وداعاً محمود

لم أتوقع أن يكون للرواية التي أنهيتُها أخيراً، لرحلتي إلى فلسطين، وبعدَها بأسابيع قليلة، امتدادٌ أليم.

الوقت نهاية يوليوز، ونحن في المغرب في منزلنا بالهرهورة قرب الرباط. نحتاج إلى عدة أيام من أجل تنظيفه وإعادة النظام إليه قبل وصول أولادنا وأحفادنا الذين يَعتَبرون قضاءَ جانبٍ من إجازة الصيف عندنا طقساً من إعادة الاكتشاف والبهجة والشراكة الظريفة.

أصبحنا في 10غشت.

زوجتي وأنا نمضي وقت العشاء عند ريتا وغيّوم، جارَيْنا اللذين أصبحا صديقَيْن لنا. ما نتوافق عليه كثير، وكالعادة، يتفاعَلُ “هاجس الأندلس” بيننا على أحسن وجه. إنه شغفٌ مشترك يزاوجه كلٌّ منا على طريقته ويغذِّيه باستكشافاتٍ تُتابَع على الجانب الآخر لمضيق جبل طارق. فوق المائدة التي نتواصل حولها، تشكيلةٌ من مأكولات ومشروبات لذيذة تمثل أطيب ما تزخر به الديارالإيبيريه، مع لمسة خاصة تعود إلى مهارة الطهي عند ريتا، المولودة في سلا، أحد الأماكن التي لجأ إليها مسلمو الشتات في الأندلس، وأصبحت لهذا السبب قطْباً في فن الطعام الرفيع الذي ينافس مثيلَه في فاس.

ريتا مؤرِّخة وغيُّوم مدرِّس فلسفة في ثانوية ديكارت. لذلك، فإن مراكز الاهتمام متوافرة بكثرة، ولقاءاتنا تعطينا دوماً المناسبة لاستعراضها من جديد، مع تفضيلِ ما يتَّصل بالمغرب، وما يتَّصل بفرنسا بدرجة أقل.

في منتصف الوجبة ينضم إلينا جاران مباشران آخران، سامية ومحمد. سامية تعمل في إحدى الوزارات وتتابع في الوقت نفسه أبحاثها للحصول على درجة دكتوراة في الآداب. أما محمد، الشاعر المبكر والعاشق للفن ومتعدد اللغات على نحو مبهِر، فهو شخص يسافر بلا انقطاع، مارس مهناً مختلفة (من بينها مهنة دليل سياحي في فاس) قبل أن يستقر في ستراسبورغ لكي يشغل فيها وظيفة القنصل العام للمغرب، العمل الذي يجبره على العيش بعيداً عن زوجته وأطفاله، ولا يسمح له بلقائهم في الهرهورة إلا أثناء العطَل. معه، تكون على ثقة بأن النقاش سوف ينتعش، فمن تبادُلِ الأخبار إلى المُسارّات، يرتفع نحو تأملاتٍ يُشار فيها إلى فلاسفة، وكتب تُقتَرح للقراءة، وتُستَحضَر فيها بتأثُّرٍ ذكرياتٌ عن فاس مدينتنا بالولادة.

لم أعد أذكر بالضبط عن أي شيءٍ كنا نتحدث عندما رنّ هاتفي المحمول. أظن أن محمد كان يكرر فكرةً دأب على الدفاع عنها، ويُفتَرَض، استناداً إليه، أن أكون أنا منفِّذَ تلك الفكرة. فهو لم يفتأ يثني على قدراتي، ويدلي بملاحظاته بخصوص حدود تجديد الفن السينمائي في المغرب، باعتباره يجد فيَّ الشخصَ القادر على القيام بقفزة نوعية في “الثقافة البصرية” حسب تعبيره، ويحاول إقناعي بالوقوف خلف الكاميرا لكي أصنع “الفيلم” الذي طال انتظاره، من نوع “تحت الأرض” لـ إمير كوستوريكا أو “حياة الآخرين” للألماني فلوريان هنكل فون دونرسمارك. لا شك أنني لطالما افتُتِنتُ بالسينما، ولكنني، في مادة الإبداع، أصبحتُ مع مرور الأيام من أنصار الفن الوحيد الذي توظَّف فيه قدراتُنا بشكل كامل، مهما كنا نميل إلى طرق أخرى في التعبير أو امتلكنا من قدرات كفيلة بتجسيدها. كان محمد يجاهد مرة إضافية لقهرِ تحفظاتي. بلا فائدة.

نهضتُ عن المائدة وانتحيتُ جانباً لكي أرد على الهاتف.

-مساء الخير، وعذراً على الإزعاج. أنا إليزابيت لوكريه من إذاعة فرنسا الدولية.

-مساء الخير.

-هل علمتَ بالخبر؟ سألتْني.

ترددتُ في الإجابة. بأي خبر؟ أغبى فكرة خطرتْ لي هي فرضية جائزة أدبية ربما منحتْ لي.

-محمود درويش مات.

-ماذا؟

-على إثر جراحة في القلب خضع لها في أحد مشافي هيوسطن، بولاية تكساس. أعرف أن هذا الخبر سيكون مؤلماً لك بالتأكيد. فقد كنتَ مترجمَ أعماله، وأحد أقرب أصدقائه.

-نعم… لا، تلجلجتُ. أعني أننا كنا متقاربين ولكن لم نكن صديقين حميمين.

-أفهم انفعالك. أقترح أن أعاود الاتصال بك بعد نصف ساعة. أترك لك الوقت لاستعادة أنفاسك.

-حسناً، أنتظر اتصالك.

تخشَّبتُ كما لو أنّ يداً عدوّةً وجَّهتْ لي بغتةً صفعةً أُضيفت إلى الصفعات الأخرى التي سبق أن تلقَّيتُها خلال الأشهر الماضية ومن ضمنها موت الرسام السوري صخر فرزات إثر نوبة قلبية، هو الذي أصبح ، مع مرور السنين، ومنذ وصولي إلى فرنسا، أقرب أصدقائي، أصبح أناي الآخر. كنا قد التقينا قبل ذلك ببضعة أيام في مقهانا المعتاد، بساحة الباستيل، وافترقنا وفي رأسينا مشاريع جديدة ووعدٌ بأن نلتقي بلا إبطاء لأجل تنفيذها. ما زالت رائحته، عندما تعانقنا، عالقة بذاكرتي. وما زلتُ أراه، في ساعات مختلفة من النهار ومن الليل، ممدداً فوق سرير الموت، وعلى وجهه ملامح السكينة. كانت زوجته عائشة أرناؤوط قد أخذتني من يدي إلى جانبه، وأذكر أنني أبديت هذه الملاحظة “هذا كل ما في الأمر إذن!” احتجتُ إلى شهور بحالها لكي أشفى قليلاً من صدمةٍ لم أتعرض لها سابقاً أبداً حتى بوفاة والدي…

من المكان الذي انتحيتُهُ جانباً لكي أرد على الهاتف، وبقيت أستذكر فيه الصفعات التي تلقيتها، خرجتُ إلى حديقة البيت. رفعتُ ناظريّ نحو قمةِ النخلة الظريفة التي تنتصب في مركزها. جاء بستانيٌّ مؤخراً وقلَّمها. قطعَ الأغصان المصفَرّة ولم يترك سوى باقة في الأعلى تشبه شعراً كثاً عصياً لولدٍ وقح. شجرة الحياة، قلتُ لنفسي، وُضِعتْ هنا لكي تساعدني على التفكير وتؤاسيني. لا بُدَّ أن تنفصل عنها أغصانٌ لكي يسري النسغُ بشكل أقوى في تلك التي تبقى، ويُعِدَّ لإزهار جديد، ثم برْعَمة ثم إثمار. لا شيء يضيع في هذه الدورة الطبيعية. الأغصان الميتة تستمر في الحياة على شكل سماد عضوي سوف يغذي التربة التي بدورها… إلى آخره. لهذا فإن عمّال البستَنَةِ، أولئك الفلاسفة المهمَّلين، غالباً ما تجدهم صَموتين. يكفيهم ما يراقبونه لكي يفهموا من أين نأتي وإلى أين نذهب، وما الذي سنؤول إليه بعد رحيلنا.

السماءُ، بعيداً فوق النخلة، مضاءةٌ بعدد لا يُحصى من النجوم. بعضها يلمع وبعضها لا يلمع وكأنه يكتفي بمرافقة الأولى، بتتبُّعها رافعاً لها ذيول أثوابها الطويلة. والقمر شبه المكتمل، يراقب بعينٍ نصف مغمضة ذلك الموكب الثابت في مكانه. للبحر رائحة قوية هذا المساء. يهيج ويزمجر، خلف المنزل، مثل ثورٍ سجين. آخُذُ نفساً عميقاً وأفرك وجهي. يخِفّ ألمُ الصفعات بعد استحضارها. لقد نسيتُ جلسةَ الأصدقاء المجتمعين. لا بدّ أنهم بدأوا يقلقون بسبب غيابي. أنتزع نفسي من أحلام يقظتي المتعددة الضفاف، وبخطوة مترنحة أعود إلى مكاني. ألبث الوقت اللازم لتناول كأسي من جديد وابتلاع جرعة كبيرة منه، ثم أعلن للآخرين النبأ الحزين، صفعة اليوم الجارحة على نحوٍ خاص.

بعدها سأتحول إلى مُشاهِدٍ بين عشرات الملايين منهم…حفل الوداع المهيب في رام الله، تُنقَل صوره بالأقمار الصناعية إلى كافة أنحاء العالم. مآتم شعبية نادرة الحدوث في التاريخ عندما لا يكون الفقيد أباً للشعوب أو رجل دولة كبير قضى وهو يمارس مهمته. من بين الكتَّاب، في فرنسا مثلاً، حظي فيكتور هوغو وحده بتكريم مماثل. لم يأتِ قلمي عرَضاً على ذكر اسمِ هوغو لأن درويش ممكن تشبيهه دون عناء بمؤلِّف قصائد “العقاب” و “التأملات” إذا وضعنا في الحسبان قامته الفكرية وحجم مؤلفاته الضخم والدور الذي لعبهُ الأدبُ على يديه في المعارك الاجتماعية والسياسية في العالم العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين. لكن الشبَه يقف هنا نظراً للمهمة الخاصة التي استطاع شعرُ محمود درويش أن يؤديها. عند إعادة قراءته جيداً في استمرارية أعماله، نكتشف بأنه كان، لعقودٍ من الزمن، ورشةً نشَطت في إعادة بناءِ ونقلِ ذاكرة الشعب الفلسطيني، وبوتقةً أُعِدَّتْ فيها أساطيرُه المؤسِّسة وجُمعت فيها بصبرٍ الأجزاءُ المبتورةُ من شخصيته لكي تتوكَّد على نحوٍ أفضل. إذا أردتُ أن أخاطر بمقارنةٍ أخرى مع وجهٍ رمزيٍّ آخر من تاريخ الأدب، فسأذكر هوميروس وما جسَّده على الساحة الثقافية اليونانية، وفيما وراءها على الساحة الغربية.

لكن هذه الكلِّيات المجرَّدة لا يجب، في رأيي، أن تحجب أكثرَ صفةٍ كلّيَّةٍ تمسّني فيه. إنها طريقته في مقاربة اليوميّ، الأمر الذي ليس في غاية البساطة لإنسانٍ في ظروفه، أن يدور حول النواة الكامنة في الصميم ويخرقها في وضعٍ يكون الإنسان فيه وحيداً، متحيّراً، وبلا دفاع، وأن يوجِدَ، لكي يؤالفَنا مع جوهرَِ المأساة، ظاهرةَ التجاذُبِ بين الأضداد: البندقية وغصن الزيتون، الوردة والقاذورات ، رائحة قهوة الأم وروائح اللّحم المتفحِّم النتنة، الصفعة والمداعبة. وكما هو الحال مع نصوص أي شاعر آخر، يجب ألاّ تدَعَ الموسيقى الخارجيةَ لنصوصه تجتاحكَ، وذلك لكي تتمكن من التقاط موسيقاها الداخلية التقاطاً أفضل، دون إهمال سكْتاتِها، تلك الفُسحات التي تتنفس من خلالها.

خلال الأيام التي تلت وفاته، كثيراً ما قَصدني الصحفيّون لعلمهم بأنني كنت أول من ترجم أعماله للفرنسية. كانوا يَفتَرِضون أيضاً وجود علاقة صداقة بيننا تسمح لي بمعرفةِ مختلف جوانب شخصيته. استجبتُ، بطريقة أو بأخرى، لتلك الطلبات مقاوِماً شعوراً بالضيق. كنت أعرف أن أطناناً من التعليقات يتم إنتاجُها كل يوم، ترافِقُها جوقةُ النادِبات التي لا بدَّ أنه كان، في حياته، يحصي في عِدادها الكثير من الأعداء ومن ذوي النوايا السيئة. ثم إنني لا أتحمَّل خطابات المناسبات ولو كانت كلمات تأبين، وكنتُ أتمنى لو تُحتَرمَ رغبتي بالصمت، حالما تُستَشفّ.

الآن وقد انحسرت الموجة، أستطيع استحضار ذكراه دون أن يتولد لدي شعور بأنني أشارك في سباق لكيلِ المدائح يزدهي كلُّ مشارِكٍ فيه بالعلاقة المميزة التي كانت له معه ويحاول أن يستأثر بحصةٍ من الهالة المحيطة به، بل من إرثه. يجب أن أقول، مخاطِراً بتخييب الآمال، بأننا منذ بداية الثمانينات التي انكببتُ فيها على ترجمة أعماله، وهو ما أعطانا مرةً بعد مرة فرصة اللقاء والشعور بالتقارب، لم نلتق بعدها مجدداً إلا من بعيد إلى بعيد، لا سيّما عن طريق لقاءات شعرية كان كلانا مشاركاً فيها. السبب هو أن محمود لم يعد شاعراً فقط، وكبيراً فوق ذلك. فالتبجيل الذي كان يحظى به في العالم العربي جعل منه نجماً. كان حشدٌ من المعجبين والمتملّقين يتدافع حوله. وفي مثل هذه الظروف كان يصعب الحديث إليه، والتواصل معه بهدوء و تلقائية. لحسن الحظ أن فرصاً، على ندرتها، أتاحت لنا أن نمضي أمسيات معاً بصحبة بعض الأصدقاء المقرّبين. لحظات استرخاء كنا نتخلى فيها عن تيجاننا وشرائطنا المذهَّبة التي قلَّدتْنا إياها الجماهير، لنكون أنفسَنا، شعراءَ معظمُهم منفيُّون، يعيشون في أربعة أطراف الأرض، وكل منهم يحمل علامةَ مَنشأ جرحهِ، لكنهم يعملون جميعاً على تجديد الشعر، ومواصلة مغامرته، يعملون على مصداقيته عندما ينوي ألاّ يتجاهل شيئاً من الشرط الإنساني وألاّ يقف متفرجاً أو يتراجع أمام المدّ الهمجي.

هنا، كان درويش رفيقاً مرحاً، يسخر دون أن تشي به ملامحُهُ موفِّقاً بين مدرستين للدعابة: المدرسة البريطانية والمصرية (كان أنكلوفونياً وعاش في مصر مدة طويلة). لم يكن يتردد في المشاركة في لعبة قلبِ الدمى3 الرمزية التي تستهدف بالضرورة أشخاصاً غائبين لم نكن نقدِّرهم كثيراً. كلنا يعرف أن ذرة نميمة شيء مريح أحياناً. كان محِبّاً لمتع الحياة حين يتعلق الأمر بالمأكولات والمشروبات الأرضية، وإن بقي شديد التكتُّم بخصوص متعٍ الجسد الأخرى، ولا يتكلم مثلا عن النساء إلاّ مجازياً، كما في قصائده. صحيح أنه في أحيان كثيرة، وعلى كرهٍ منه، كان يشكِّل مركزَ اهتمام الجلسة المصغَّرة. يُحاصَر بالأسئلة فينطلق لسانه بفصاحة. لكنه كانت لديه اللباقةَ لكي يتوقف فجأةً وبصورة قاطعة لكي يدفع الآخرين للكلام. هذا ما حدث لي معه في سهرةٍ شعر فيها بأنه يحتكر الكلام. ولاحظ بأن صديقي الشاعر البحريني قاسم حداد وأنا، مستندَيْن أحدُنا إلى الآخر، كنا نقاطع النقاش. التفت نحونا بهيئة ماكرة معلِّقاً بقوله: “عبد اللطيف وقاسم يتصامتان” وكانت صياغة “يتصامتان” فوق ذلك اشتقاقاً لغوياً جديداً أوجَدَه في حينه لأجل الظَّرف.

عندما ذكرتُ عرَضاً هذا المثال الذي يدل على إحساسه الحادّ بالصياغة، لا أظن بأنني أوضحتُ على نحو أفضل إحدى إنجازات درويش الكبرى: الإنقلاب المضبوط التي أحدَثه داخل اللغة العربية، تلك السيدة العجوز المثقَّفة للغاية، المتعالية، المتمسكة بقواعد السلوك الجيد، والحريصة منذ قرون على ألاّ يتم العبث بشيء من مفروشات بيتها، من ديكوره، أو تنظيمه المنهجي. بعد أن قام درويش باستكشاف زوايا البيت القصيّة واستطلَع حتى طوابقه تحت الأرضية وأعمق أساساته المتوارية في التراب، انتهى به الأمر إلى السكن فيه على طريقته والتصرُّف فيه على راحته دون أن يظن نفسه مضطراً للانحناء تبجيلاً لسيدة البيت. لنقُل بأنه أوجَدَ، لمخاطبتِها، لغةً تراعي اللياقة وفي الوقت نفسه مبتَكَرة، تقترن بحقائقِ العالم الحديث ومتطلباته، وتُقِلّ حريةً تُمهِّد بحذقٍ للمستقبل وترسم منظورَه، دون أن تَشْتُمَ الماضي المَجيد. لقد نجح باختصار في نحتِ لغته الخاصة في صخرِ اللغة، المهمة التي تُعتبر في المحصلة، حيوية بالنسبة لشاعر، أياً كانت الأداة اللغوية المستخدمة. لكن ما يستوقفني في حالة درويش هو التطابق المدهش بين لغة الكتابة ولغة الكلام عنده. قلائل هم الكتّاب والمثقفون الذين لا يغيِّرون الطبقة عند الانتقال من الواحدة إلى الأخرى. أما هو فلا. حين تسمعه يتحدث عن الشعر، أو يمارس التحليل السياسي، أو يتكلم عن مسيرة حياته، يتضح لك في الحال بأن لغته فريدةٌ فرادةً قاطعة. فالمفردات، والحجج، وطريقة النطق، وإيقاع الكلام، كلها كانت تقتفي بدقةٍ أثر تلك التي أوجدها وعوَّدَنا عليها في شعره. وفي رأيي، إن سر الافتتان الذي كان يمارسه على مستمعيه ومحاوريه، يكمن هنا. عندما تسمعه وتنظر إليه، يمثُل أمامك الشعرُ في هيئة رجل.

وداعاً محمود! أسميك باسمك الأول مثلما يفعل جميع مواطنيك منذ أن اكتشفوا ما تمثِّله بالنسبة لهم: ليس أباً، ولا مرشداً أعلى، ولا شيخاً روحياً، بل أخاً أكبر يستطيعون سنْدَ رؤوسهم بكل طمأنينةٍ إلى كتفه. هل هناك مجدٌ لشاعرٍ أثمن من أن يسمع شعبَه، بالإجماع، يستشهد به ويسميه باسمه الأول فقط؟

مقتطف من كتاب شاعر يمر (دار ورد للنشر. دمشق. 2010 )
ترجمة روز مخلوف