حدثَ في فاس

في فاس، لا تخرس السماء لمدة طويلة. يكفي لمعاينة ذلك، بذل بعض المجهود. لماذا كانت تفتنني إلى هذا الحد، أنا الجاهل من الشعر حتى اسمه ولا أعرف سوى كلمة “النجوم” اليتيمة لتعيين ما لا يحصى من الكواكب المشعة التي تمتلئ بها قبتها ليلاً؟

كان زادي من الكلمات هزيلاً، هزيلاً للغاية. وكان يغيظني عجزي على أن أصفِّف أمامي أشياء تأملي وأقول لها: أنت تسمى هذا، وأنت ذاك. وما دمت قد تعرفت عليكم وبفمي سميتكم، فكفوا عن الظهور بمظهر المكتنفين بالأسرار، وتعالوا، اتبعوني. هُوبْ، هوب، سأضعكم في مزودي، وهيا، إلى الأمام! في سفري سوف تكونون مؤنسي المؤتمن على أسراري، وإذا ما أطل خطر خلال الطريق سوف تصبحون لسان صرختي وذراع شجاعتي.

كان سطح بيتنا في حي السياج ميداناً فسيحاً بالمقارنة مع سطح “مصريتنا”، القزم، في عين الخيل. لقد حل محل مسرح الجيب الذي مارستُ فيه أحلام يقظتي الأولى، نوعاً من المدَرَّج المتناهي الأطراف والمعلق في الهواء. من هناك كانت المدينة تعرض عليَّ نفسها، من قمة الرأس إلى أخمص القدمين. من كان يعكس الآخر، هي أم السماء؟ لم تكن عيناي قادرتين على الفصل في ذلك. كانتا تتيهان في لعبة المرايا تلك وتنعمان بالإحساس بالتيه. كانت مدينتي تعرف كيف تطبع نفسها على صفحة سمائها، والسماء تبدو أبلغ راوٍ لمدينتي. كنت الناسخ المثابر والمتفرغ لذلك الحوار العالم. أقطف منه الموسيقى وأترك له الملكات التي خبرتها. كان جسدي يتخفَّف من وزنه. لحظة فقط، وأشعر أنني قادر على التحليق، دون أجنحة.

من حسن الحظ لم يكن أحد ليشاهدني أو يستمع لرنين سُبْحَة الهذيانات في رأسي. وإلا كنت سأُتَّهَمُ، في تلك الظروف، بعدم الاكتراث بالمصيبة التي كانت قد أصابتنا وأوصَفُ بالانهزامية. مع ذلك، لم أكن لأتوقع البتة أن السماء كانت ستبعث لنا في تلك الأيام رسالة أخرى مخالفة.

كنا في نهاية شهر يوليوز، مع اقتراب اكتمال البدر. مرَّ الآن عام على خلع ملك البلاد عن عرشه ونفيه. كان الآن تحت مراقبة مشددة، في جزيرة إفريقية بعيدة يلح إدريس على تسميتها مدام كاسْكار. وكنت أسخر، مع بقية متعلمي الأسرة، من هذا التلفظ المبتكر. كنا من مدة قد حددنا موقع الجزيرة على خريطة القارة السمراء وبدأنا نطالع عنها. كانت أنتسيرابي المتواضعة، حيث أبعد بن يوسف تأخذ باهتمامنا أكثر من العاصمة تناناريف. أما تاريخ البلاد فيقدم تشابهات مدهشة مع بلادنا. حماية هناك، وحماية هنا. فيما مضى، كانت ملكة البلاد قد خلعت عن العرش ونفيت هي أيضاً. الظاهر أن مستعمرينا لا يحبّون الملوك. طبيعي، قال أكثرنا علماً: لقد قطعوا رأس ملكهم منذ زمن طويل.

من يحكمهم إذن؟

رئيس يختارونه كل سبع سنوات. ثم يأتي دور رئيس آخر.

ومن يختار؟

الجميع، رجالاً ونساء.

والحمالون أيضاً؟

حتى عسّالة، ميكو أو الشيكي لقرع لو كانوا هناك، لكان بإمكانهم أن يختاروا.

وما رأي العلماء في ذلك؟

العلماء في فرنسا، لا يهتمون بهذه الأشياء.

ومن يهتم بها إذن؟

أناس مثل بلحسن الوزاني.

أهو متفق مع أولئك الذين يقطعون رؤوس الملوك؟

إطلاقاً لا. مع ملكنا، إنه على انسجام تام.

وعلال الفاسي؟

هو كذلك. مع أن…

مع أن ماذا؟

تزعجنا بأسئلتك. انتظر حتى تكبر، وستفهم.

لن يقول قائل إنني لم أبذل الجهد الضروري.

عاد بن يوسف!

تدفق الخبر في مدينتنا مثل موجة هائلة ولدت في بحر باطني هائج. ولأننا لم نكن متعودين على الإبحار، فقد هزتنا الموجة في الأعماق وجرفتنا قُوتها. لم نعرف بم نتشبث لاستقبال الخبر السار دون أن نفقد صوابنا. في جهات المدينة الأربع، في كل الدور، تشبث البعض بالبعض وأقاموا سلسلات بشرية لتَحمُّلِ الصدمة والاستعداد لرد الفعل، وعندما استرجعنا طاقة الكلام ثانية، كان ذلك لتمتمة أسئلة انفلتت من أفواهنا كطيور مضطربة: ماذا، ماذا، ماذا؟ متى؟ أين؟ مع من؟ كيف؟ بحراً أو جواً؟ على متن سيارة أو حصان؟ هل هو بالفعل أو ليمُه؟ هل نطق بشيء؟ هل شاهده أحد بأم عينيه، واستمع إليه بأذنيه؟ ماذا تقول الإذاعات؟ أين يجب الذهاب للمزيد من المعرفة؟

استمرت الموجة في تدفقها، وتحولت فاس شيئاً فشيئاً إلى نوع من سفينة نوح، عاد الإيمان إلى عليائه، مطمئناً القلوب. وأمَّا السماء التي بقيت زرقاء طيلة الإعصار، فذكرتنا بوجودها، وكلّفت الشمس في أفولها بأن تمنحنا غروباً بهياً. تلون وجهها بألف نور ونور ناعم ومحتشم. وعندما نادى المؤذنون لصلاة المغرب، بدوا كأنما غيَّروا الكلمات لما كان لإنشادهم من عذوبة. ونتيجة لذلك، تلاشت الأمواج الصاخبة. كنا نندفع على سفينتنا، مُهدْهَدين بالابتهالات الغنائية والضياء الرقيق.

هل تناولنا عشاءنا ذاك المساء؟ غير مؤكد. كنا بحاجة إلى الكلام، إلى تبادل الزيارات، إلى أن يلمس البعض البعض الآخر، إلى أن يضيف كل واحد إلى حبور الآخر وأن نرسم، نرسم المستقبل بأقلامنا ومدادنا، بألواننا الخاصة. أعدنا اكتشاف أيادينا، تلك الأيادي التي لم تكف عن الرسم، التخطيط، الزخرفة، النقش، النحت، الحلاجة، الغزل، النسيج، الحياكة، الطرز، التفضيض، الصقل، الخياطة، التلصيق، التبليط، التجصيص، التقطير، نحت الطين، الحديد، الفضة، النحاس، البرونز، إطعام الأطفال، الفقراء، اليتامى، عابري السبيل والمجانين. أيادينا تلك، التي كنا قد شككنا فيها وها نحن نفتحها الآن، أكفاً باتجاه السماء، لكي تباركها وتملأها من هباتها.

في تلك الأثناء، حل الليل. لم نكن بحاجة إلى إشعال النور ما دامت السعادة تنيرنا من الداخل. عندها وصلت الزغاريد الأولى إلى أسماعنا. أجابتها زغاريد أخرى، ثم تعاظمت الجوقة إلى حد زعزعة حيطان الدار. بدأت غيثة، المحرومة من زمان، تشارك، وردت عليها أختي زهور مباشرة. وعلى هذا جاء أحدهم يطرق بابنا وأنبأنا بهذا الخبر المدهش: لقد ظهر بن يوسف في القمر!

لنصعد إلى السطح! صاح إدريس.

تدافعنا في السلم. على قدر ما كنا نصعد، على قدر ما كانت الجوقة تتعالى. لما وصلنا إلى السطح، وجدنا جيراننا القاطنين في الطابق الأول. لم تفكر أي من النساء، مع التسرع، في ارتداء جلبابها، أو حجب وجهها. كنَّ في ثيابهن الداخلية. ولم ينتبه الرجال إلى ذلك. كانت العقول طائرة والأعناق ممتدة إلى السماء. الأسطح المجاورة ملأى بالناس، وكل سكان المدينة قد تجمهروا لمشاهدة الظاهرة. كانت الزغاريد تنفجر، موجة تلو الأخرى، تقاطعها ابتهالات لم تعثر في البداية على إيقاعها قبل أن تنصهر في نفس القالب وتُسمع في شعار موحد:

مولانا يا ذو الجلال

بن يوسف والاستقلال!

في غضون ذلك أصبح التدقيق في القمر يثير خلافات جدية. كانت غيثة، التي بدأ نظرها يضعف، تتساءل عما إذا كان السلطان واقفاً أو راكباً حصانه.

أي حصان؟ قال إدريس مستاء. افتحي عينيك جيداً، وجهه وحده هو الذي يظهر.

لعلك تريد أن تعلمني كيف أنظر؟ أقول لك إن هناك حصاناً. وأنا متأكدة من ذلك.

ارجعي إلى الله، أيتها المرأة. ذاك مجرد قُبِّ جلبابه. ألا ترين عيني السلطان، وأنفه؟

والفم، أين هو إذن؟

أين تريدين أن يكون؟ على جبهته؟

وتدخلت زهور بحسها التربوي المعهود، وهي تصوب سبابتها نحو القمر:

أنا سأقول لك، أميمتي. توجد الرأس في الوسط تماماً. تابعي إصبعي.

أين إصبعك؟ أتظنين أن لي عيني قط؟

ها هو ذا، امسكي، وتابعي ما أبين لك. وهذه هي حوافّ القبّ. هذه دائرة الوجه، وهنا الشفتان.

آه نعم، يا بنيتي، يبدو أنك على صواب. الآن أرى فماً، وكأنه يستعد للكلام.

وبينما كانت العائلة تسير نحو الإجماع، كنت أجهد من جهتي للالتحاق به. وللأسف، رغم محاولتي المثابرة لم تكن النتيجة مقنعة جداً، والقمر شاهد على ذلك! أكيد أن البدر كان وضّاءً أكثر من المألوف وأن أشكالاً غامضة كانت تتخلله. لكن وجهاً مرسوماً بوضوح، ماساً من قريب أو بعيد لوجه السلطان الغائب، فكلا. على أية حال، كانت الصورة التي عرفت عنه والتي أتلفها أبي خلال فورة هلع، تعرضه جانبياً معتمراً طربوشاً مفلوقاً في الوسط، من النوع الوطني. في حين أن الحديث حولي كان دائراً عن رأس مواجهة، مغطاة بقب. لكن، كيف كان بإمكاني أن أشك للحظة واحدة في الرؤية المثبتة بسرعة، المفصلة أكثر فأكثر، ثم المجتمع عليها، والمحيَّاة في الحماسة والاستبشار؟ لم يكن بوسعي أن أؤاخذ سوى فقر نظري والآفات المواكبة لسني. فللكبار طاقات ما تزال تعوزني. والأبسط أن أصدقهم بعينين مغمضتين. ومن هنا إلى الادعاء لم تكن سوى مسافة خطوة، عبرتها لتبديد شكوكي والمزايدة حتى. هكذا فاجأتُ نفسي أسخر من غيثة، المتهمة بالتذبذب قبل أن تتبنى الرواية الرسمية:

لقد طار حصانك، أليس كذلك؟

الله يجعله يدوسك، ويصيرك كفتة! أجابتني.

الحل الذي وجدته لإبعاد ذلك السوء عني، هو أن أصدح بدوري منضماً إلى جوقة الابتهالات:

مولانا يا ذو الجلال…

أهو ذلك الدعم المتواضع للحماس الجماعي الذي أتى بالطائر الحديدي؟ هو ما حسبته بكل سذاجة. لاحت المروحية، المسبوقة بدوي هائل، مضيئة السماء بنجوم وامضة، خضراء، حمراء، وبدأت تدور فوق رؤوسنا. حصل صمت قصير قبل أن تتفجر جلبة واسعة من الصياح المناوئ، مصحوبة بحركات مخلة بالحياء اتجاه مقيلي الآلة. عادت المروحية، التي خاب أملها بهذا الاستقبال، إلى الارتفاع، مرت أمام القمر، كما لو أنها تتعمد حجب وجه السلطان وابتعدت. تفاخر الناس، ثملين بنصرهم. ليس لمدة طويلة. كانت الآلة تعلن رجوعها. عاودت الظهور، واعتقد البعض رؤية التماعات مضيئة تصدر من هيكلها مصحوبة بانفجارات خاطفة، وصرخ إدريس، الخبير في الموضوع لكونه قد تدرب على بنادق الفروسية:

إنه البارود الذي يتكلم!

بدأ الذعر ينتابنا. وقلقت غيثة على صغارها.

لم يعد الأمر لعبة أطفال. هيا، انزلوا بسرعة.

أبدينا بعض المقاومة، سيما وأن هذه المرة حقاً لم نشاهد ولم نسمع أي شيء. ظفرنا بوصلة إضافية. لأن المروحية كانت قد ابتعدت من جديد. تنهد الناس انفراجاً وعادوا إلى موضوع انحسارهم. كان القمر قد تغطى بحجاب رقيق. غيرأن التضبيب هذا، لم يمنع المناقشة من التدقيق في التفاصيل. افتتنت امرأة جارنا أمام الملأ بجمال الملك:

تبارك الله، قالت. إنه لفنان من رسم حاجبيه وأعطى لعينيه مدار كأس بِلَّور.

نور وجهه من نور مكة، أضافت غيثة، حتى القمر يغار منه.

أرأيتِ، لالة، استقامة أنفه، لا هو خانس ولا أقنى؟

أهو خال ذاك الذي يبدو على وجنته؟

خال أو غير خال، فبشرته مورَّدة. الدم على وشك النضح من خدَّيه.

ثم أقحمت زهور هذه الملاحظة الملغزة:

ما أسعد المرأة التي تتمتع، يوماً بعد يوم، ببركته!

أمام هذه المدائح الفائقة لمحاسن بن يوسف البدنية، كنت بانتظار لذعة غيرة من طرف الرجال. لا شيء من ذلك. كانوا، هم، منكبون على مادة الأفكار الصلبة، تاركين للنساء الشِّعر الذي لا طائل تحته. وقد بلور جارنا، المولع بالاقتصاد، تحليلاً أسال لعابنا:

هل تعرفون أنه بعد أن يخرج الفرنسيس، سيكون لكل عائلة، بالفوسفاط وحده الذي نملك، ما تغطي به حاجياتها لمدة ثلاثة أشهر دون أن تعمل؟

هذه دجاجة مبخرة بكامونها، قال إدريس متهلِّلاً.

إياه آسيدي، أراضي المعمرين، سنسترجعها وسنزرع فيها كميات من القمح تغذي كل مسلمي الأرض.

عندها سيكون الشعير صالحاً لإطعام دوابِّنا.

لم نُدْخِلْ عبثاً أبناءنا إلى المدارس. عما قريب، سيكونون هم من يحتل المناصب الإدارية وسوف يوزعون ما عليهم أن يوزعوا.

أعطيني نعطيك.

واعْلاش لاَّ؟ لقد أفرغنا شكاكرنا كي يتعلموا ويصلوا إلى أعلى الدرجات. والآن، إلينا بالراحة.

استحقينا ذلك. ضيعنا حياتنا في الكد، أوْهَنّا أيادينا وعيوننا. لقد آن الأوان ليضع الإنسان رأسه على مخدَّة، يستلقي ويتمدد كما يحلو له.

الاستقلال شيء كبير، استخلص جارنا بفخامة.

لم يبدأ الحفل في الفتور، وتُفرغ السطوح من الناس، إلا في وقت متأخر من الليل. تبعنا الحركة. وعندما نزلنا، تنبَّهتُ بمرارة إلى أننا فوَّتنا العشاء. ربما فكرت غيثة في أننا أكلنا وشربنا كفاية بعيوننا وأننا عما قريب مع الاستقلال إن شاء الله سوف نَغْرَق في الملذات. كانت أمعائي، الأقل سذاجة من رأسي، تزمِّر. لكن لم يكن لدي الخيار، وعلي أن أستسلم للمُشْبِعِ الوحيد الذي ما يزال في الخدمة: النوم.

بم حلمت تلك الليلة؟ بحكايات الأكل، طبعاً. كانت عبارة عن نْزاهة في بستان باب الحديد. وكما حصل في المرة السابقة، كانت العائلة بأكملها، بما في ذلك الطويسة، البكّير بشكل استثنائي، الزردة الكبيرة، هي موضع الاهتمام والعناية. لهذا السبب، أجَّرت غيثة، طباخة محترفة. ينتظر أن تهيئ خروفاً مشوياً، دجاجاً محمراً، طواجين لحم، والكسكس الذي لا مناص منه. وكل هذا على شرف من؟ هناك سببان، دون رابط ظاهر بينهما: الاحتفال بعودة إدريس من مكة، وانتظار مجيء ضيف استثنائي.

تتوالى الصور، متقطعة. وكأنه على عرش، يجلس إدريس وسط الحديقة. يرتدي ثياباً فخمة وتبدو عليه أبهة لم أعهدها فيه. يمدُّ كلتا يديه بطريقة مسرحية، وعلى كل واحد منا أن يمثل أمامه، يهنئه على حجِّه الموفق ويدلي بصوت عال بلقبه الجديد: الحاج، ثم يقبل ظاهر وباطن يديه. تقوم غيثة بالشيء ذاته، وتستغل الفرصة لكي تمرر طلبها بخنوع:

وأنا يا حاج، متى سترسلني لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟

قريباً، قريباً، يجيبها إدريس. لن أنساك.

كل هذا يمرُّ تحت وضح… وضح قمر رصاصي. الصورة خاطفة، ولكن ليس في ماديتها ظل شك في ذهن النائم.

طَقْ، طْراق. يمرر سيد الرؤى صوراً أخرى. يستولي ضحك متواصل عام على الجمع. السبب؟ أنا، مرتدياً طربوشاً وطنياً، واقفاً فوق مائدة ومردداً، في رواية معدلة، العدِّية التي كان أخي السي محمد قد أحفظني إياها:

طونيو وكابيزا

وعمي لقرع

مْدَوْرة بيه الغابة

طراق، طق. كنا عدداً نرجّ أغصان شجرة. تسقط منها فواكه ذهب بغزارة. أحاول قضم واحدة، ولا تصادف أسناني سوى صلب المعدن.

طق، طراق. تنطلق غيثة، باتجاه الركن الذي تهيئ فيه الطعام صائحة: أشم الشياط، ماذا تفعل هذه الطباخة؟ أخذتها الحمى!

طراق، طق. يوجد الخطيب المغتال أمام دارنا كأنه كان مدعواً، ويتوجه إلينا قائلاً: لقد جئتكم بقالب السكر هذا وبالنعناع الجيد من مكناس.

طق طراق، وطُق طُق: يقرع باب الحديقة. تنفجر جوقة موسيقية في الخارج، تُدفع الباب ويدخل بن يوسف شخصياً، محاطاً بصفين من الأعيان. وجهه تماماً كما عكسه القمر. يتقدم، ونجري نحن لنقبل يده. يجلس في المكان الشرفي وينحني على إدريس، وهو يطلب منه مُزأزِئاً: “سوف مزيان وقل لي منين زيتْ!1 من مدام كاسكار، سيدي ومولاي”، يرد إدريس.

وينطلق بن سوف ضاحكاً ضحكة خالصة، نرد عليها بمرح، وتعلو قهقهتي فوق الآخرين.

تلك الضحكة هي التي أفاقتني بغتة. وللأسف، لم يكن نصيبي من الزردة إلا روائحها المشهية.

كانت الشمس قد أشرقت فوق مدينتنا المهدهدة بحلم من مستوى أرفع. أُرْسِلْتُ من طرف غيثة مبكراً لشراء السفنج (كانت بهذا تعوضنا عما افتقدناه أمس) فوجدت الأحياء ممتلئة من مدة بالناس. كانوا يتوقفون مع كل خطوة، يتبادلون التهاني، ويعلقون ببهجة على ما شاهدوه البارحة. كانت الوجوه مشرقة والصدور منتفخة زهواً. كان أمام بائع الفطائر زبائن كُثر. لم تكن إذن فكرة غيثة فريدة للغاية. كان عليَّ أن أستعمل مرفقيَّ، أبقى متيقظاً كي لا يمر عليَّ الدور، وأن لا أنسى على الخصوص، الطلبات التي أمرت بها: كيلوغراماً من الفطائر من الحجم العادي، نصف كيلو من الأصغر منها، وثلاثاً من المطفيات بعد القلي تكسر فوق كل واحدة منها بيضة. كادت الأشياء تتبلبل في ذهني عندما اقترب ولدان من التجمهر وهما يصيحان:

اشتروا بن يوسف في القمر!

اعتقدت أن الأمر يتعلق بجريدة تروي الحدث بتفصيل. مدفوعاً بالفضول، غادرت مكاني بتهور لأرى عن قرب. وفعل بعض الطائشين ما فعلت. عندئذ اكتشفنا موضوع الإعلان.

حزمات تلك الصورة تخاطفها الناس فنفذت في رمشة عين. نجحت في اقتناء واحدة منها وانغمست فوراً في التمرين. والنتيجة لا يمكن إنكارها. بعدما رفعت عيني نحو السماء، استطعت التأكد من أن الصورة التي أجهدت نفسي في التعرف عليها البارحة كانت مطابقة لما تم ترسيخه في ذهني. وبذلك تبددت نهائياً شكوكي… لقد أفاد أخيراً التجريب الذي اكتسبته من المدرسة في شيء معين. وبالنسبة إلي، إن ظهور بن يوسف في القمر قد أصبح ثابتاً ثبوتاً لا رجعة فيه.

وجدت نفسي، بعد أن انهمكت في تلك الاختبارات العالمة، مدفوعاً إلى مؤخرة الطابور، مجبراً على الانتظار من جديد، متألماً أكثر من جراء الرائحة المجنِّنة للفطائر القضيمة والتملي في بائعها وهو ينضدها كقلادة مستعملاً لذلك الغرض أعشاب دوْمٍ مفتولة.

بعودتي إلى البيت وأنا ألوح بغنيمتين، خاب أملي، لأن حزمة الفطائر هي التي نالت الإقبال وليست الصورة. كان الجو العائلي قد فتر. لم يكن الكبار يفكرون إلا في الأكل. وحدهن أخواتي الصغيرات تكرَّمن بإلقاء نظرة على ما اعتبرت أنها الغنيمة الأثمن، وخضن بمحض المجاملة في التمرين الذي أقنعني، أنا، على أسس صلبة.

بينت لي المناقشة التي تلت أسباب ذلك التحول في المزاج إذ علمت أن المحطات الإذاعية الملتقطة باكراً، لم تنبس ببنت شفة حول المعجزة التي كانت فاس كلها شاهدة عليها. قد يقبل ذلك من إذاعتي الرباط وطنجة، لكن أن تسكت القاهرة، موسكو، البي بي سي، براغ وصوت أمريكا عن الحدث، فذاك ما صدمنا وعذب نفوسنا. هل كان العالم لا مبالياً إلى هذه الدرجة بمصيرنا وبتجليات إيماننا؟ هل أصابه العمى عن الإشارات الواضحة التي أرسلتها السماء؟ نفس التكتم من جهة الصحافة الرسمية. كانت جرائد الصباح التي حصل عليها السي محمد تصب حقدها على فدائيينا وتمجد في عناوينها البارزة منجزات الحماية: طريق جديدة بُنيت، ميناء وسِّع، مستوصف دُشن، عشرة مخافر شرطة فتحت، حي قصدير استؤصل، أكياس دقيق وزعت على المحتاجين، قواد وشِّحُوا لخدماتهم الجليلة. ألا يكفي هذا؟ ولم نعثر على إحالة لما كان قد قلب حياتنا جذرياً، إلا بالبحث في الصفحات الداخلية. قد عالج الموضوع صحافي وقع بالحرفيين الأولين لاسمه (الجبان!) في بطاقة ساخرة بعنوان “شعب من المخردلين” كاتباً:

“حاول معارضو حركة فرنسا المحضِّرة أن يخدعوا مواطنيهم بنشر الفكرة المضحكة القاضية بأن السلطان السابق، المخلوع شرعياً (بفضل انضمام سكان البلد الأقحاح وصفوة أبنائه المؤيدة لهذا المشروع) قد ظهر ـ يا للمسخرة ـ في القمر! ويظهر أنه كان لعملية الترويض النفسية هاته، المستوحاة من طرف أسيادهم القابضين على الخيوط من موسكو، أثر حاسم على نفوس طيبة ذات العقول البدائية. فعوض مساعدة هذه الأخيرة على تعلم شروط التفكير السليم التي أتينا بها، أراد أولئك المتشبثون بعقلية الوطنية الضيقة أن يبلدوها أكثر بدفعها إلى هلوسة جماعية، وتحويلها بهذا إلى شعب من المخردلين. عمل دنيء! يصعب على المرء أن لا يتبنى معه دون تحفظ الحكم الذي أصدره أحد إداريينا المشهورين في زمنه (أوربان بلان، كي لا نسميه): “مادام العرب يكتبون من اليمين إلى الشمال ويتبولون مقعدين، فلن يُرْجَى منهم خير”.

الله يلعن دين أمك، أيها الكلب الأعور!

لم يمنع نباحه قافلتنا من أن تأخذ الطريق إلى السطح ذاك المساء نفسه. وظهر بن يوسف من جديد، في قمر مورَّم قليلاً. كان قبُّه مائلاً جنباً شيئاً ما. وبدأت في الليالي التالية وَدَفَةُ ظلمة تزحف على الوجه، مغطية العين اليمنى، فالأنف، الفم، العين، الثانية، إلخ. وقد تشبثنا بشكل يائس بأملنا، غير مبالين بنباح الكلاب الضارية وبعدم اكتراث العالم. وذلك إلى الأفول الطبيعي لـ “ثورة” القمر.

في غضون ذلك، كانت الأيام البيضاء تتعاقب، ولم يكن بوسعنا إلا أن نرضخ لحكم الواقع. ظل الأفق أخرس، بخيلاً. بقي بن يوسف غائباً عن الأنظار. كانت إعصارات أخرى تتهيأ، مسبوقة ببروق وقصوف تاريخ في طور الولادة.

وهكذا عشنا، بخبز الانتظار اليابس وبماء الرجاء العنيد. فدام ذلك حزمة فصول أصبح فيها “صيفنا شتاء” قبل التغيير الكبير، الحق، الذي سيشهد طلوع نجم الحرية، الحقيقي، في سمائنا.

لكنها حكاية أخرى.

مقتطف من رواية قاع الخابية (دار ورد للنشر. دمشق. 2009)
ترجمة حسان بورقية والمؤلف