الذي كان يحظى به في العالم العربي جعل منه نجماً. كان حشدٌ من المعجبين والمتملّقين يتدافع حوله. وفي مثل هذه الظروف كان يصعب الحديث إليه، والتواصل معه بهدوء و تلقائية. لحسن الحظ أن فرصاً، على ندرتها، أتاحت لنا أن نمضي أمسيات معاً بصحبة بعض الأصدقاء المقرّبين. لحظات استرخاء كنا نتخلى فيها عن تيجاننا وشرائطنا المذهَّبة التي قلَّدتْنا إياها الجماهير، لنكون أنفسَنا، شعراءَ معظمُهم منفيُّون، يعيشون في أربعة أطراف الأرض، وكل منهم يحمل علامةَ مَنشأ جرحهِ، لكنهم يعملون جميعاً على تجديد الشعر، ومواصلة مغامرته، يعملون على مصداقيته عندما ينوي ألاّ يتجاهل شيئاً من الشرط الإنساني وألاّ يقف متفرجاً أو يتراجع أمام المدّ الهمجي.

هنا، كان درويش رفيقاً مرحاً، يسخر دون أن تشي به ملامحُهُ موفِّقاً بين مدرستين للدعابة: المدرسة البريطانية والمصرية (كان أنكلوفونياً وعاش في مصر مدة طويلة). لم يكن يتردد في المشاركة في لعبة قلبِ الدمى3 الرمزية التي تستهدف بالضرورة أشخاصاً غائبين لم نكن نقدِّرهم كثيراً. كلنا يعرف أن ذرة نميمة شيء مريح أحياناً. كان محِبّاً لمتع الحياة حين يتعلق الأمر بالمأكولات والمشروبات الأرضية، وإن بقي شديد التكتُّم بخصوص متعٍ الجسد الأخرى، ولا يتكلم مثلا عن النساء إلاّ مجازياً، كما في قصائده. صحيح أنه في أحيان كثيرة، وعلى كرهٍ منه، كان يشكِّل مركزَ اهتمام الجلسة المصغَّرة. يُحاصَر بالأسئلة فينطلق لسانه بفصاحة. لكنه كانت لديه اللباقةَ لكي يتوقف فجأةً وبصورة قاطعة لكي يدفع الآخرين للكلام. هذا ما حدث لي معه في سهرةٍ شعر فيها بأنه يحتكر الكلام. ولاحظ بأن صديقي الشاعر البحريني قاسم حداد وأنا، مستندَيْن أحدُنا إلى الآخر، كنا نقاطع النقاش. التفت نحونا بهيئة ماكرة معلِّقاً بقوله: “عبد اللطيف وقاسم يتصامتان” وكانت صياغة “يتصامتان” فوق ذلك اشتقاقاً لغوياً جديداً أوجَدَه في حينه لأجل الظَّرف.

عندما ذكرتُ عرَضاً هذا المثال الذي يدل على إحساسه الحادّ بالصياغة، لا أظن بأنني أوضحتُ على نحو أفضل إحدى إنجازات درويش الكبرى: الإنقلاب المضبوط التي أحدَثه داخل اللغة العربية، تلك السيدة العجوز المثقَّفة للغاية، المتعالية، المتمسكة بقواعد السلوك الجيد، والحريصة منذ قرون على ألاّ يتم العبث بشيء من مفروشات بيتها، من ديكوره، أو تنظيمه المنهجي. بعد أن قام درويش باستكشاف زوايا البيت القصيّة واستطلَع حتى طوابقه تحت الأرضية وأعمق أساساته المتوارية في التراب، انتهى به الأمر إلى السكن فيه على طريقته والتصرُّف فيه على راحته دون أن يظن نفسه مضطراً للانحناء تبجيلاً لسيدة البيت. لنقُل بأنه أوجَدَ، لمخاطبتِها، لغةً تراعي اللياقة وفي الوقت نفسه مبتَكَرة، تقترن بحقائقِ العالم الحديث ومتطلباته، وتُقِلّ حريةً تُمهِّد بحذقٍ للمستقبل وترسم منظورَه، دون أن تَشْتُمَ الماضي المَجيد. لقد نجح باختصار في نحتِ لغته الخاصة في صخرِ اللغة، المهمة التي تُعتبر في المحصلة، حيوية بالنسبة لشاعر، أياً كانت الأداة اللغوية المستخدمة. لكن ما يستوقفني في حالة درويش هو التطابق المدهش بين لغة الكتابة ولغة الكلام عنده. قلائل هم الكتّاب والمثقفون الذين لا يغيِّرون الطبقة عند الانتقال من الواحدة إلى الأخرى. أما هو فلا. حين تسمعه يتحدث عن الشعر، أو يمارس التحليل السياسي، أو يتكلم عن مسيرة حياته، يتضح لك في الحال بأن لغته فريدةٌ فرادةً قاطعة. فالمفردات، والحجج، وطريقة النطق، وإيقاع الكلام، كلها كانت تقتفي بدقةٍ أثر تلك التي أوجدها وعوَّدَنا عليها في شعره. وفي رأيي، إن سر الافتتان الذي كان يمارسه على مستمعيه ومحاوريه، يكمن هنا. عندما تسمعه وتنظر إليه، يمثُل أمامك الشعرُ في هيئة رجل.

وداعاً محمود! أسميك باسمك الأول مثلما يفعل جميع مواطنيك منذ أن اكتشفوا ما تمثِّله بالنسبة لهم: ليس أباً، ولا مرشداً أعلى، ولا شيخاً روحياً، بل أخاً أكبر يستطيعون سنْدَ رؤوسهم بكل طمأنينةٍ إلى كتفه. هل هناك مجدٌ لشاعرٍ أثمن من أن يسمع شعبَه، بالإجماع، يستشهد به ويسميه باسمه الأول فقط؟

مقتطف من كتاب شاعر يمر (دار ورد للنشر. دمشق. 2010 )
ترجمة روز مخلوف

الحياة أقوى

الحياة أقوى. حدثٌ سعيد جاء في اللحظة المناسبة ليكنس تلك التأملات الجنائزية. لقد أنجبت ابنتي الأصغر مولوداً في ليل يوم 7 يناير ( كانون الثاني). هرعتُ في اليوم التالي إلى باريس لزيارتها في دار التوليد التي تحمل اسمَ Notre-Dame du Bon Secours4 المطَمْئِن. هناك كانت تنتظرني أعجوبتان، الملاكُ الصغير المؤنث الذي ينام في مهده بسلام، والوجهُ الذي تحوَّل كلياً، للنفساء الجديدة، ابنتي المدللة التي أصبحتْ أماً. حتى وقت قريب، كان يصعب عليّ أن أرى في هذه الفتاة الراشدة المزدهرة غيرَ خليطٍ من الطفلة الجميلة الأنيسة، والمراهِقة العنيدة التي كانتْها. طرأ عليها التحوُّل مع حملها. قَسَتْ ملامحُها قليلاً وندُرت الابتسامةُ الفكِهةُ التي كانت ترسمها على وجهها دوماً. حلت محلها رصانة غير اعتيادية ومُقلِقة إلى حد ما، كنتُ أجيِّرها لحسابِ اللغز الأنثوي. كانت الابتسامة التي تضيء وجهها هذه المرة هي ابتسامة جوكندة حقيقة بشحمها ولحمها. لا يرجع سرُّها، كما في لوحة الرسام، إلى فنٍّ محنّك، بل إلى “المخاض الخلاّق” الذي أنجزته الواضِعةُ للتو، تتويجاً لرغبةٍ ثم حمْلٍ يرتبطان بأجمل غريزة، الحفاظ على النوع.

إعجاب وامتنان، هذا هو المعنى الذي أراه في القبلة التي طبعتُها فوق جبين ابنتي قبل أن أنحني فوق الأعجوبة الأخرى. إنها صوص بالكاد فقست عنه البيضة، برأس مدورة تعلوه خصلة حريرية، وملامح دقيقة ومميزة منذ الآن، ويدين بأصابع شفافة رشيقة رشاقةً مدهشة، وعينين لوزيتين تنفتحان بصعوبة، وأهم من كل شيء ثقة تامة بالحضور في الدنيا. لا فائدة من البحث عن جوهر الجمال في مكان آخر، قلتُ لنفسي، إنه هنا أمام عينيك، متحد جوهرياً مع مجيء الحياة الخارق والمستمر بلا انقطاع.

أهلاً بك بيننا أيتها الصغيرة، استأنفتُ. ها قد بدأتِ الحياة ربما لكي تَعبري هذا القرن الجديد من طرفه إلى طرفه. ما هي الاضطرابات وما أشكال التَقدُّم التي ستكونين شاهِدةً عليها، أو، ولِمَ لا، فاعِلةً فيها؟ من أيةِ معارف واكتشافات ليست لديّ فكرة عنها ستستفيدين؟ ما هي أقطار العالم التي ستسيرين فيها، وأين ستستقرين إذا أحببتِ أن تستقري؟ ما هي اللغات التي ستتعلمينها بحكم الضرورة أو بدافع الرغبة؟ أية مشاعر حب عاصفة تنتظرك، وأية علاقات حب ساكنة وبدون غيوم؟ في أية كتبٍ ستكتشفين الصوت الذي سيؤثر بك من الداخل؟ هل ستقرأين يوماً أحد كتبي، ليس بدافع الواجب، بل، بدافع الفضول المحض، لكي تبحثي فيه عن أجوبةٍ لأسئلتك؟ أمام أية لوحات ستقفين، مذهولةً لاكتشافكِ بأنها رُسمتْ من أجلك وحدك؟ ما هي الألحان والأغنيات التي ستحتضن روحَك وتُراقِصها؟ كيف ستقاربين، أنت، الأسرار التي كرَّستُ، أنا، لها الجانب الأعظم من جهودي في الفهم؟ ما هي الأطعمة الأرضية التي ستفضلينها؟ ما هي الشجرة التي ستعتبرينها حِرزَكِ؟

بعد مجموعة التساؤلات هذه، دعوتُها للصعود فوق كرتي الكريستالية المرتَجَلة. لاحقتُها خطوةً خطوة، فصلاً بعد فصل في الحياة. وفي نهاية الرحلة ميَّزتُ قامة امرأةٍ ناضجة متقدمة في السن، منحنية فوق مهدِ طفلٍ وليد، لا أدري هل هو ولد أم بنت، وغارقة في تأملاتٍ استشفَّيتُ بأنها تشبه، في نقاط عديدة، تلك التي عبَّرتُ عنها للتو. رمقتُها بنظرةِ حنان ممزوج بالاحترام قبل أن تنطق شفتاي بسؤال طريف:

-قولي لي، أيتها السيدة الفاضلة، أيَّ حصةٍ منك ستورثينها لذريتك؟

-كم تتعجل الأمور، ردتْ دون أن تستدير. ألا يتعيَّن عليك أنت أولاً أن تجيب عن السؤال؟

-أصبتِ! قلتُ موافِقاً.

تشوَّشتْ صورةُ السيدة عندما تحرَّكتْ حفيدتي في مهدها وانفتحت عيناها قليلاً.

-أسمعكَ، بدا أنها تقول لي.

-حسناً، سأحاول، ولكن لا تتوقعي أن أروي لك إحدى تلك القصص المخصصة لهدهدةِ نوم الأطفال. أفضِّل قطعَ المراحل ومخاطبتكِ كما أخاطب الكبار.

لم أحظى بالتعرف على جدودي. ليس لدي سوى ذكرى غائمة لجدتي لوالدتي، لالَّه طهور، التي توفيت عندما كان عمري ثلاث أو أربع سنين. لا أعرف شيئاً عن زوجها، أو عن أهل أبي. أعرف أسماء فقط. لم يكن الناس، في الوسط الذي ولدتُ فيه، يهتمون بتاريخ العائلة، أو بما يتعلق بالماضي عموماً. كانوا أساساً قلَّما يتبادلون الكلام. كان الحاضر يبتلع تماماً حياة أبويّ، اللذين كان عليهما تأمين خبزنا اليومي، والثياب اللائقة وزوج الأحذية المتين، مرةً في العام. لقد فهمنا نحن الأطفال (كنا ثمانية) كم كان المستقبل مهماً. لقد وظَّفنا فيه كاملَ طاقاتنا. أردنا أن نتعلم ونتعلم لكي نتمكن من الخلاص ونساعد، حالما نكون قادرين على المساعدة، أولئك الذين لطالما كدُّوا من أجلنا.

ما هو الشيء الذي انتقل من جدَّيّ إلى أبويّ ومن هذين إلي؟ لم يعبَّر عن هذا الموضوع قط بالكلمات. كل شيء كان يتجسد في الأفعال. ولقد احتجتُ إلى وقت لكي أدرك معناها وأهميتها. لم يورّثني أهلي في الحقيقة، سوى ما أخذوه هم عن أهاليهم. وما هو؟ لا شيء مادي، بل ممتلكات أعتبرها اليوم لا تقَدَّر بثمن وأسميها قِيَماً: التواضع، الاهتمام بالآخرين، العطاء بدون انتظار مقابل، الاكتفاء بالقليل، وفضيلة أخيرة كدتُ أنساها في حين أنها ربما تكون الأهم، والأصعب اكتساباً: القدرة على الصفح.

لا تظني بهذا أنني عرفتُ العائلة والمجتمع المثاليين. لا أبداً! كانت هناك عيوب ونواقص كثيرة متداخلة مع هذا النوع من الفضائل، كنت أجدها لا تُطاق: غِلُّ التقاليد، كَمٌّ كبير من الخرافات ، قمع الرغبات، الافتقار إلى الخيال، الخضوع للأقوياء، رفض ما يخرج عن المعيار السائد منذ قرون.

ثرتُ أولاً ضد السلبي قبل أن أكتشف الإيجابي وأتمكن من فصل الجيد عن السيء.

منذ ذلك الوقت دارت رحى الزمن، ودارت، مخلِّفةً وراءها عشرات السنين. تشتَّتَ قسم كبير من العائلة بعد أن غادَرَنا أبوانا. العالم الذي كنتُ قد عرفتُهُ معهما التهمهُ جيشٌ من الجرافات التي كانت تعمل في خدمةِ ما يسمى بـ “مسيرة التاريخ”. ظاهرةٌ شبيهة باختفاء قارة أطلانتيد التي تخيَّلها الفيلسوف الإغريقي، على إثر كارثة طبيعية. كيف أنسى أنني انتميتُ إلى هذا العالم المختفي وأنني كنتُ شاهداً على غرقه؟ ماذا أعمل لكي أسدد دَيْنََهُ عليَّ؟

بهذا الوعي كُتبتْ رواية حياتي. كنتُ أحياناً مؤلِّفَها المتمتِّع بكل قُدراته، وأحياناً قارِئها الحائر أو شخصيةً من شخصياتها، تُفلِتُ، في لحظةٍ من لحظات الحكاية، من مؤلفِ الرواية وتبدأ باختراع نفسها، وتقرير مصيرها بنفسها.

أعترف يا صغيرتي بأنني، في موضوع التوريث ليس لدي ما أورِثُكِ إياه سوى هذا الكتاب الذي يظهر بمظهر متاهةٍ يتم فيها الانتقال من الشعر إلى النثر، من المسرح إلى الحكاية، من الغضب إلى التأمل، ومن الجنون إلى الحكمة. وتُعرض فيها رحلات عديدة، حقيقية أو متخيَّلة. أزعم أنه يمكن أيضاً أن تُقرأ فيها قصة حب جميلة، وأنه حتى عندما يكون الموضوع جسيماً فالابتسامة ليست ببعيدة عنها، إذا لم تكن الضحكة الصريحة، التي استُخدمت بكثرة من أجل تنظيف النفس من أوساخ الغباء.

ما العمل كيلا نضيع فيها؟ ستقولين لي. هنا، سأكشف لكِ سراً. الخيط الهادي موجود، وهو ليس مادياً. إنه من طبيعة تلك القيم التي تلقَّيتُها من أبويّ. باستثناء أن هذه لا تَدين لهما بشيء. أنا الذي اكتشفتُها وقدَّرتُ قيمتها ووضعتُها في مركز كل عمل شرعتُ فيه في حياتي كراشد. إنها ثمينة إلى درجة أنني أخشى أن تفقد من قوَّتها و من ألقِها حين أُسميها.

لحسن الحظ أن المصادفة تساعدني أحياناً. فقد عثرتُ مؤخراً في كتاب إحدى الشاعرات، على استشهادٍ أذهلني. بدا لي مضمونه ملائماً على أكمل وجه، وكلمةً كلمة بلا مبالغة، للفكرة التي في ذهني عن هذه القيمة العليا التي تُمثِّلها الحريةُ لي. ها قد عرفتِ الآن خيطكِ الهادي. اسمعي ما يقوله عنها ميشيل باكونين، مؤلف النص، وهو الرجل الذي لم يعِش في القرن السابق لقرني، إلاّ ليقول لا لكلِّ ما يُبقي الكائنات البشرية في عبودية:

“يهمُّني كثيراً ما هُم عليه جميع البشر الآخرين، لأنني مهما ظننتُ نفسي مستقلاً،…فإنني نتاجُ ما كان عليه آخِرُهم؛ إذا كانوا جهلةً، بؤساء، عبيداً، فقد تحدد وجودي بجهلهم وبؤسهم وعبوديتهم. أكون، أنا الرجل المتنور أو الذكي مثلاً – إذا كان هذا هو الحال-، غبياً لحماقتهم؛ وأكون، أنا الباسل، عبداً لعبوديتهم؛ وأرتجف، أنا الغني، أمام بؤسهم؛ وأمتقع، أنا المحظوظُ، أمام عدالتهم. أنا الذي أريد أن أكون حراً أخيراً، لستُ بالحر. لأن الجميع من حولي لا يريدون بعد أن يكونوا أحرار، وبما أنهم لا يريدون ذلك، فإنهم يصبحون أدوات قمعٍ موجهة ضدي.

لا أكون حراً بالفعل إلاّ عندما تكون جميع الكائنات البشرية المحيطة بي، رجالاً ونساءً، حرة أيضاً… وعندما تتأكد حريتي الشخصية بحريةِ الجميع، فإنها تمتد إلى ما لا نهاية.”

اللعنة! ماذا دهاني حتى أُلقي بخطاب طنّان بهذا الشكل؟ لقد شعرتُ وأنا أغادر دار التوليد بأنني مضحك بعض الشيء. في الخارج، كان الليل قد حل، وكانت واجهات المحلات، في شارع آليزيا، مغطاة بالكامل بملصقات تعلن عن رخصة الأسعار، تصل حتى 70% بفضل الأزمة. وباعتباري لم أعد أذكر أين أوقفتُ سيارتي، درتُ في الشوارع المتاخمة، مذعوراً لفكرة أنها قد احتجزت لكوني ارتكبت مخالفة ما عند صفها. وبما أن من عادتي أن تكون لي استجابات متأخرة، رحتُ أستعرض في رأسي لحظات “محادثتي” مع حفيدتي. لماذا كنتُ ثرثاراً إلى هذا الحد ودلفتُ في اعتباراتٍ بهذا التعقيد؟ مع أنني كنتُ قد أعددتُ شيئاً بسيطاً لكي أقدِّم لها نفسي عن طريقه، هو نوع من لغز، وعندما جاء وقته نسيتُه بكل بساطة، ولم أتذكره إلاّ الآن. ليتني بحتُ لها، دون زيادة، بالجملة، اللؤلؤة التي وجدتُها في كتاب ورود أكاتاما، للكاتب التشيلي لويس سيبولفيدا: “ليس الأجداد سوى أطفال متنكِّرين!”

مقتطف من كتاب شاعر يمر (دار ورد للنشر. دمشق. 2010)
ترجمة روز مخلوف

حدثَ في فاس

في فاس، لا تخرس السماء لمدة طويلة. يكفي لمعاينة ذلك، بذل بعض المجهود. لماذا كانت تفتنني إلى هذا الحد، أنا الجاهل من الشعر حتى اسمه ولا أعرف سوى كلمة “النجوم” اليتيمة لتعيين ما لا يحصى من الكواكب المشعة التي تمتلئ بها قبتها ليلاً؟

كان زادي من الكلمات هزيلاً، هزيلاً للغاية. وكان يغيظني عجزي على أن أصفِّف أمامي أشياء تأملي وأقول لها: أنت تسمى هذا، وأنت ذاك. وما دمت قد تعرفت عليكم وبفمي سميتكم، فكفوا عن الظهور بمظهر المكتنفين بالأسرار، وتعالوا، اتبعوني. هُوبْ، هوب، سأضعكم في مزودي، وهيا، إلى الأمام! في سفري سوف تكونون مؤنسي المؤتمن على أسراري، وإذا ما أطل خطر خلال الطريق سوف تصبحون لسان صرختي وذراع شجاعتي.

كان سطح بيتنا في حي السياج ميداناً فسيحاً بالمقارنة مع سطح “مصريتنا”، القزم، في عين الخيل. لقد حل محل مسرح الجيب الذي مارستُ فيه أحلام يقظتي الأولى، نوعاً من المدَرَّج المتناهي الأطراف والمعلق في الهواء. من هناك كانت المدينة تعرض عليَّ نفسها، من قمة الرأس إلى أخمص القدمين. من كان يعكس الآخر، هي أم السماء؟ لم تكن عيناي قادرتين على الفصل في ذلك. كانتا تتيهان في لعبة المرايا تلك وتنعمان بالإحساس بالتيه. كانت مدينتي تعرف كيف تطبع نفسها على صفحة سمائها، والسماء تبدو أبلغ راوٍ لمدينتي. كنت الناسخ المثابر والمتفرغ لذلك الحوار العالم. أقطف منه الموسيقى وأترك له الملكات التي خبرتها. كان جسدي يتخفَّف من وزنه. لحظة فقط، وأشعر أنني قادر على التحليق، دون أجنحة.

من حسن الحظ لم يكن أحد ليشاهدني أو يستمع لرنين سُبْحَة الهذيانات في رأسي. وإلا كنت سأُتَّهَمُ، في تلك الظروف، بعدم الاكتراث بالمصيبة التي كانت قد أصابتنا وأوصَفُ بالانهزامية. مع ذلك، لم أكن لأتوقع البتة أن السماء كانت ستبعث لنا في تلك الأيام رسالة أخرى مخالفة.

كنا في نهاية شهر يوليوز، مع اقتراب اكتمال البدر. مرَّ الآن عام على خلع ملك البلاد عن عرشه ونفيه. كان الآن تحت مراقبة مشددة، في جزيرة إفريقية بعيدة يلح إدريس على تسميتها مدام كاسْكار. وكنت أسخر، مع بقية متعلمي الأسرة، من هذا التلفظ المبتكر. كنا من مدة قد حددنا موقع الجزيرة على خريطة القارة السمراء وبدأنا نطالع عنها. كانت أنتسيرابي المتواضعة، حيث أبعد بن يوسف تأخذ باهتمامنا أكثر من العاصمة تناناريف. أما تاريخ البلاد فيقدم تشابهات مدهشة مع بلادنا. حماية هناك، وحماية هنا. فيما مضى، كانت ملكة البلاد قد خلعت عن العرش ونفيت هي أيضاً. الظاهر أن مستعمرينا لا يحبّون الملوك. طبيعي، قال أكثرنا علماً: لقد قطعوا رأس ملكهم منذ زمن طويل.

من يحكمهم إذن؟

رئيس يختارونه كل سبع سنوات. ثم يأتي دور رئيس آخر.

ومن يختار؟

الجميع، رجالاً ونساء.

والحمالون أيضاً؟

حتى عسّالة، ميكو أو الشيكي لقرع لو كانوا هناك، لكان بإمكانهم أن يختاروا.

وما رأي العلماء في ذلك؟

العلماء في فرنسا، لا يهتمون بهذه الأشياء.

ومن يهتم بها إذن؟

أناس مثل بلحسن الوزاني.

أهو متفق مع أولئك الذين يقطعون رؤوس الملوك؟

إطلاقاً لا. مع ملكنا، إنه على انسجام تام.

وعلال الفاسي؟

هو كذلك. مع أن…

مع أن ماذا؟

تزعجنا بأسئلتك. انتظر حتى تكبر، وستفهم.

لن يقول قائل إنني لم أبذل الجهد الضروري.

عاد بن يوسف!

تدفق الخبر في مدينتنا مثل موجة هائلة ولدت في بحر باطني هائج. ولأننا لم نكن متعودين على الإبحار، فقد هزتنا الموجة في الأعماق وجرفتنا قُوتها. لم نعرف بم نتشبث لاستقبال الخبر السار دون أن نفقد صوابنا. في جهات المدينة الأربع، في كل الدور، تشبث البعض بالبعض وأقاموا سلسلات بشرية لتَحمُّلِ الصدمة والاستعداد لرد الفعل، وعندما استرجعنا طاقة الكلام ثانية، كان ذلك لتمتمة أسئلة انفلتت من أفواهنا كطيور مضطربة: ماذا، ماذا، ماذا؟ متى؟ أين؟ مع من؟ كيف؟ بحراً أو جواً؟ على متن سيارة أو حصان؟ هل هو بالفعل أو ليمُه؟ هل نطق بشيء؟ هل شاهده أحد بأم عينيه، واستمع إليه بأذنيه؟ ماذا تقول الإذاعات؟ أين يجب الذهاب للمزيد من المعرفة؟

استمرت الموجة في تدفقها، وتحولت فاس شيئاً فشيئاً إلى نوع من سفينة نوح، عاد الإيمان إلى عليائه، مطمئناً القلوب. وأمَّا السماء التي بقيت زرقاء طيلة الإعصار، فذكرتنا بوجودها، وكلّفت الشمس في أفولها بأن تمنحنا غروباً بهياً. تلون وجهها بألف نور ونور ناعم ومحتشم. وعندما نادى المؤذنون لصلاة المغرب، بدوا كأنما غيَّروا الكلمات لما كان لإنشادهم من عذوبة. ونتيجة لذلك، تلاشت الأمواج الصاخبة. كنا نندفع على سفينتنا، مُهدْهَدين بالابتهالات الغنائية والضياء الرقيق.

هل تناولنا عشاءنا ذاك المساء؟ غير مؤكد. كنا بحاجة إلى الكلام، إلى تبادل الزيارات، إلى أن يلمس البعض البعض الآخر، إلى أن يضيف كل واحد إلى حبور الآخر وأن نرسم، نرسم المستقبل بأقلامنا ومدادنا، بألواننا الخاصة. أعدنا اكتشاف أيادينا، تلك الأيادي التي لم تكف عن الرسم، التخطيط، الزخرفة، النقش، النحت، الحلاجة، الغزل، النسيج، الحياكة، الطرز، التفضيض، الصقل، الخياطة، التلصيق، التبليط، التجصيص، التقطير، نحت الطين، الحديد، الفضة، النحاس، البرونز، إطعام الأطفال، الفقراء، اليتامى، عابري السبيل والمجانين. أيادينا تلك، التي كنا قد شككنا فيها وها نحن نفتحها الآن، أكفاً باتجاه السماء، لكي تباركها وتملأها من هباتها.

في تلك الأثناء، حل الليل. لم نكن بحاجة إلى إشعال النور ما دامت السعادة تنيرنا من الداخل. عندها وصلت الزغاريد الأولى إلى أسماعنا. أجابتها زغاريد أخرى، ثم تعاظمت الجوقة إلى حد زعزعة حيطان الدار. بدأت غيثة، المحرومة من زمان، تشارك، وردت عليها أختي زهور مباشرة. وعلى هذا جاء أحدهم يطرق بابنا وأنبأنا بهذا الخبر المدهش: لقد ظهر بن يوسف في القمر!

لنصعد إلى السطح! صاح إدريس.

تدافعنا في السلم. على قدر ما كنا نصعد، على قدر ما كانت الجوقة تتعالى. لما وصلنا إلى السطح، وجدنا جيراننا القاطنين في الطابق الأول. لم تفكر أي من النساء، مع التسرع، في ارتداء جلبابها، أو حجب وجهها. كنَّ في ثيابهن الداخلية. ولم ينتبه الرجال إلى ذلك. كانت العقول طائرة والأعناق ممتدة إلى السماء. الأسطح المجاورة ملأى بالناس، وكل سكان المدينة قد تجمهروا لمشاهدة الظاهرة. كانت الزغاريد تنفجر، موجة تلو الأخرى، تقاطعها ابتهالات لم تعثر في البداية على إيقاعها قبل أن تنصهر في نفس القالب وتُسمع في شعار موحد:

مولانا يا ذو الجلال

بن يوسف والاستقلال!

في غضون ذلك أصبح التدقيق في القمر يثير خلافات جدية. كانت غيثة، التي بدأ نظرها يضعف، تتساءل عما إذا كان السلطان واقفاً أو راكباً حصانه.

أي حصان؟ قال إدريس مستاء. افتحي عينيك جيداً، وجهه وحده هو الذي يظهر.

لعلك تريد أن تعلمني كيف أنظر؟ أقول لك إن هناك حصاناً. وأنا متأكدة من ذلك.

ارجعي إلى الله، أيتها المرأة. ذاك مجرد قُبِّ جلبابه. ألا ترين عيني السلطان، وأنفه؟

والفم، أين هو إذن؟

أين تريدين أن يكون؟ على جبهته؟

وتدخلت زهور بحسها التربوي المعهود، وهي تصوب سبابتها نحو القمر:

أنا سأقول لك، أميمتي. توجد الرأس في الوسط تماماً. تابعي إصبعي.

أين إصبعك؟ أتظنين أن لي عيني قط؟

ها هو ذا، امسكي، وتابعي ما أبين لك. وهذه هي حوافّ القبّ. هذه دائرة الوجه، وهنا الشفتان.

آه نعم، يا بنيتي، يبدو أنك على صواب. الآن أرى فماً، وكأنه يستعد للكلام.

وبينما كانت العائلة تسير نحو الإجماع، كنت أجهد من جهتي للالتحاق به. وللأسف، رغم محاولتي المثابرة لم تكن النتيجة مقنعة جداً، والقمر شاهد على ذلك! أكيد أن البدر كان وضّاءً أكثر من المألوف وأن أشكالاً غامضة كانت تتخلله. لكن وجهاً مرسوماً بوضوح، ماساً من قريب أو بعيد لوجه السلطان الغائب، فكلا. على أية حال، كانت الصورة التي عرفت عنه والتي أتلفها أبي خلال فورة هلع، تعرضه جانبياً معتمراً طربوشاً مفلوقاً في الوسط، من النوع الوطني. في حين أن الحديث حولي كان دائراً عن رأس مواجهة، مغطاة بقب. لكن، كيف كان بإمكاني أن أشك للحظة واحدة في الرؤية المثبتة بسرعة، المفصلة أكثر فأكثر، ثم المجتمع عليها، والمحيَّاة في الحماسة والاستبشار؟ لم يكن بوسعي أن أؤاخذ سوى فقر نظري والآفات المواكبة لسني. فللكبار طاقات ما تزال تعوزني. والأبسط أن أصدقهم بعينين مغمضتين. ومن هنا إلى الادعاء لم تكن سوى مسافة خطوة، عبرتها لتبديد شكوكي والمزايدة حتى. هكذا فاجأتُ نفسي أسخر من غيثة، المتهمة بالتذبذب قبل أن تتبنى الرواية الرسمية:

لقد طار حصانك، أليس كذلك؟

الله يجعله يدوسك، ويصيرك كفتة! أجابتني.

الحل الذي وجدته لإبعاد ذلك السوء عني، هو أن أصدح بدوري منضماً إلى جوقة الابتهالات:

مولانا يا ذو الجلال…

أهو ذلك الدعم المتواضع للحماس الجماعي الذي أتى بالطائر الحديدي؟ هو ما حسبته بكل سذاجة. لاحت المروحية، المسبوقة بدوي هائل، مضيئة السماء بنجوم وامضة، خضراء، حمراء، وبدأت تدور فوق رؤوسنا. حصل صمت قصير قبل أن تتفجر جلبة واسعة من الصياح المناوئ، مصحوبة بحركات مخلة بالحياء اتجاه مقيلي الآلة. عادت المروحية، التي خاب أملها بهذا الاستقبال، إلى الارتفاع، مرت أمام القمر، كما لو أنها تتعمد حجب وجه السلطان وابتعدت. تفاخر الناس، ثملين بنصرهم. ليس لمدة طويلة. كانت الآلة تعلن رجوعها. عاودت الظهور، واعتقد البعض رؤية التماعات مضيئة تصدر من هيكلها مصحوبة بانفجارات خاطفة، وصرخ إدريس، الخبير في الموضوع لكونه قد تدرب على بنادق الفروسية:

إنه البارود الذي يتكلم!

بدأ الذعر ينتابنا. وقلقت غيثة على صغارها.

لم يعد الأمر لعبة أطفال. هيا، انزلوا بسرعة.

أبدينا بعض المقاومة، سيما وأن هذه المرة حقاً لم نشاهد ولم نسمع أي شيء. ظفرنا بوصلة إضافية. لأن المروحية كانت قد ابتعدت من جديد. تنهد الناس انفراجاً وعادوا إلى موضوع انحسارهم. كان القمر قد تغطى بحجاب رقيق. غيرأن التضبيب هذا، لم يمنع المناقشة من التدقيق في التفاصيل. افتتنت امرأة جارنا أمام الملأ بجمال الملك:

تبارك الله، قالت. إنه لفنان من رسم حاجبيه وأعطى لعينيه مدار كأس بِلَّور.

نور وجهه من نور مكة، أضافت غيثة، حتى القمر يغار منه.

أرأيتِ، لالة، استقامة أنفه، لا هو خانس ولا أقنى؟

أهو خال ذاك الذي يبدو على وجنته؟

خال أو غير خال، فبشرته مورَّدة. الدم على وشك النضح من خدَّيه.

ثم أقحمت زهور هذه الملاحظة الملغزة:

ما أسعد المرأة التي تتمتع، يوماً بعد يوم، ببركته!

أمام هذه المدائح الفائقة لمحاسن بن يوسف البدنية، كنت بانتظار لذعة غيرة من طرف الرجال. لا شيء من ذلك. كانوا، هم، منكبون على مادة الأفكار الصلبة، تاركين للنساء الشِّعر الذي لا طائل تحته. وقد بلور جارنا، المولع بالاقتصاد، تحليلاً أسال لعابنا:

هل تعرفون أنه بعد أن يخرج الفرنسيس، سيكون لكل عائلة، بالفوسفاط وحده الذي نملك، ما تغطي به حاجياتها لمدة ثلاثة أشهر دون أن تعمل؟

هذه دجاجة مبخرة بكامونها، قال إدريس متهلِّلاً.

إياه آسيدي، أراضي المعمرين، سنسترجعها وسنزرع فيها كميات من القمح تغذي كل مسلمي الأرض.

عندها سيكون الشعير صالحاً لإطعام دوابِّنا.

لم نُدْخِلْ عبثاً أبناءنا إلى المدارس. عما قريب، سيكونون هم من يحتل المناصب الإدارية وسوف يوزعون ما عليهم أن يوزعوا.

أعطيني نعطيك.

واعْلاش لاَّ؟ لقد أفرغنا شكاكرنا كي يتعلموا ويصلوا إلى أعلى الدرجات. والآن، إلينا بالراحة.

استحقينا ذلك. ضيعنا حياتنا في الكد، أوْهَنّا أيادينا وعيوننا. لقد آن الأوان ليضع الإنسان رأسه على مخدَّة، يستلقي ويتمدد كما يحلو له.

الاستقلال شيء كبير، استخلص جارنا بفخامة.

لم يبدأ الحفل في الفتور، وتُفرغ السطوح من الناس، إلا في وقت متأخر من الليل. تبعنا الحركة. وعندما نزلنا، تنبَّهتُ بمرارة إلى أننا فوَّتنا العشاء. ربما فكرت غيثة في أننا أكلنا وشربنا كفاية بعيوننا وأننا عما قريب مع الاستقلال إن شاء الله سوف نَغْرَق في الملذات. كانت أمعائي، الأقل سذاجة من رأسي، تزمِّر. لكن لم يكن لدي الخيار، وعلي أن أستسلم للمُشْبِعِ الوحيد الذي ما يزال في الخدمة: النوم.

بم حلمت تلك الليلة؟ بحكايات الأكل، طبعاً. كانت عبارة عن نْزاهة في بستان باب الحديد. وكما حصل في المرة السابقة، كانت العائلة بأكملها، بما في ذلك الطويسة، البكّير بشكل استثنائي، الزردة الكبيرة، هي موضع الاهتمام والعناية. لهذا السبب، أجَّرت غيثة، طباخة محترفة. ينتظر أن تهيئ خروفاً مشوياً، دجاجاً محمراً، طواجين لحم، والكسكس الذي لا مناص منه. وكل هذا على شرف من؟ هناك سببان، دون رابط ظاهر بينهما: الاحتفال بعودة إدريس من مكة، وانتظار مجيء ضيف استثنائي.

تتوالى الصور، متقطعة. وكأنه على عرش، يجلس إدريس وسط الحديقة. يرتدي ثياباً فخمة وتبدو عليه أبهة لم أعهدها فيه. يمدُّ كلتا يديه بطريقة مسرحية، وعلى كل واحد منا أن يمثل أمامه، يهنئه على حجِّه الموفق ويدلي بصوت عال بلقبه الجديد: الحاج، ثم يقبل ظاهر وباطن يديه. تقوم غيثة بالشيء ذاته، وتستغل الفرصة لكي تمرر طلبها بخنوع:

وأنا يا حاج، متى سترسلني لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟

قريباً، قريباً، يجيبها إدريس. لن أنساك.

كل هذا يمرُّ تحت وضح… وضح قمر رصاصي. الصورة خاطفة، ولكن ليس في ماديتها ظل شك في ذهن النائم.

طَقْ، طْراق. يمرر سيد الرؤى صوراً أخرى. يستولي ضحك متواصل عام على الجمع. السبب؟ أنا، مرتدياً طربوشاً وطنياً، واقفاً فوق مائدة ومردداً، في رواية معدلة، العدِّية التي كان أخي السي محمد قد أحفظني إياها:

طونيو وكابيزا

وعمي لقرع

مْدَوْرة بيه الغابة

طراق، طق. كنا عدداً نرجّ أغصان شجرة. تسقط منها فواكه ذهب بغزارة. أحاول قضم واحدة، ولا تصادف أسناني سوى صلب المعدن.

طق، طراق. تنطلق غيثة، باتجاه الركن الذي تهيئ فيه الطعام صائحة: أشم الشياط، ماذا تفعل هذه الطباخة؟ أخذتها الحمى!

طراق، طق. يوجد الخطيب المغتال أمام دارنا كأنه كان مدعواً، ويتوجه إلينا قائلاً: لقد جئتكم بقالب السكر هذا وبالنعناع الجيد من مكناس.

طق طراق، وطُق طُق: يقرع باب الحديقة. تنفجر جوقة موسيقية في الخارج، تُدفع الباب ويدخل بن يوسف شخصياً، محاطاً بصفين من الأعيان. وجهه تماماً كما عكسه القمر. يتقدم، ونجري نحن لنقبل يده. يجلس في المكان الشرفي وينحني على إدريس، وهو يطلب منه مُزأزِئاً: “سوف مزيان وقل لي منين زيتْ!1 من مدام كاسكار، سيدي ومولاي”، يرد إدريس.

وينطلق بن سوف ضاحكاً ضحكة خالصة، نرد عليها بمرح، وتعلو قهقهتي فوق الآخرين.

تلك الضحكة هي التي أفاقتني بغتة. وللأسف، لم يكن نصيبي من الزردة إلا روائحها المشهية.

كانت الشمس قد أشرقت فوق مدينتنا المهدهدة بحلم من مستوى أرفع. أُرْسِلْتُ من طرف غيثة مبكراً لشراء السفنج (كانت بهذا تعوضنا عما افتقدناه أمس) فوجدت الأحياء ممتلئة من مدة بالناس. كانوا يتوقفون مع كل خطوة، يتبادلون التهاني، ويعلقون ببهجة على ما شاهدوه البارحة. كانت الوجوه مشرقة والصدور منتفخة زهواً. كان أمام بائع الفطائر زبائن كُثر. لم تكن إذن فكرة غيثة فريدة للغاية. كان عليَّ أن أستعمل مرفقيَّ، أبقى متيقظاً كي لا يمر عليَّ الدور، وأن لا أنسى على الخصوص، الطلبات التي أمرت بها: كيلوغراماً من الفطائر من الحجم العادي، نصف كيلو من الأصغر منها، وثلاثاً من المطفيات بعد القلي تكسر فوق كل واحدة منها بيضة. كادت الأشياء تتبلبل في ذهني عندما اقترب ولدان من التجمهر وهما يصيحان:

اشتروا بن يوسف في القمر!

اعتقدت أن الأمر يتعلق بجريدة تروي الحدث بتفصيل. مدفوعاً بالفضول، غادرت مكاني بتهور لأرى عن قرب. وفعل بعض الطائشين ما فعلت. عندئذ اكتشفنا موضوع الإعلان.

حزمات تلك الصورة تخاطفها الناس فنفذت في رمشة عين. نجحت في اقتناء واحدة منها وانغمست فوراً في التمرين. والنتيجة لا يمكن إنكارها. بعدما رفعت عيني نحو السماء، استطعت التأكد من أن الصورة التي أجهدت نفسي في التعرف عليها البارحة كانت مطابقة لما تم ترسيخه في ذهني. وبذلك تبددت نهائياً شكوكي… لقد أفاد أخيراً التجريب الذي اكتسبته من المدرسة في شيء معين. وبالنسبة إلي، إن ظهور بن يوسف في القمر قد أصبح ثابتاً ثبوتاً لا رجعة فيه.

وجدت نفسي، بعد أن انهمكت في تلك الاختبارات العالمة، مدفوعاً إلى مؤخرة الطابور، مجبراً على الانتظار من جديد، متألماً أكثر من جراء الرائحة المجنِّنة للفطائر القضيمة والتملي في بائعها وهو ينضدها كقلادة مستعملاً لذلك الغرض أعشاب دوْمٍ مفتولة.

بعودتي إلى البيت وأنا ألوح بغنيمتين، خاب أملي، لأن حزمة الفطائر هي التي نالت الإقبال وليست الصورة. كان الجو العائلي قد فتر. لم يكن الكبار يفكرون إلا في الأكل. وحدهن أخواتي الصغيرات تكرَّمن بإلقاء نظرة على ما اعتبرت أنها الغنيمة الأثمن، وخضن بمحض المجاملة في التمرين الذي أقنعني، أنا، على أسس صلبة.

بينت لي المناقشة التي تلت أسباب ذلك التحول في المزاج إذ علمت أن المحطات الإذاعية الملتقطة باكراً، لم تنبس ببنت شفة حول المعجزة التي كانت فاس كلها شاهدة عليها. قد يقبل ذلك من إذاعتي الرباط وطنجة، لكن أن تسكت القاهرة، موسكو، البي بي سي، براغ وصوت أمريكا عن الحدث، فذاك ما صدمنا وعذب نفوسنا. هل كان العالم لا مبالياً إلى هذه الدرجة بمصيرنا وبتجليات إيماننا؟ هل أصابه العمى عن الإشارات الواضحة التي أرسلتها السماء؟ نفس التكتم من جهة الصحافة الرسمية. كانت جرائد الصباح التي حصل عليها السي محمد تصب حقدها على فدائيينا وتمجد في عناوينها البارزة منجزات الحماية: طريق جديدة بُنيت، ميناء وسِّع، مستوصف دُشن، عشرة مخافر شرطة فتحت، حي قصدير استؤصل، أكياس دقيق وزعت على المحتاجين، قواد وشِّحُوا لخدماتهم الجليلة. ألا يكفي هذا؟ ولم نعثر على إحالة لما كان قد قلب حياتنا جذرياً، إلا بالبحث في الصفحات الداخلية. قد عالج الموضوع صحافي وقع بالحرفيين الأولين لاسمه (الجبان!) في بطاقة ساخرة بعنوان “شعب من المخردلين” كاتباً:

“حاول معارضو حركة فرنسا المحضِّرة أن يخدعوا مواطنيهم بنشر الفكرة المضحكة القاضية بأن السلطان السابق، المخلوع شرعياً (بفضل انضمام سكان البلد الأقحاح وصفوة أبنائه المؤيدة لهذا المشروع) قد ظهر ـ يا للمسخرة ـ في القمر! ويظهر أنه كان لعملية الترويض النفسية هاته، المستوحاة من طرف أسيادهم القابضين على الخيوط من موسكو، أثر حاسم على نفوس طيبة ذات العقول البدائية. فعوض مساعدة هذه الأخيرة على تعلم شروط التفكير السليم التي أتينا بها، أراد أولئك المتشبثون بعقلية الوطنية الضيقة أن يبلدوها أكثر بدفعها إلى هلوسة جماعية، وتحويلها بهذا إلى شعب من المخردلين. عمل دنيء! يصعب على المرء أن لا يتبنى معه دون تحفظ الحكم الذي أصدره أحد إداريينا المشهورين في زمنه (أوربان بلان، كي لا نسميه): “مادام العرب يكتبون من اليمين إلى الشمال ويتبولون مقعدين، فلن يُرْجَى منهم خير”.

الله يلعن دين أمك، أيها الكلب الأعور!

لم يمنع نباحه قافلتنا من أن تأخذ الطريق إلى السطح ذاك المساء نفسه. وظهر بن يوسف من جديد، في قمر مورَّم قليلاً. كان قبُّه مائلاً جنباً شيئاً ما. وبدأت في الليالي التالية وَدَفَةُ ظلمة تزحف على الوجه، مغطية العين اليمنى، فالأنف، الفم، العين، الثانية، إلخ. وقد تشبثنا بشكل يائس بأملنا، غير مبالين بنباح الكلاب الضارية وبعدم اكتراث العالم. وذلك إلى الأفول الطبيعي لـ “ثورة” القمر.

في غضون ذلك، كانت الأيام البيضاء تتعاقب، ولم يكن بوسعنا إلا أن نرضخ لحكم الواقع. ظل الأفق أخرس، بخيلاً. بقي بن يوسف غائباً عن الأنظار. كانت إعصارات أخرى تتهيأ، مسبوقة ببروق وقصوف تاريخ في طور الولادة.

وهكذا عشنا، بخبز الانتظار اليابس وبماء الرجاء العنيد. فدام ذلك حزمة فصول أصبح فيها “صيفنا شتاء” قبل التغيير الكبير، الحق، الذي سيشهد طلوع نجم الحرية، الحقيقي، في سمائنا.

لكنها حكاية أخرى.

مقتطف من رواية قاع الخابية (دار ورد للنشر. دمشق. 2009)
ترجمة حسان بورقية والمؤلف