النفق (فلسطين 10 أبريل، نيسان، 2002)

زوبعةُ هذا الصباح
تُسطِّرُ بالأحمر
آخِرَ تحليقٍ غنائيٍّ لي
ما هذه العاصفة المُعاكِسة
التي تغويني
وهي تُرضِعُني
وفي نهاية كل دورة
تتفنَّنُ
في تأجيل فطامي؟
وإنها لَمعجزةٌ
أن الرحلة تتواصل
وأنَّ شيئاً حيوياً
لم يتحطَّم
في سباق الحواجز هذا
بحثاً عن بصيص الضوء
المنبعث من آخرِ النفق
النفق
ها هوذا من جديد
طويلٌ، طويل
فوق أرضٍ أخرى
لا يستطيع فيها الناسُ
حتى أن يدفنوا موتاهم
أسْميتُكِ
يا فلسطين!
أفكر بكم
يا أصدقائي هناك
الذين ترجمْتُ قصائدَهم
“أناديكم
أشدُّ على أياديكم”
ثم أشعر بالغباء
ماذا لديّ لأقوله
مما قد تقولونه أنتم
ليس بطريقة أفضل
بل بمادَّةٍ مختلفة من الكلمات:
بياضُ الرعب، الذي يتعذَّر سبره
سوادُ الدم، الذي يتعذّر مَحْوُه
أرجوانيُّ الحلم المغتَصَب
رماديُّ الأنقاض، المسمومُ
الأصفرُ المعتوهُ للَّحمِ المحروقِ،
أخضرُ السيْلِ الظالمِ للدموع
أزرقُ اللعنات الثمِلُ؟
أفكر بكم يا أصدقائي
بضحكاتنا الهوميرية
في لحظاتٍ ترويحية نادرة
منَحَها المنفى
لمناظراتنا المثقَّفة
كي نحتفل بالنبيذ الفرنسي
والمرأة المذهلة
التي تَقاسمْناها بالعدل
في هذياناتنا الملْفِتة
كـ ذُكوريّين تائبين
أفكر بلغتكم العربية الكريستاليّة
التي تعلَّمتُها
حباً بكم
بجواز السفر السورياليّ ذاك
الذي تحملونه
الذي طلبتُه قديماً
ولم تمنحوني إياه بعد
أفكر بأبنائكم
الموسيقيين جميعاً تقريباً
الذين رضِعوا الكبرياءَ
ذوي العيون التي تلتمع بأشدِّ ألقٍ
أُتيح لي أن أشهد عليه
أفكر بأمهاتكم
وهنَّ يحرمن الرجالَ من البسْتَنة
حارساتِ الزعتر
وسرِّ صابونِ نابلس
أفكر بآبائكم
بوجوههم المنحوتة
في صخرِ جبل الزيتون
أفكر بالقدس
حين ظنَّ الرسامُ الصديقُ
المولودُ فيها
بأنه رآها يوماً بصحبتي
من أعلى المَرينيين في فاس
أفكر بكم
وأنتم تفتقرون إلى الماء، إلى الخبز
والأفدح من ذلك
إلى مكتَباتِكم مبقورةِ البطون
مخطوطاتكم الممرَّغة بالأقدام
أفكر بكم
وأنتم تستضيئون بشمعةِ
الأملِ
الهشة
لأنكم لم “تخونوا قصائدَكم”
أفكر بكم: أحمد، فدوى
غسان، إبراهيم، عزّت، جمال
خيري، ليانا، محمود، محمد
مُريد، نِدى، رشاد، سحر
سميح، وليد، يحيى
أفتح كتُبَكم
أمسح بيدي فوق الإهداءات
المكتوبةِ بعناية
وأفكرُ
بكياستكم الفريدة
“أناديكم
أشدُّ على أياديكم”.

هذا النفق
الطويل الطويل
الجاثمُ فوق الصدْعِ البشريّ
إننا محجوزون فيه كما في السجون الاعتيادية، بأيدٍ مكبَّلة خلف الظهر، وأرقام فوق الأذرُع، وعيون معصوبة. لا جديد في بروتوكول الإذلال. هذه الصناعة لا تستطيع العمل إلا في المحاكاة: أُنزِلُ بكَ ما أُنزِلَ بي. إذا لم تكن شقيقَ الذئب، فأنت ابنُ عمِّه. إنه قانونٌ
قاسٍ أنْ تُنْكِرَ لكي تُوجَد، ولكنّ السماء هي التي أقرَّتْهُ لصالحِ مَحمِيِّيها أو مُختاريها.
للأسف، أنتم لستم من بين هؤلاء. إنني في موضوع المعاناة دائنٌ بما يكفي كيلا أشغل بالي بالمتعيِّشين عليه على نحو رثٍّ. كل شيء خاضع للتناسُب، للمَراتِب، للهرَميّة. الأمر شبيهٌ بحالِ المجتمع. لا يمكننا أن نغيِّر فيه الكثير. الأغنياء سيبقون دوماً أغنياء، والفقراءُ فقراءَ. ولن تتوقف الأرض عن الدوران، والتطوُّرُ عن التطوُّر. انظروا أين صرتُ وأين صرتم. على مَن يقع الذنب؟ اعلموا بأن الإنسان هو المسؤول الأول عما يصيبه. تفَكَّروا في هذه النصيحة الصديقة أو المُعادية إذا شئتم. احذوا حذوي. لكي تجعلوا صحاريكم (ولديكم منها الكثير) تُزهر، ابدؤوا بنثر البذار بدرايةٍ في صحراء عقولكم. تخلَّصوا من حنينكم إلى عصر ذهبي ولّى من غيرِ رجعة. افتحوا أعينكم على واقعكم المبتذل. لستم سوى شبح شبحٍ تسَلَّطَ على تاريخٍ قديم. نحن في القرن الواحد والعشرين! ألم يقل لكم أحدٌ ذلك؟ سِيروا أو افطَسوا! أنا، أسير، وليست كلابُ قوافلِكم التائهةِ السلوقيَّةُ هي من سيوقفني. أساساً هي بالنسبة لكم حارسةٌ رديئةٌ لشدة سوءِ معاملتكم لها. أتَرون، إذا بحث الإنسان فإنه يجد دوماً من هو أضعف منه. المنفذ الذي تتدفق منه المخاوف والإحباطات. ولا أريد الكلام عما تُنزِلونه بنسائكم لأن القضية معروفة للغاية. أنتم الشرُّ لأن الشرَّ فيكم. لذا، ثقوا بي، فأنا جرّاحٌ متمكّن. بالأمس بغداد، واليوم جنين، نابلس، رام الله، وغداً يوم جديد. سيكون دورُ مَن؟

هذا النفق
طويلٌ طويل
ما هذا العصر
الذي يطحنُنا
في شاحنةِ قمامته
ما هذا الكوكب
الذي يغلق في وجوهنا
كلَّ أبوابه
ولا يترك لنا
من مخرج
سوى المسلَك الذي يجب فيه تقديمُ الدليل
على اليأس المطلق؟
يا ليلُ
أنتَ من جديد
أيها الملاذُ النادر
للحيارى
والمرعى الوحيد
للعين
ربما توجد
فوق إحدى نجماتكَ
روحٌ نقيّةٌ
شاهِدٌ منصِفٌ
ينظر إلينا
ويتألم من عجزه
على رفْعِ إصبعه الصغير
ربما لا يوجد شيء
وهذا الصمت النجميّ
يمتثل هو أيضاً
لقانون اللامبالاة الوضيع
كيف لنا أن نعرف؟
يا ليل
اِعطِ شيئاً ما
ولو ذرة وهمٍ
هذا البديلُ البخس للأمل
ولو شعاعاً
يمكن تمييزه من وعدٍ
وإن كان أشدّ الوعود ضبابيةً
ولو نفحةً
وإن كانت في غاية الخفة
تُحْيي رمادَ الروح قليلاً
ولكن رجاءً
جنِّبْنا الشفقة
كلُّه، إلاّ هذا

أفكر بكم
يا أصدقائي هناك
وفجأةً
لا أعود أعرف ما معنى تفكير
ما معنى كتابة
لقد أمسكَ الألمُ بالزمام
وراح يسوطُ حتى الموت
مطيَّةَ الجسد
تتقاربُ جدران النفق الداخلية
أختنق من اختناقكم
أحمي رأسي
مثلما رأيتُ أولادكم مرات كثيرة
يفعلون
أصرخ
لكي لا أرانا نُدفن أحياء
أرتجف
مثل أيِّ كائنٍ
ساعةَ الحقيقة
أؤمن في لحظة
وأكفُر في التالية
أبصق على لوح الوصايا
وأستنجدُ
بالفَناء
أزحف على غير هدىً
تحت أنقاضِ
البشريةِ المتوفاة
وأحياناً
يا للنعيم
أشكُّ بشدةٍ بوجودي
بِرَفَّةِ جفنٍ
أُلغي كلَّ شيء
أولاً ظَرفي كدودةِ أرض
وبَعدَهُ سِفر التكوين
يوم الحساب
مروراً بالمَطهر
بدون تردد
أمحو هذا الكاريكاتير
وفوق النَّوْلِ أضع من جديدٍ عملي
“المؤلف” كما يقال
أشعر بالكلام الفريد من نوعه
يصعد بداخلي
ولستُ رسولَ أحد
لا أقول للضوءِ
كُنْ
بل من فضلك
لا أقول للعدالةِ
اضرِبي
بل كوني عادلةً
لا أقول للجمال
استلْقِ
بل
اِسْطَعْ
مثل شمسٍ حرةٍ
من كل إكراه
لا أتوجَّهُ
إلى قبائل أو شعوب
وإنما فقط إلى أولئك
الذين يتألمون لألم الآخرين
ولا يتباهون بذلك
أهذي لهذيانكم
يا أصدقائي
سامحوني
النفق ما يزال هنا
طويل، طويل
سأبقى فيه طالما بقيتم
لأنني أنا أيضاً
لم “أخُن قصائدي”
“أناديكم
أشدُّ على أياديكم”


من ديوان يعِدُ الخريف (الأعمال الشعرية. دار ورد للنشر. دمشق. 2010)
ترجمة روز مخلوف