افتراضات

لِنَفترض
ولادةً بلاَ مخاض
تاريخاً
بصفحتِهِ العذراء
الهواءَ
وقد جُدّدَ تماماً
المحيطاتِ وقد طُهّرت من أعماقها
ماءَ النبعِ
لِوحدهِ يُزوّدنا
بالقوتِ والمعرفة
النارَ
حُرِثَت لِتَهَبَنا النبيذَ
وإكسيرَ الطفولة
الريحَ الطيّبَة
تأتي من البَعيد
بالنغَمِ العارفِ
المُشرفِ على الخَلق
حيواناتٍ طليقةً
مجبولةً على الجمال
ترعَى الأنواعَ النادرة

لنفترض
مسكنا جديداً
للّغة والفكر

وَلْنفترض
ما يبتغيه كلُّ امرئٍ
في قرارةِ نفسه :
حياةً بديلة
يختارُ فيها أبويه
بحرّية
يختارُ اسمَه ولَقبَه
نبرةَ صوتِه
لغتَه أو لغاتِه الحَميمة
دينَه إنْ لزمَ الأمر
عشقَه
الأَوحدَ أَو المتعدّد
لونَ أفكارهِ
معاركَهُ المدروسةَ برَوِية
مسكنَه بشجرتِه الوصية
تَيْهَه ودروبَ حَجِّه
الكتبَ المنذورةَ له وحده
الموسيقى
واللوحاتِ
التي تُضاهي
مواهبَه الخاصة
ولم لا
بضعَ أسرارٍ
لا تسيء إلى أحد
مثل صنوٍ حميم
يأتمِنُه على أسرارِه
دون أن يخشى الفَضْح أو الخيانة
بعضَ التفاهاتِ
للتميز عن العامّة
مثل الضحك
لما ليس يَبعَثُ على ذلك ظاهرياً
أو البكاءِ وقت الاحتفال

لنفترض
حياةً
نخلقها بحرية
من الألف للياء

لنفترضِ المرأةَ والرجل
وقد شُفِيا
من الخوفِ
والخضوع
متحرّرَيْن من التملك
ليسَ لهما
شيءٌ للبيعِ
ولا للشراء
عاشقَيْنِ على الدّوام
وفانيين على الدوام

لنفترض حياةً
بلا قاعاتِ انتظار
لا حسرةَ بعدها
ولا ندم
حكايةً تُتَنَاقَلُ
منذ البدايات
وكلٌّ يؤثثها
ويُؤَوّلُها
على شَاكِلته

لنفترض
حلَقةً مُحدَثة
من سِفْر التكوين
تظهر فيها
ما بين السماء والأرض
قارةٌ جديدة
يُدرِك فيها أخيراً
مَنْ هُمْ أوفرُ حظا منا
الفصلَ المُفتقد

هناك
مطمئنةً على حالها
ستكون اليوتوبيا
ما بين الحلم والواقع
ستكون آمادٌ معقولة
وبالتأكيد
ستكون جسورٌ

لن يكونَ العيشُ
أمراً نافلا
سوف ينامُ المرءُ
بعينِه التي خارجَ القلبِ فقط
ولن يقتاتَ
إلا على الخيال
نقيا أو غيرَ نقي
دون مقبّلاتٍ أو أطباقَ مُصاحِبة

سنَحلمُ كالمعتاد
لكنْ بآفاقَ أرحب
كأن نسكُنَ الكونَ كُلَّه
دون حاجةٍ للتنقل
أو نتفاوضَ بشأن معاهدةِ سلام
عادلٍ
مع عناصرِ الطبيعةِ المُهْتاجة
أو نضيفَ مبدأ المحبّة
إلى ديباجةِ
الدستور العالمي

عندها سنُلغي
الكمَّ الكافيَ
من العذاباتِ غيرِ المعقولة
لنُبقِيَ فقط
على تلك التي تغذي اليقظةَ
السؤالَ
والسعيَ وراء أنوارٍ
محتملةٍ وغيرِ محتملة

سوف نشملُ بالعناية
كفَلذَةِ الكبد
كلَّ قطرةِ ماء
كلَّ حبةِ رمل
وكلّ جُزَيْءٍ في الهواء
وأقربَ إلينا
كلَّ ما هو هشّ
مُتلعثم
زائل
وما تَرسّبَ
في باطنِ الرّوح
من شعورٍ بالوحدة
أو الخوف

الموتُ الموجع
والمُذِل
سيترك مكانَه
لفناءٍ هادئ
نقي
يتفهم الجميعُ
أسبابَه
ويُحيّي الجميعُ أناقته

لنفترض ما لا يُدرك
وقد صار في المتناول
الغريزةَ الجبارة
مَلَكَةَ العبقرية
تجعلانِنا
نَمُدُّ اليدَ
ليس كي ندَاعبه
كما في حُلُمٍ
بل لنُحكمَ حولهُ
القبضة

لنفترض
هَذِي المغامرةَ الخارقةَ
مِن جديدٍ
عَالياً تنطلق


من ديوان جديد قيد النشر
ترجمة عبد الهادي السعيد
strong>>

لنفتح عين القلب

1
تُرهبني الصفحات الكبيرة
أشطُرها نصفين
لأكتُبَ
أنصاف قصائد

تدوخني الأرض
آه لو كانت ثابتةً
مُسطَّحة

البدويُّ يحلم ببَيتٍ
والحضري بمطِية
أحلام توأمين

تائهان يلتقيان
يتبادلان نظرة خاطفة
ويتابعان سيرهما
كل واحد يدفع أمامه
ظلَّ الآخر

إذا أردت أن تهتدي إلى نفسك
عليك أن تضيع

الأراجيح
المعلقة بالنجوم
هي الأكثر صلابة

2
عوض ذبح كبش
عند ولادة طفل
لماذا لا نغرس شجرة؟

الأصفر ينتظر الأزرق
الذي تأخر برفقة الأخضرِ
الأبيضُ يبتسم
لهذا المشهد العادي
في ألاعيب الغرام

هذا النور
ليس للوصف
إنه يُشربُ أو يُؤكل

حياة الورقة
في ارتعاشها

ما هو الأجمل
اليدُ تنفتحُ
أم إغماضُ العينين؟

اللاّنهائي يكمُن فينا
ونحن
نَبعُهُ أيضا

ضاع القطار
كان يٌقِلُّ شاعراً

كم تتشابه البلدان
وتتشابه المنافي
خطواتك لا تتحدر من تلك الخطوات
التي تترك آثارها على الرمل
فأنت تمرّ
وكأنك لا تمر

3
من قال إننا نريد استبدال العالم ؟
لا نريد سوى احتمالِه
وبُرعمُ كرامة
في زاوية الشفتين

الموت بالمرصاد
والحياة كذلك

روحي مُلكي
فلِمَ أُسْلِمُها؟

حتى ولو كُنّا أبرياء
من دم القريب
يحصل أن نقتل الحياة
فينا
لأكثر من مرة

الهزائم
هي التي تعلمنا
العطاء

الشعوب السعيدة
ليس لها شعر

لنفتح عين القلب

علينا يوماً ما
أن نعتذر إلى الأرض
وننسحبَ
على رؤوس الأصابع


قصائد مختارة من دواوين متفرقة
ترجمة إلياس حنا إلياس والمؤلف

فواكه الجسد

1
جسدي غير المُدوزن
بأناملك اللاّزوردية
تُقلِّبين صفحات التوليفة
بارعةٌ أنت في الأداء
يغمرني التناغم
أنحتُ اللحظة قبل فوات الأوان

2
الشّفاه المُزهرة
أضحت نحلا نهما
مُشبعاً بالرحيق
من يمتصّ من؟
الزهرة أم النحلة؟

3
ركبتان مصقولتان
إلى هذا الحد
تعكسان القمر
وهو قيد الولادة
إنهما تعلنان نهاية رمضان
وقد بزغ للتّو هلال

4
أنتِ يا الغزال غير المُنتظَر
لم تخرجي من جدول
عند الغسق
لم تُغوني
بمنهل مليء بالذهب
لم أر حوافرك الخرافية
لنقلْها :
أنتِ نزلت من السماء

5
أنت تعطيني يدك
بكل معنى العطاء
وتعرفين جيدا إلى أي مدى
ستغامر يدي
ستباشر أولا
الرقبة الصقيلة
فتهبط لتضيع
بين آكام وهضاب
ثم تعرج صوب
اللؤلؤة العائمة
مقصفُ ملذّاتك

6
عندما أبادر
أطيعك ليس إلاّ
إذن
إملي علي
تعرفين أنني
ناسخ مقتدر

7
أتعبُ
أنا ؟
أنفرُ من الفعل الإلهي ؟
محكومٌ بالأشغال الشاقة
وأطلب المزيد

8
لم أنْحَنِ أبداً
أمام أي مُتجبّر
أمامك فقط
أنحني
يا سيدتي

9
في الحب
وفي كل الأعمار
لسنا سوى
مبتدئين

10
كل شيء طيّب
في فواكه الجسد
البِشرة
العصير
اللُّبّ
حتى النّواة
في منتهى اللذة

11
من لم يذُق
طعم المُحرّم
فليرمني
بالتفاحة الأولى

12
عندما يتطفّـل الفقهاء
المُعمَّمون أو غير المعممين
على الجنس
يقطع ذلك عليَّ شهيتي

13
بمشقة أقرأ
أسفار علم النكاح
فالرياضة البدنية تُقرفني
لو لم يكن الحب
اختراعاً
إبداعاً شخصيّا
لهجرتُ مدرسته

14
بورتريه لِسيِّدة
مع وليدها
عُمرُه ستّ سنوات
ربّما سبعة
وقد زاد حسنَها
حسناً

15
أولادي
يظنّون ربما
أنه لا دراية لي بالجنس
أنا لم أشك أبداً
في درايتهم

16
أَسقي بعناية
نباتات شرفتي
أُكلّمها
ألامسها
أُسمعها مقاطع
من الموسيقى العربية
من الجاز
من الطانغو
بتصرف الكوارتيتو سِدرون
أغنيةً لسِزارا إيفورا
أو لأماليا رودريغس
كلّها عنايات
تساوي تصريحاً بالغرام
سَيقال إنه شذود آخر
فليكن !

17
ماذا سيبقى بعد الاصطدام ؟
ماذا سنقرأ في الرماد
بعد الاحتراق ؟
الجسد انفك عن الجسد
الرّجُل مُلقى الآن
بجانب المرأة
كشجرة اقتُلعتْ من الجذور

18
طحلبكِ
يتعرّف على شجرتي
شجرتي
تضيع في غابتِك
غابتُكِ ترفع سمائي
سمائي تُعيد إليك نجومَك
نجومُكِ تسقط في بحري
بحري يهدهد زورَقَك
زورقُكِ يرسو على شاطئي
شاطئي هو بلادُكِ
بلادُكِ تبهرني
فأنسى بلادي

من ديوان فواكه الجسد (الأعمال الشعرية . دار ورد للنشر. دمشق. 2010)
ترجمة المؤلف

حِيَلُ الحي

هذا الطريق الوجيز
أمامي
يقرّبني من الليل
الخالصِ
الحقيقيِّ
الذي لا مناص منه
أُبطئ السير
أتظاهر
بتأمُّلِ المشهد
يا لها من حيلة !

أُقِرّ بذلك
ولا أُقرّ
ما أصعب التوقّف
وقد استأنستُ المسير
والنور قد أعلن أخيراً
عن زيارته
لا ليقف عند رأس السرير
بل لينحني
على مهد الكينونة

مؤونتي من هذا الضوء
أحملها إلى فَمِ
الطفولةِ
المراهَقةِ
الرُّشدِ
أحتفظُ باليسير منها
لتلك اللحظة
التي تمتدّ فيها
أرقُّ يدٍ رفيقة
لإغماض العينين
المفتوحتين ببلاهة

إياك أن تلتفت
إلى الخلف !
ليس هناك ليلٌ
تصعب مواجهتُه
ليس هناك ظلماتٌ
بدون خطِّ أفق

الرحيل
لن يكون أولَ تمزُّقٍ
ولا أول فضيحة
أهو حقاً
المنفى الأخير؟

أقول لنفسي
كُنْ مُتبصّراً
سأُحضّرُ إذن في الوقت المناسب
حقيبتي المتواضعة
سأضع فيها كتاباً أو اثنين
رقمَ اعتقالي
المنديل الأصفر لنَبِيّةِ أيامي
قارورةً من طيوب فاس
قشرة نارنج
حصاةً
التقطتُها من القدس
وما تكون الحبيبة
قد دسّتهُ فيها
دون علمي

آهٍ لو أن السكينةَ
هي التي ستكون بالانتظار
قد يصبح الرحيلُ نعمة

أستدير نحوكَ
أيها الخوف السحيق
فوق وجهكَ الأملس
أكتشفُ ما يشبه ظلاً
للابتسامة العصيّةِ على الفهم
التي طالما رافقَتْني
تتصلَّب قسَماتُكَ
بقدر ما أنفذ إلى كنهكِ
فيخفّ رَوْعي

مهما يكن
الاستمرار هو الأهم
علينا ألاّ نَنْسى
الخمائل التي تتحلّى بتلك الفضيلة
الكواكب غير المستكشَفة
التي تبحر بمشقّة فوق أمواج الأبدية
أن نَحمِي شعلةَ الشمعة الصغيرة
بقصائدنا العارية
أن نتحمل نار دموعِها
ونعرف كيف نمررها في الوقت المناسب
إلى مَن يأتي بعدنا

أن تحترق من الداخل
أو فوق مِحرقة
هو القربان نفسه
وإن كانت هنالك محض أسئلة
واختبار بالنار

النهايةُ ، البدايةُ
في قلبِ البشَر
ذلك الموطنُ الحُر
حيث لن نعودَ بحاجةٍ
للدلالة على أنفسِنا
إلاّ إلى اسمٍ واحد
حيث سيُسمَعُ صوتنا الواهي
في المجرات
وحيث سيكون للوعد
نبْرةُ القسَم

لنَسْرِعْ !
الحياةُ لا تنتظر

حتى لو كنا أبرياء
من دم القريب
يحدث أن نَقتلَ
الحياةَ فينا
أكثر من مرة

الحجاب
الذي يغطي عيونَنا
والقلبَ
المتاريسُ
التي ننصبها
حول الجسد المريب
الشَّفرة الباردة
التي نُقابِل بها الرغبةَ
الكلماتُ
التي نشتريها ونبيعها
في سوق الكذب المزدهر
الرؤى
التي نخنقُها في المهد
الجنونُ المُقدّس
الذي نحتجزه خلف القضبان
الذعرُ
الذي تبثُّهُ فينا البِدَعُ
الصّممُ
المرفوعُ إلى رتبةِ فنٍّ مستهلَك
ديانةُ اللامبالاة
المُقتسَمة إلى أبعد حدّ

رسُلٌ كثيرون
سيطرقون بابنا من جديد
هل سيوجَد أحدٌ
في البيت؟

أخبروني
تُرى نحو أي عدم
يجري نهرُ الحياة
ومتى استحممتُمْ فيه
آخرَ مرة؟

من ديوان اكتبْ الحياة (الأعمال الشعرية. دار ورد للنشر. دمشق. 2010)
ترجمة روز مخلوف

بعيداً عن بغداد

قَرْعُ الطّبول
أخذ اسماعيلُ من جديدٍ مكانَ الكبش
غيَّرَ الإلهُ رأيَهُ
ودموعُ ابراهيم
لن تنفع
لقد وصلَ القصَّابون!

إننا ضائعون
مشدوهون
مثل تلك الجِمال
التي تشهَدُ
في قلب صحراء العراق
مرورَ قافلةٍ من المصفحات

أن يُشتَرى الماءُ
ويُباع
قد يجوز
لكنه يستخدم الآن
من أجل المُتاجرة بالضمائر

بعد نهَّابي القبور
ها هم نهَّابو المتاحف
اعجبوا لهذا التقدم !

قُطع رأس التمثال
لم يكن أكثر من كتلةٍ
من البرونز أو الفولاذ
أما في رأس البشر
فلا شيء تغيَّر
مات الطاغية
عاش الطاغية!

الحرية تُنتَزع انتزاعاً
كما ردّدنا جميعاً
مثل ببغاوات
انتهتْ اللازمة المكرورة
ولتعلموا
الحريةُ تُمنَح
“أقدم لك معروفاً إذا لم أقتلك”، يقول مثلٌ مغربي قديم. ثمة شطحات من الحكمة تصيبك بالرعب.
“لا يُديَّن غيرُ الأغنياء”، يقول المثل الفرنسي. وإذا ما جرى تكييفه مع العربية، هذا ما قد يعطيه: “إضافة المزيد من الدهن إلى إلية خروفٍ مسمَّن.” هل ابتهجتَ أيها المترجِم!
لا نسمع إلا عن حظرِ أسلحة الدمار الشامل. وأسلحة الدمار الجزئي، ماذا نفعل بها؟
لدى رؤية الدم البشري المنتشر بغزارة كل يوم، يدهشني ألاّ تكون قد خطرتْ لإحدى الشركات متعددة الجنسية تلك، فكرةُ استخدامه كمصدر جديد للطاقة.
المدافن الجماعية المكشوفة
تُصوَّر
باهتمامٍ شديد
يالها من غنيمة حربٍ عجيبة !

قرب شاحنة محترقة
يدوسون الجثث
والابتسامةُ تعلو شفاههم
حتى في الكراهية
نَبلُغ حدَّ البشاعة

هل يوجد قتَلةٌ أكثر نُبلاً من غيرهم؟

شعراء كُثرٌ توقّفوا هنا
أمام أطلال أخرى
بعد وقائع دمارٍ أخرى
لكنهم على الأقل
كان همّهم الوحيد
ارتجالُ أغاني حبٍّ جديدة

البصرة
قبل ثلاثين عاماً
كان العَرَقُ ذو النكهة الأشد نفاذاً
يُسْكَبُ فيها بغزارة
وكان الشعراء المجتمعون يتآخون
يضحكون بأعلى صوت
ويترنَّحون تحت وطأة الرؤى
العرَقُ غدّار!

في مكان ما هنا
كان للحكمة
بيتٌ
أُنقِذ أرسطو من النسيان
وصاغت شهرزادُ
أُمَّ الحكايات
اشتغل العقل بكثافة
حتى تقطَّعتْ أنفاسُه
قبل أن يهوي
مختنقاً بالتلوُّثِ الناجم عن
“أمِّ المعارك”
لا يستطيع شعبٌ الانتصارَ على مُضطهِدِه إلا إذا كان مُتفوِّقاً عليه، أخلاقياً
مهدٌ للبشرية
كما هو متفق عليه
لا تندهشوا في هذه الحال
كما في غيرها
إن دُعِيَ الأوباش، إلى خدمة العلم
في المهد

ولكن كأنّما ليس للمضطَهَد
غيرُ توقٍ وحيد
الحلولُ محل المضطَهِد
لكي يعيث بدوره فساداً
ضدَّ أولِ من يُصادفه
وإلاّ
فضدَّ نفسه

رغم حدةِ ذهنه الفذّة، لم يلتقط ابنُ خلدون العظيم، هذا الأساسَ المعْوَجَّ للتاريخ العالمي

عندما تُسْتَخلصُ العِبْرةُ
يجب تَجَرُّعُ الكأس، حتى الثمالة

أن ترى ما يفوق الوصفَ وتموت

في أحشاء الليل
تعلو صرخةٌ
في طريقها إلى أين؟
السماواتُ السبع
التي ابتلعها الثقبُ الأسود
انضمّت إلى
طابور الحيارى

من ديوان اكتبْ الحياة (الأعمال الشعرية. دار ورد للنشر. دمشق. 2010)
ترجمة روز مخلوف

النفق (فلسطين 10 أبريل، نيسان، 2002)

زوبعةُ هذا الصباح
تُسطِّرُ بالأحمر
آخِرَ تحليقٍ غنائيٍّ لي
ما هذه العاصفة المُعاكِسة
التي تغويني
وهي تُرضِعُني
وفي نهاية كل دورة
تتفنَّنُ
في تأجيل فطامي؟
وإنها لَمعجزةٌ
أن الرحلة تتواصل
وأنَّ شيئاً حيوياً
لم يتحطَّم
في سباق الحواجز هذا
بحثاً عن بصيص الضوء
المنبعث من آخرِ النفق
النفق
ها هوذا من جديد
طويلٌ، طويل
فوق أرضٍ أخرى
لا يستطيع فيها الناسُ
حتى أن يدفنوا موتاهم
أسْميتُكِ
يا فلسطين!
أفكر بكم
يا أصدقائي هناك
الذين ترجمْتُ قصائدَهم
“أناديكم
أشدُّ على أياديكم”
ثم أشعر بالغباء
ماذا لديّ لأقوله
مما قد تقولونه أنتم
ليس بطريقة أفضل
بل بمادَّةٍ مختلفة من الكلمات:
بياضُ الرعب، الذي يتعذَّر سبره
سوادُ الدم، الذي يتعذّر مَحْوُه
أرجوانيُّ الحلم المغتَصَب
رماديُّ الأنقاض، المسمومُ
الأصفرُ المعتوهُ للَّحمِ المحروقِ،
أخضرُ السيْلِ الظالمِ للدموع
أزرقُ اللعنات الثمِلُ؟
أفكر بكم يا أصدقائي
بضحكاتنا الهوميرية
في لحظاتٍ ترويحية نادرة
منَحَها المنفى
لمناظراتنا المثقَّفة
كي نحتفل بالنبيذ الفرنسي
والمرأة المذهلة
التي تَقاسمْناها بالعدل
في هذياناتنا الملْفِتة
كـ ذُكوريّين تائبين
أفكر بلغتكم العربية الكريستاليّة
التي تعلَّمتُها
حباً بكم
بجواز السفر السورياليّ ذاك
الذي تحملونه
الذي طلبتُه قديماً
ولم تمنحوني إياه بعد
أفكر بأبنائكم
الموسيقيين جميعاً تقريباً
الذين رضِعوا الكبرياءَ
ذوي العيون التي تلتمع بأشدِّ ألقٍ
أُتيح لي أن أشهد عليه
أفكر بأمهاتكم
وهنَّ يحرمن الرجالَ من البسْتَنة
حارساتِ الزعتر
وسرِّ صابونِ نابلس
أفكر بآبائكم
بوجوههم المنحوتة
في صخرِ جبل الزيتون
أفكر بالقدس
حين ظنَّ الرسامُ الصديقُ
المولودُ فيها
بأنه رآها يوماً بصحبتي
من أعلى المَرينيين في فاس
أفكر بكم
وأنتم تفتقرون إلى الماء، إلى الخبز
والأفدح من ذلك
إلى مكتَباتِكم مبقورةِ البطون
مخطوطاتكم الممرَّغة بالأقدام
أفكر بكم
وأنتم تستضيئون بشمعةِ
الأملِ
الهشة
لأنكم لم “تخونوا قصائدَكم”
أفكر بكم: أحمد، فدوى
غسان، إبراهيم، عزّت، جمال
خيري، ليانا، محمود، محمد
مُريد، نِدى، رشاد، سحر
سميح، وليد، يحيى
أفتح كتُبَكم
أمسح بيدي فوق الإهداءات
المكتوبةِ بعناية
وأفكرُ
بكياستكم الفريدة
“أناديكم
أشدُّ على أياديكم”.

هذا النفق
الطويل الطويل
الجاثمُ فوق الصدْعِ البشريّ
إننا محجوزون فيه كما في السجون الاعتيادية، بأيدٍ مكبَّلة خلف الظهر، وأرقام فوق الأذرُع، وعيون معصوبة. لا جديد في بروتوكول الإذلال. هذه الصناعة لا تستطيع العمل إلا في المحاكاة: أُنزِلُ بكَ ما أُنزِلَ بي. إذا لم تكن شقيقَ الذئب، فأنت ابنُ عمِّه. إنه قانونٌ
قاسٍ أنْ تُنْكِرَ لكي تُوجَد، ولكنّ السماء هي التي أقرَّتْهُ لصالحِ مَحمِيِّيها أو مُختاريها.
للأسف، أنتم لستم من بين هؤلاء. إنني في موضوع المعاناة دائنٌ بما يكفي كيلا أشغل بالي بالمتعيِّشين عليه على نحو رثٍّ. كل شيء خاضع للتناسُب، للمَراتِب، للهرَميّة. الأمر شبيهٌ بحالِ المجتمع. لا يمكننا أن نغيِّر فيه الكثير. الأغنياء سيبقون دوماً أغنياء، والفقراءُ فقراءَ. ولن تتوقف الأرض عن الدوران، والتطوُّرُ عن التطوُّر. انظروا أين صرتُ وأين صرتم. على مَن يقع الذنب؟ اعلموا بأن الإنسان هو المسؤول الأول عما يصيبه. تفَكَّروا في هذه النصيحة الصديقة أو المُعادية إذا شئتم. احذوا حذوي. لكي تجعلوا صحاريكم (ولديكم منها الكثير) تُزهر، ابدؤوا بنثر البذار بدرايةٍ في صحراء عقولكم. تخلَّصوا من حنينكم إلى عصر ذهبي ولّى من غيرِ رجعة. افتحوا أعينكم على واقعكم المبتذل. لستم سوى شبح شبحٍ تسَلَّطَ على تاريخٍ قديم. نحن في القرن الواحد والعشرين! ألم يقل لكم أحدٌ ذلك؟ سِيروا أو افطَسوا! أنا، أسير، وليست كلابُ قوافلِكم التائهةِ السلوقيَّةُ هي من سيوقفني. أساساً هي بالنسبة لكم حارسةٌ رديئةٌ لشدة سوءِ معاملتكم لها. أتَرون، إذا بحث الإنسان فإنه يجد دوماً من هو أضعف منه. المنفذ الذي تتدفق منه المخاوف والإحباطات. ولا أريد الكلام عما تُنزِلونه بنسائكم لأن القضية معروفة للغاية. أنتم الشرُّ لأن الشرَّ فيكم. لذا، ثقوا بي، فأنا جرّاحٌ متمكّن. بالأمس بغداد، واليوم جنين، نابلس، رام الله، وغداً يوم جديد. سيكون دورُ مَن؟

هذا النفق
طويلٌ طويل
ما هذا العصر
الذي يطحنُنا
في شاحنةِ قمامته
ما هذا الكوكب
الذي يغلق في وجوهنا
كلَّ أبوابه
ولا يترك لنا
من مخرج
سوى المسلَك الذي يجب فيه تقديمُ الدليل
على اليأس المطلق؟
يا ليلُ
أنتَ من جديد
أيها الملاذُ النادر
للحيارى
والمرعى الوحيد
للعين
ربما توجد
فوق إحدى نجماتكَ
روحٌ نقيّةٌ
شاهِدٌ منصِفٌ
ينظر إلينا
ويتألم من عجزه
على رفْعِ إصبعه الصغير
ربما لا يوجد شيء
وهذا الصمت النجميّ
يمتثل هو أيضاً
لقانون اللامبالاة الوضيع
كيف لنا أن نعرف؟
يا ليل
اِعطِ شيئاً ما
ولو ذرة وهمٍ
هذا البديلُ البخس للأمل
ولو شعاعاً
يمكن تمييزه من وعدٍ
وإن كان أشدّ الوعود ضبابيةً
ولو نفحةً
وإن كانت في غاية الخفة
تُحْيي رمادَ الروح قليلاً
ولكن رجاءً
جنِّبْنا الشفقة
كلُّه، إلاّ هذا

أفكر بكم
يا أصدقائي هناك
وفجأةً
لا أعود أعرف ما معنى تفكير
ما معنى كتابة
لقد أمسكَ الألمُ بالزمام
وراح يسوطُ حتى الموت
مطيَّةَ الجسد
تتقاربُ جدران النفق الداخلية
أختنق من اختناقكم
أحمي رأسي
مثلما رأيتُ أولادكم مرات كثيرة
يفعلون
أصرخ
لكي لا أرانا نُدفن أحياء
أرتجف
مثل أيِّ كائنٍ
ساعةَ الحقيقة
أؤمن في لحظة
وأكفُر في التالية
أبصق على لوح الوصايا
وأستنجدُ
بالفَناء
أزحف على غير هدىً
تحت أنقاضِ
البشريةِ المتوفاة
وأحياناً
يا للنعيم
أشكُّ بشدةٍ بوجودي
بِرَفَّةِ جفنٍ
أُلغي كلَّ شيء
أولاً ظَرفي كدودةِ أرض
وبَعدَهُ سِفر التكوين
يوم الحساب
مروراً بالمَطهر
بدون تردد
أمحو هذا الكاريكاتير
وفوق النَّوْلِ أضع من جديدٍ عملي
“المؤلف” كما يقال
أشعر بالكلام الفريد من نوعه
يصعد بداخلي
ولستُ رسولَ أحد
لا أقول للضوءِ
كُنْ
بل من فضلك
لا أقول للعدالةِ
اضرِبي
بل كوني عادلةً
لا أقول للجمال
استلْقِ
بل
اِسْطَعْ
مثل شمسٍ حرةٍ
من كل إكراه
لا أتوجَّهُ
إلى قبائل أو شعوب
وإنما فقط إلى أولئك
الذين يتألمون لألم الآخرين
ولا يتباهون بذلك
أهذي لهذيانكم
يا أصدقائي
سامحوني
النفق ما يزال هنا
طويل، طويل
سأبقى فيه طالما بقيتم
لأنني أنا أيضاً
لم “أخُن قصائدي”
“أناديكم
أشدُّ على أياديكم”


من ديوان يعِدُ الخريف (الأعمال الشعرية. دار ورد للنشر. دمشق. 2010)
ترجمة روز مخلوف

ثمة كاسر يقرأني

ثمة كاسر يقرأني
إنه قارئ ذو فطنةٍ شرسة
قارئ مثاليّ
لا يدع كلمةً
إلا ويزنُ ما كلفته من الدمِ
يرفع حتى الفاصلاتِ
ليكتشف ما تحتها من صفوةٍ
هو يعرف أن الصفحةَ تختلج
بتنفس بهيّ
يا له من انفعالٍ يجعلُ الفريسةَ
شهية مستسلمةً
ينتظر التعبَ
يسقط على الوجهِ
مثل قناعِ أضحية
يبحث عن الثغرةِ ينفذ منها:
هنا صفةٌ زائدةٌ
هناك تكرارٌ لا يُغفر
ثمة كاسر يقرأني
ليغتذي


لغة أمي

لم أرَ أمي منذ عشرينَ سنةً
استسلمتْ للموتِ جوعا من أجلي
يُروى أنها كانت ترفع كل صباحٍ نقاب الرأس
وتضرب به الأرضَ سبع مراتٍ
وهي تلعن السماءَ والطاغيةَ
كنتُ في الكهفِ
هناك حيث المحكومُ يقرأ في الظلال
ويرسمُ على الجنبات حيواناتِ الآتي
لم أرَ أمي منذ عشرين سنة
تركت لي طَقماً صينيا للقهوةِ
تتكسَّرُ فناجينُه الواحدُ بعدَ الآخر
لا آسفُ عليها لبشاعتها
ومع ذلك يزدادُ حبي للقهوة
اليوم، حين أكون وحيدا
أقلّد صوتَ أمي
بالأحرى، تتكلم أمّي بلساني
بشتمائها، بلعناتِها، بكلامها البذيءِ
بسيلها الضائعِ من أسماءِ التصغير
بكل هذه الكلمات المهددةِ بالانقراض
لم أرَ أمي منذ عشرين سنةً
لكني آخرُ إنسانٍ في الأرض
لا يزال يتكلّم لغتها
الغُراب
أيها الغُرابُ
لماذا جئتَ تحط على غصني الوحيد؟
ابتعدْ
دعني أحيَى حياةَ الطيرِ
على غصني الوحيدِ
أُذكّره بما وَعَدَ به من براعم
وأمدّه بما بقي لي من نسغ
أيها الغرابُ
لماذا جئتَ تنقر ثمرتي الأَخيرةَ؟
ابتعدْ
أيها الغرابُ
واترك لي ذكرى فصلٍ رائعٍ
كنت فيه أغنّي للخليقَة جمعاءَ
وأجدُ صوتي جميلا
أيها الغرابُ
لماذا تحرمُني من غصني
مما إِخَالُهُ غصني
وتحكم عليّ بالقضبان الأبدية؟


الذئاب

إنني أسمع الذئابَ
ينعمون بالدفءِ في منازلهم الريفيةِ
يشاهدون التلفزيونَ بنَهمٍ
يمضون ساعاتٍ في عدّ الجثث بصوتٍ عال
وينشدون بأعلى صوتِهم أَلحانَ الإعلاناتِ
إنني أرى الذئابَ
يأكلون جماعاتٍ طريدَةَ اليوم
ينتخبون يهوذا برفع الأيدي
خلال ساعات، يشربون دماً قرويا
لا يزال فتيا، طريَّ النكهة
محلولَ الإزار
دمَ أرضٍ تهجعُ فيها مدافن العظم
إنني أسمع الذئابَ
في منتصف الليل يطفئون الأنوارَ
ويغتصبون نساءَهم شرعاً


ساعةُ الحائط

الثواني تسقط كالحَصى
من جوفِ الساعة العقيم
الرَّقَّاص يتقطر
في شَدْق قط أسود
نصفه أزتيكيٌّ ونصفه كَلداني
في الموقدِ، النار تحيي قدّاسَها القديمَ
وحين تصل إلى مشهد الإمامِ
المقتولِ غدراً في العراق
تمد لسانا لاذغا مخضّبا بالدمِ
بطول خنجر الجريمةِ
الثواني تسقط كالحصى
من جوف الساعةِ العقيم
الرّقّاص يتقطر
اختفى القط
بابٌ تُرك مفتوحا
يتلاعبُ به الريح
يُنشدُ تراتيلَ الثأر
لماذا حكم عليَّ بهذه الساعة
ماهو المطلوبُ مني
أن أنزلها عن الحائط
وأصلبَ نفسي مكانها
حتى عودة الإمام؟


عبثا أهاجر

عبثاً أهاجرُ
في كل مدينةٍ أشرب القهوةَ ذاتَها
أسلم بالوجه المقفلِ للنادل
ضحكاتُ زبائنِ الطاولة المجاورة
تشوّه موسيقى المساء
تعبر امرأةٌ للمرةِ الأخيرة
عبثا أهاجرُ
وأتحقق من ابتعادي
في كل سماءٍ أعثر على هلالٍ
على الصمتِ المعاندِ للنجوم
أتكلَّم في نومي
مزيجا من اللغاتِ
ومن صراخِ الحيوانِ
الغرفةُ التي أستيقظ فيها
هي ذاتُها التي فيها ولدتُ
عبثا أهاجرُ
سرُّ الطيور مغلق عليَّ
وكذلك سرُّ هذه الجاذبيةِ
التي تَمسُّ حقيبتي
في كلِّ محطةٍ


ساعتان في القطار

خلال ساعتينِ في القطار
أستعرضُ شريطَ حياتي
أمنحُ كل سنةٍ دقيقتين
نصفَ ساعة للطفولة
ونصفاً آخرَ للسجن
الحبُّ والكتبُ والتسكعُ
تتقاسم ما تبقّى
شيئا فشيئاً
يدُ رفيقتي تذوبُ في يدي
ورأسها على كتِفي
في خفة يمامةٍ
عند وصولنا
أكون بلغتُ الخمسينَ
وقد بقي لي من العمرِ
حوالي الساعة


المـدعوون

مائدتي جاهزةٌ والمدعوونَ تأخروا عن الموعد. هل نسيوا دعوتي، هل أضاعوا عنواني، هل حصلَ لهم مكروهٌ؟ منذ ساعاتٍ أنتظر “وأذني على الباب”. لا أعرف كم سيكونُ عددُ مدعوويَّ، هل هم في ثيابِ الصيف أم في ثياب الشتاء، بأيِّ لغةٍ سيلقون عليّ التحيةَ عند دخولهم. مائدتي جاهزةٌ. سأنتظر ما يلزمُ من الوقتِ وما لا يلزم. وإذا كنت ضحيةَ وهمٍ، سأُصرُّ على وهمي. سأخترع صداقاتٍ نادرةً ووُجوهاً منفتحةً، سهلة القراءة مثل كتب الأطفال. أختلق أصواتا بلكنات عذبة وأفواها دقيقة تقسم حتى حبة الكسكس.
مائدتي جاهزةٌ صَفَفْتُ عليها بمحبة كل ما أملكه من معارفي. الموسيقى تعينني على تحمل الانتظار. إنها تَنْفَحُ يخنتي بالرقة، تمنح اللمعانَ لحبات الزيتون وتطلق عرف توابلي.
أخيرا، أسمع وقعَ خطى. أنهض لكي أفتحَ لكنَّ البابَ يطير شظايا. هل هؤلاء هم مدعوويّ؟ رجالٌ بلا وجوه يدخلون شاهري السلاح. لا ينتبهونَ لوجودي. يطلقون النارَ على المائدةِ حتى تصير حطاماً، ثم ينسحبون من دون أن ينبِسوا بكلمة. تتوقف الموسيقى. حسناً، لم يبق أمامي سوى تنظيفِ المكانِ وتحضير مائدةٍ جديدة.


تمرين لمحلل نفسي

يتذكرُ قارئي المُخلصُ حتما حُلم الرجل “الحامل” الذي رويته في كتابٍ سابق.
هذا الحلم عاودني في صورةٍ أخرى. وإذا كان قد عاودني، فلأنه يستجيبُ لتركيبةٍ ما في بِنيتي النفسيةِ ومن شأنه أن يكشف عن وجود انفعالاتٍ أو أمور مكبوتة أو استيهامات لا أرغب مطلقا في الاستفاضة فيها. سأَعرض الحلمَ إذن كما هُوَ، مُفَكِّرا أوّلا بما قد يجده فيه القارئ من متعة، وبعد ذلك بما قد يحمله للمحلل النفسي من مادة للاختبار. هذه هي، إذن، وقائعُ الحلم.
كان في هذا الحلم مشاهدُ عدّةٌ لم أعد أذكر منها سوى الأخير. كنت “حاملا” وقد أدركتني الآلامُ الأولى للمخاض. كيف أصفُ حالتي النفسية؟ لم أكن خائفاً، لا، بل بصراحة كنت أريد هذا الولدَ الذي سيرى النور. ثم إنني كنت قد تأكدتُ سَلَفا من أنني لست ضحيةَ وهمٍ وأن الولد هو فعلا في بطني وليس في ساقي، مثلا، كما حصل لبطل حكايةٍ كانت ترويها لي أمي، حين قَضَمَ الرجلُ “تفاحة حَبَل” كانت زوجة العاقر حصلت عليها من ساحرةٍ. لا، حَبَلي كان طبيعيا إلى أقصى حدٍّ، وعليَّ أن أتحملَ مسؤوليتَه، أولا حيال زوجتي التي ترقد بهدوءٍ إلى جانبي، ثم حيال أولادي وأصدقائي، وبعد ذلك بالطبع حيال الرأي العام، لأنه لم يكن في وسعي، حتى في الحلمِ، أن أتهربَ من وضعي كشخصية عامة. لكنَّ تشنجاتِ الوضعِ، التي صارت أكثر إلحاحا، جعلتني أنسى فترةً هذه الهموم. لم يعد لي من تفكيرٍ سوى في الطفل، في وجهه، في عينه، في أناملِه الصغيرة ذاتِ الأظافر الطويلة الشفافة. كنت أفكر أيضا في الاسم الذي سأمنحه إيّاه. وسرعان ما طغت هذه المعضلة على ما تبقّى. عثرت على أسماء في غايةِ الغرابة. من الأسماء المؤنثة: أجنحة الفجر. ذات–السنّ– الوحيد. وحودة. سافرة. العبدة البيضاء. ومن الأسماء المذكّرة، اخترت فقط أسماء الأشجار: مَيس. جَكَرَنْدة. مَنْيُولميا. بلاتان. صفصاف–ضاحك.
كنت عند هذا الحد من بحثي حين… تراك ! سقط الولدُ وخرجَ من بطني كفطيرة من السّكر. ارتفعت الزغاريدُ من حولي وتعرفت بينها على صوت رفيقتـي. طغت زغرداتها شيئا فشيئا على الأصوات الأخرى ولم تعد تتوقف. آه. كنت سعيدا، يا أصدقائي. كان قلبي يختلجُ مثل نسرٍ يتهيّأ للتحليق. كنت أقول في نفسي، فخورا: أخيرا، سأصير مساوياً للمرأة!
على هذا انتهى حلمي. كانت الساعة المنبهة تطلق زغاريدَها الإلكترونيةَ. فتحتُ عينيّ رغما عني على واقع مبتذل، قاسٍ، يتمثل في انتصابٍ عادي.

الشجرة ذات الأشعار

أنا الشجرةُ ذاتُ الأشعار. يقول العلماءُ إنني أنتمي إلى جنسٍ في طريق الانقراض. ومع ذلكَ لا أحدَ يهتمُّ لمصيره في حين أُطلقت الحملاتُ مؤخرا لإنقاذ حيواناتِ الـ “بندا” في نيبال والفيلةِ في أفريقيا.
مسألةُ مصلحةٍ، يقول البعضُ. أنا أقول إنها مسألةُ ذاكرة. من حينٍ لآخرَ، تبلغ ذاكرةُ الناس حالةَ الإشباع. عندها يتخفّفون من الأمور الأكثر إرباكاً، يُخْلون مكانا في ترقّب ما هو جديد، هم المتعطشونَ إلى الجديد.
الماهيات القديمةُ لم تعد دارجَةً هذه الأيام. اخْترعوا أشجاراً تنمو بسرعة، تكتفي بما يُقدم لها من مقاديرِ الماء والشمس، تمارس مهنةَ الشجر بصمتٍ، وبلا هواجس.
أنا الشجرةُ ذات الأشعار، حاولوا مرارا أن يغيّروا في تركيبي فلم ينجحوا. أنا من جنسِ العُصاة، أنا سيّد تحولاتي. لا تؤثر فيَّ تقلبات الفصول والحِقب. أُنتج كل مرَّةٍ ثمرا مختلفا. مرة أضع فيه رحيق الزهر ومرة أخرى رحيق المرارة. وحين أرى نشالا من بعيد أشبعه رشقا بالشوك. أحيانا أتساءل: هل أنا فعلا شجرة؟ وأخشى أن آخذَ في المشي، أن أتكلَّمَ اللغة الكئيبة للجنس المخادع، أن أستولي على فأس أهوي بها على جذوع الضعيفات من جاراتي. عندَ هذا الحدِّ، أتشبَّث بجذوري، بكل ما أوتيتُ من قوةٍ. في عُروقها اللامتناهية أرتقي مجرى الكلامِ حتى الصرخةِ الأولى. أفكِّكُ نسيجَ اللغاتِ، أمسك طرفَ الخيط وأسحب لكي أُطلقَ الضوءَ والموسيقى. تخضعُ الصورة لي، أصنعُ منها البراعمَ التي تروقُ لي وأضربُ موعداً للزهر. كل هذا يحصُلُ ليلا وبالتواطؤِ مع النجومِ ومع الطيور القليلة التي اختارتِ الحُرِّيَةَ.
أنا الشجرةُ ذات الأشعار. أهزأُ بالزائل وبالأبديّ.
أنا حيٌّ.

من ديوان الشمس تُحتضر ( دار توبقال. الدار البيضاء. 1993)
ترجمة إلياس حنا إلياس

شجون الدار البيضاء

1
عندما كنت أعاني من البرد والجوع
(نعم .. لقد عانيتُ
أيُزعجكم ذلك؟)
كانت الحياة عذبةً
وأرَقي خِصْباً
كلَّ ليلة
كنت أفكر بالآخرين
(بالمستضعفين
أيزعجكم ذلك؟)
وكل صباحٍ
كانت تأتي لزيارتي
شمسٌ أخوية
وتضع على وسادتي
قطعتين أو ثلاثا من السُّكر.

2
بحاجة إلى مهلة
تجُودونَ بها عليَّ
لأفتح نافذةً
وأُطلّ على زمنٍ لمْ أزُرْهُ بعْدُ
على جزيرة الجسد الفاتن
وهي تهبُني ذاتها بكُلّ جوارحها.
سأدفع بتلك النّافذة الزرقاءِ
سأفعل ذلك بسرعة
قبل أن تُغلق
ولن أبوح بما أراهُ
ما سأشعر به سيلتحق بالسّرِّ.
لو أنكم فقط تمنحونني هذه المُهلةَ
سأجعلكم متعطشين للّغْز.

3
يبتكرُ الشّاعرُ وردةً
لكنه لا يعرف أي لون يعطيها
ماهو لون السرِّ؟
دفْءٌ في تجويف الأذن؟
وجهٌ مشعٌّ لأبٍ
انتزعه الموت العذابُ؟
تجاعيدٌ وليدة في خاصرة الحبيبة؟
لا شيءَ من هذا يحدِّد لونا.
سيبقى ابتكار شاعرنا إذنْ
ناقصا.

4
كان لديَّ ينبوعٌ
وكنت ضنينا على نفسي بمائه
كنت أومن حتى العظم بالمشاركة
ولمْ أشكَّ قطُّ بإخلاصِ ينبوعي
حتى ذلك اليومِ
حيث أعرض عنِّي
مُغدقا طيِّباته على الآخرين.
هل علينا أن نستنفد ما نحبُّ
لنحتفظ به؟

5
على ما يبدو
أن باب الجحيم
يُجاور باب الفردوس
صنعهما النجار الأكبر
من الخشب العادي نفسه.
الرّسام الأعظمُ
طلاهما دون إتقان
بلون واحد.
كيف نميز بينهما
في هذه الظلمات؟
ألديك المفاتيح؟
أي منها المناسب؟
لكن
لم تخاطر بفتح
ما لا يُفضي
رُبما
سوى إلى العدم؟

6
كنت أتوقُ إلى سكينة الرُّوح
أنتظر منكم يا شياطين الكلمة
مقاطع ترتخي بدَعَةٍ
رؤىً صافيةً
صوتا مبحُوحًا بحبُورٍ
سعادات صغيرة
لا عليك .. خذْ منها ما تشاء.
سكينة الروح لم تُقْبِل
ليس هذا ذنبكم
يا شياطين الكلمة
مرة أخرى التَبَسَ عليَّ عمري.
أيُدهِشكم ذلك؟

7
في الليل
ما يشابه البلاد
يغيب عن نفسه
يُبْرزُ فكّيْه
ليَتَلَقَّفَ صورا كبْريتيَّة
لمجرَّات موعودة.
إنه يشربُ.. يأكلُ.. ويَسْتَمْنِي
على نفقة الأميرة
وعندما
في الفجر
ينادي المؤذن إلى الصَّلاة
فإنه يبدأ بالشخير
تماما كأي زنديق.

8
أُسْدلُ السَّتائر
لأدخنى كما يروق لي
أُسْدلُ السَّتائرَ
لأشرب قدحا
نخب أبي نوّاس
أُسْدلُ السَّتائر
لأقرأ آخر كتاب لرُشدي
وقريبا .. من يدري؟
ربما سيتوجَّب عليَّ أن أنزل إلى القَبْو
أن أغلق عليَّ الباب بإِحْكَامٍ
لأتمكَّنَ من التفكير
كما يروق لي.

9
الحراس في كل مكان
يسيطرون على المزابل
على الكراجات
وصناديق البريد.
الحراس في كل مكان
في الزجاجات الفارغة
تحت اللسان
خلف المرايا.
الحراس في كل مكان
ما بين اللَّحم والظِّفْر
ما بين الأنف والوردة
ما بين العين والنظرة.
الحراس في كل مكان
في الغبار الذي نبتلعه
في اللقمة التي نتقيّؤُها.
الحراس في كل مكان
بهذه الوتيرة
سيأتي يومٌ
نصبح فيه جميعا شعبا من الحراس.

10
ماذا ترى في الأسود؟
تأمل جيدا
اعتبر الأسود
لونا
كالأصفر أو الليْلكيّ
تخيل أن يد فنان
بسطته
ثم غادرت اللَّوحة
توحّدْ مع حركتها
والآن
هل تُدرك
أن الأسود
هو الذي يتأمل فيك.

11
الدوار يأخذ مكانه
الفوضى تدفع بأمواجها
السَّديمُ ذو ألوانٍ
وعين واحدة.
العشاق يلهثون
في فراش من الطِّين والقيظ
تفاحةٌ لا تتوقف عن السقوط
أعطي اسمٌ للماء
ثم للنار
الخلق يتردَّدُ
ما بين السِّلاح المُطلق
وأجملِ حملٍ في العالم
من يستطيع
أن يتكهن التتمة؟

12
لماذا يخبِط الحصان برأسه
باب حظيرته المفتوح؟
وتعلِّق رفيقتُك:
«يريد فقط أن نُغلق الباب»
تفسيرٌ لم يعترض أحد عليه
الآن
تُعيد طرح السُّؤال على نفسك:
لماذا يخبط الحصان برأسه
باب حظيرته المفتوح؟
لا تملك أيَّ جواب
غير أنك تكتشفُ
برُعْب
أنه كان لديك دائماً
رأس حصان.

من ديوان شجون الدار البيضاء (دار توبقال. الدار البيضاء. 1998)
ترجمة عائشة أرناؤوط