الحياة أقوى

الحياة أقوى. حدثٌ سعيد جاء في اللحظة المناسبة ليكنس تلك التأملات الجنائزية. لقد أنجبت ابنتي الأصغر مولوداً في ليل يوم 7 يناير ( كانون الثاني). هرعتُ في اليوم التالي إلى باريس لزيارتها في دار التوليد التي تحمل اسمَ Notre-Dame du Bon Secours4 المطَمْئِن. هناك كانت تنتظرني أعجوبتان، الملاكُ الصغير المؤنث الذي ينام في مهده بسلام، والوجهُ الذي تحوَّل كلياً، للنفساء الجديدة، ابنتي المدللة التي أصبحتْ أماً. حتى وقت قريب، كان يصعب عليّ أن أرى في هذه الفتاة الراشدة المزدهرة غيرَ خليطٍ من الطفلة الجميلة الأنيسة، والمراهِقة العنيدة التي كانتْها. طرأ عليها التحوُّل مع حملها. قَسَتْ ملامحُها قليلاً وندُرت الابتسامةُ الفكِهةُ التي كانت ترسمها على وجهها دوماً. حلت محلها رصانة غير اعتيادية ومُقلِقة إلى حد ما، كنتُ أجيِّرها لحسابِ اللغز الأنثوي. كانت الابتسامة التي تضيء وجهها هذه المرة هي ابتسامة جوكندة حقيقة بشحمها ولحمها. لا يرجع سرُّها، كما في لوحة الرسام، إلى فنٍّ محنّك، بل إلى “المخاض الخلاّق” الذي أنجزته الواضِعةُ للتو، تتويجاً لرغبةٍ ثم حمْلٍ يرتبطان بأجمل غريزة، الحفاظ على النوع.

إعجاب وامتنان، هذا هو المعنى الذي أراه في القبلة التي طبعتُها فوق جبين ابنتي قبل أن أنحني فوق الأعجوبة الأخرى. إنها صوص بالكاد فقست عنه البيضة، برأس مدورة تعلوه خصلة حريرية، وملامح دقيقة ومميزة منذ الآن، ويدين بأصابع شفافة رشيقة رشاقةً مدهشة، وعينين لوزيتين تنفتحان بصعوبة، وأهم من كل شيء ثقة تامة بالحضور في الدنيا. لا فائدة من البحث عن جوهر الجمال في مكان آخر، قلتُ لنفسي، إنه هنا أمام عينيك، متحد جوهرياً مع مجيء الحياة الخارق والمستمر بلا انقطاع.

أهلاً بك بيننا أيتها الصغيرة، استأنفتُ. ها قد بدأتِ الحياة ربما لكي تَعبري هذا القرن الجديد من طرفه إلى طرفه. ما هي الاضطرابات وما أشكال التَقدُّم التي ستكونين شاهِدةً عليها، أو، ولِمَ لا، فاعِلةً فيها؟ من أيةِ معارف واكتشافات ليست لديّ فكرة عنها ستستفيدين؟ ما هي أقطار العالم التي ستسيرين فيها، وأين ستستقرين إذا أحببتِ أن تستقري؟ ما هي اللغات التي ستتعلمينها بحكم الضرورة أو بدافع الرغبة؟ أية مشاعر حب عاصفة تنتظرك، وأية علاقات حب ساكنة وبدون غيوم؟ في أية كتبٍ ستكتشفين الصوت الذي سيؤثر بك من الداخل؟ هل ستقرأين يوماً أحد كتبي، ليس بدافع الواجب، بل، بدافع الفضول المحض، لكي تبحثي فيه عن أجوبةٍ لأسئلتك؟ أمام أية لوحات ستقفين، مذهولةً لاكتشافكِ بأنها رُسمتْ من أجلك وحدك؟ ما هي الألحان والأغنيات التي ستحتضن روحَك وتُراقِصها؟ كيف ستقاربين، أنت، الأسرار التي كرَّستُ، أنا، لها الجانب الأعظم من جهودي في الفهم؟ ما هي الأطعمة الأرضية التي ستفضلينها؟ ما هي الشجرة التي ستعتبرينها حِرزَكِ؟

بعد مجموعة التساؤلات هذه، دعوتُها للصعود فوق كرتي الكريستالية المرتَجَلة. لاحقتُها خطوةً خطوة، فصلاً بعد فصل في الحياة. وفي نهاية الرحلة ميَّزتُ قامة امرأةٍ ناضجة متقدمة في السن، منحنية فوق مهدِ طفلٍ وليد، لا أدري هل هو ولد أم بنت، وغارقة في تأملاتٍ استشفَّيتُ بأنها تشبه، في نقاط عديدة، تلك التي عبَّرتُ عنها للتو. رمقتُها بنظرةِ حنان ممزوج بالاحترام قبل أن تنطق شفتاي بسؤال طريف:

-قولي لي، أيتها السيدة الفاضلة، أيَّ حصةٍ منك ستورثينها لذريتك؟

-كم تتعجل الأمور، ردتْ دون أن تستدير. ألا يتعيَّن عليك أنت أولاً أن تجيب عن السؤال؟

-أصبتِ! قلتُ موافِقاً.

تشوَّشتْ صورةُ السيدة عندما تحرَّكتْ حفيدتي في مهدها وانفتحت عيناها قليلاً.

-أسمعكَ، بدا أنها تقول لي.

-حسناً، سأحاول، ولكن لا تتوقعي أن أروي لك إحدى تلك القصص المخصصة لهدهدةِ نوم الأطفال. أفضِّل قطعَ المراحل ومخاطبتكِ كما أخاطب الكبار.

لم أحظى بالتعرف على جدودي. ليس لدي سوى ذكرى غائمة لجدتي لوالدتي، لالَّه طهور، التي توفيت عندما كان عمري ثلاث أو أربع سنين. لا أعرف شيئاً عن زوجها، أو عن أهل أبي. أعرف أسماء فقط. لم يكن الناس، في الوسط الذي ولدتُ فيه، يهتمون بتاريخ العائلة، أو بما يتعلق بالماضي عموماً. كانوا أساساً قلَّما يتبادلون الكلام. كان الحاضر يبتلع تماماً حياة أبويّ، اللذين كان عليهما تأمين خبزنا اليومي، والثياب اللائقة وزوج الأحذية المتين، مرةً في العام. لقد فهمنا نحن الأطفال (كنا ثمانية) كم كان المستقبل مهماً. لقد وظَّفنا فيه كاملَ طاقاتنا. أردنا أن نتعلم ونتعلم لكي نتمكن من الخلاص ونساعد، حالما نكون قادرين على المساعدة، أولئك الذين لطالما كدُّوا من أجلنا.

ما هو الشيء الذي انتقل من جدَّيّ إلى أبويّ ومن هذين إلي؟ لم يعبَّر عن هذا الموضوع قط بالكلمات. كل شيء كان يتجسد في الأفعال. ولقد احتجتُ إلى وقت لكي أدرك معناها وأهميتها. لم يورّثني أهلي في الحقيقة، سوى ما أخذوه هم عن أهاليهم. وما هو؟ لا شيء مادي، بل ممتلكات أعتبرها اليوم لا تقَدَّر بثمن وأسميها قِيَماً: التواضع، الاهتمام بالآخرين، العطاء بدون انتظار مقابل، الاكتفاء بالقليل، وفضيلة أخيرة كدتُ أنساها في حين أنها ربما تكون الأهم، والأصعب اكتساباً: القدرة على الصفح.

لا تظني بهذا أنني عرفتُ العائلة والمجتمع المثاليين. لا أبداً! كانت هناك عيوب ونواقص كثيرة متداخلة مع هذا النوع من الفضائل، كنت أجدها لا تُطاق: غِلُّ التقاليد، كَمٌّ كبير من الخرافات ، قمع الرغبات، الافتقار إلى الخيال، الخضوع للأقوياء، رفض ما يخرج عن المعيار السائد منذ قرون.

ثرتُ أولاً ضد السلبي قبل أن أكتشف الإيجابي وأتمكن من فصل الجيد عن السيء.

منذ ذلك الوقت دارت رحى الزمن، ودارت، مخلِّفةً وراءها عشرات السنين. تشتَّتَ قسم كبير من العائلة بعد أن غادَرَنا أبوانا. العالم الذي كنتُ قد عرفتُهُ معهما التهمهُ جيشٌ من الجرافات التي كانت تعمل في خدمةِ ما يسمى بـ “مسيرة التاريخ”. ظاهرةٌ شبيهة باختفاء قارة أطلانتيد التي تخيَّلها الفيلسوف الإغريقي، على إثر كارثة طبيعية. كيف أنسى أنني انتميتُ إلى هذا العالم المختفي وأنني كنتُ شاهداً على غرقه؟ ماذا أعمل لكي أسدد دَيْنََهُ عليَّ؟

بهذا الوعي كُتبتْ رواية حياتي. كنتُ أحياناً مؤلِّفَها المتمتِّع بكل قُدراته، وأحياناً قارِئها الحائر أو شخصيةً من شخصياتها، تُفلِتُ، في لحظةٍ من لحظات الحكاية، من مؤلفِ الرواية وتبدأ باختراع نفسها، وتقرير مصيرها بنفسها.

أعترف يا صغيرتي بأنني، في موضوع التوريث ليس لدي ما أورِثُكِ إياه سوى هذا الكتاب الذي يظهر بمظهر متاهةٍ يتم فيها الانتقال من الشعر إلى النثر، من المسرح إلى الحكاية، من الغضب إلى التأمل، ومن الجنون إلى الحكمة. وتُعرض فيها رحلات عديدة، حقيقية أو متخيَّلة. أزعم أنه يمكن أيضاً أن تُقرأ فيها قصة حب جميلة، وأنه حتى عندما يكون الموضوع جسيماً فالابتسامة ليست ببعيدة عنها، إذا لم تكن الضحكة الصريحة، التي استُخدمت بكثرة من أجل تنظيف النفس من أوساخ الغباء.

ما العمل كيلا نضيع فيها؟ ستقولين لي. هنا، سأكشف لكِ سراً. الخيط الهادي موجود، وهو ليس مادياً. إنه من طبيعة تلك القيم التي تلقَّيتُها من أبويّ. باستثناء أن هذه لا تَدين لهما بشيء. أنا الذي اكتشفتُها وقدَّرتُ قيمتها ووضعتُها في مركز كل عمل شرعتُ فيه في حياتي كراشد. إنها ثمينة إلى درجة أنني أخشى أن تفقد من قوَّتها و من ألقِها حين أُسميها.

لحسن الحظ أن المصادفة تساعدني أحياناً. فقد عثرتُ مؤخراً في كتاب إحدى الشاعرات، على استشهادٍ أذهلني. بدا لي مضمونه ملائماً على أكمل وجه، وكلمةً كلمة بلا مبالغة، للفكرة التي في ذهني عن هذه القيمة العليا التي تُمثِّلها الحريةُ لي. ها قد عرفتِ الآن خيطكِ الهادي. اسمعي ما يقوله عنها ميشيل باكونين، مؤلف النص، وهو الرجل الذي لم يعِش في القرن السابق لقرني، إلاّ ليقول لا لكلِّ ما يُبقي الكائنات البشرية في عبودية:

“يهمُّني كثيراً ما هُم عليه جميع البشر الآخرين، لأنني مهما ظننتُ نفسي مستقلاً،…فإنني نتاجُ ما كان عليه آخِرُهم؛ إذا كانوا جهلةً، بؤساء، عبيداً، فقد تحدد وجودي بجهلهم وبؤسهم وعبوديتهم. أكون، أنا الرجل المتنور أو الذكي مثلاً – إذا كان هذا هو الحال-، غبياً لحماقتهم؛ وأكون، أنا الباسل، عبداً لعبوديتهم؛ وأرتجف، أنا الغني، أمام بؤسهم؛ وأمتقع، أنا المحظوظُ، أمام عدالتهم. أنا الذي أريد أن أكون حراً أخيراً، لستُ بالحر. لأن الجميع من حولي لا يريدون بعد أن يكونوا أحرار، وبما أنهم لا يريدون ذلك، فإنهم يصبحون أدوات قمعٍ موجهة ضدي.

لا أكون حراً بالفعل إلاّ عندما تكون جميع الكائنات البشرية المحيطة بي، رجالاً ونساءً، حرة أيضاً… وعندما تتأكد حريتي الشخصية بحريةِ الجميع، فإنها تمتد إلى ما لا نهاية.”

اللعنة! ماذا دهاني حتى أُلقي بخطاب طنّان بهذا الشكل؟ لقد شعرتُ وأنا أغادر دار التوليد بأنني مضحك بعض الشيء. في الخارج، كان الليل قد حل، وكانت واجهات المحلات، في شارع آليزيا، مغطاة بالكامل بملصقات تعلن عن رخصة الأسعار، تصل حتى 70% بفضل الأزمة. وباعتباري لم أعد أذكر أين أوقفتُ سيارتي، درتُ في الشوارع المتاخمة، مذعوراً لفكرة أنها قد احتجزت لكوني ارتكبت مخالفة ما عند صفها. وبما أن من عادتي أن تكون لي استجابات متأخرة، رحتُ أستعرض في رأسي لحظات “محادثتي” مع حفيدتي. لماذا كنتُ ثرثاراً إلى هذا الحد ودلفتُ في اعتباراتٍ بهذا التعقيد؟ مع أنني كنتُ قد أعددتُ شيئاً بسيطاً لكي أقدِّم لها نفسي عن طريقه، هو نوع من لغز، وعندما جاء وقته نسيتُه بكل بساطة، ولم أتذكره إلاّ الآن. ليتني بحتُ لها، دون زيادة، بالجملة، اللؤلؤة التي وجدتُها في كتاب ورود أكاتاما، للكاتب التشيلي لويس سيبولفيدا: “ليس الأجداد سوى أطفال متنكِّرين!”

مقتطف من كتاب شاعر يمر (دار ورد للنشر. دمشق. 2010)
ترجمة روز مخلوف