ثمة كاسر يقرأني

ثمة كاسر يقرأني
إنه قارئ ذو فطنةٍ شرسة
قارئ مثاليّ
لا يدع كلمةً
إلا ويزنُ ما كلفته من الدمِ
يرفع حتى الفاصلاتِ
ليكتشف ما تحتها من صفوةٍ
هو يعرف أن الصفحةَ تختلج
بتنفس بهيّ
يا له من انفعالٍ يجعلُ الفريسةَ
شهية مستسلمةً
ينتظر التعبَ
يسقط على الوجهِ
مثل قناعِ أضحية
يبحث عن الثغرةِ ينفذ منها:
هنا صفةٌ زائدةٌ
هناك تكرارٌ لا يُغفر
ثمة كاسر يقرأني
ليغتذي


لغة أمي

لم أرَ أمي منذ عشرينَ سنةً
استسلمتْ للموتِ جوعا من أجلي
يُروى أنها كانت ترفع كل صباحٍ نقاب الرأس
وتضرب به الأرضَ سبع مراتٍ
وهي تلعن السماءَ والطاغيةَ
كنتُ في الكهفِ
هناك حيث المحكومُ يقرأ في الظلال
ويرسمُ على الجنبات حيواناتِ الآتي
لم أرَ أمي منذ عشرين سنة
تركت لي طَقماً صينيا للقهوةِ
تتكسَّرُ فناجينُه الواحدُ بعدَ الآخر
لا آسفُ عليها لبشاعتها
ومع ذلك يزدادُ حبي للقهوة
اليوم، حين أكون وحيدا
أقلّد صوتَ أمي
بالأحرى، تتكلم أمّي بلساني
بشتمائها، بلعناتِها، بكلامها البذيءِ
بسيلها الضائعِ من أسماءِ التصغير
بكل هذه الكلمات المهددةِ بالانقراض
لم أرَ أمي منذ عشرين سنةً
لكني آخرُ إنسانٍ في الأرض
لا يزال يتكلّم لغتها
الغُراب
أيها الغُرابُ
لماذا جئتَ تحط على غصني الوحيد؟
ابتعدْ
دعني أحيَى حياةَ الطيرِ
على غصني الوحيدِ
أُذكّره بما وَعَدَ به من براعم
وأمدّه بما بقي لي من نسغ
أيها الغرابُ
لماذا جئتَ تنقر ثمرتي الأَخيرةَ؟
ابتعدْ
أيها الغرابُ
واترك لي ذكرى فصلٍ رائعٍ
كنت فيه أغنّي للخليقَة جمعاءَ
وأجدُ صوتي جميلا
أيها الغرابُ
لماذا تحرمُني من غصني
مما إِخَالُهُ غصني
وتحكم عليّ بالقضبان الأبدية؟


الذئاب

إنني أسمع الذئابَ
ينعمون بالدفءِ في منازلهم الريفيةِ
يشاهدون التلفزيونَ بنَهمٍ
يمضون ساعاتٍ في عدّ الجثث بصوتٍ عال
وينشدون بأعلى صوتِهم أَلحانَ الإعلاناتِ
إنني أرى الذئابَ
يأكلون جماعاتٍ طريدَةَ اليوم
ينتخبون يهوذا برفع الأيدي
خلال ساعات، يشربون دماً قرويا
لا يزال فتيا، طريَّ النكهة
محلولَ الإزار
دمَ أرضٍ تهجعُ فيها مدافن العظم
إنني أسمع الذئابَ
في منتصف الليل يطفئون الأنوارَ
ويغتصبون نساءَهم شرعاً


ساعةُ الحائط

الثواني تسقط كالحَصى
من جوفِ الساعة العقيم
الرَّقَّاص يتقطر
في شَدْق قط أسود
نصفه أزتيكيٌّ ونصفه كَلداني
في الموقدِ، النار تحيي قدّاسَها القديمَ
وحين تصل إلى مشهد الإمامِ
المقتولِ غدراً في العراق
تمد لسانا لاذغا مخضّبا بالدمِ
بطول خنجر الجريمةِ
الثواني تسقط كالحصى
من جوف الساعةِ العقيم
الرّقّاص يتقطر
اختفى القط
بابٌ تُرك مفتوحا
يتلاعبُ به الريح
يُنشدُ تراتيلَ الثأر
لماذا حكم عليَّ بهذه الساعة
ماهو المطلوبُ مني
أن أنزلها عن الحائط
وأصلبَ نفسي مكانها
حتى عودة الإمام؟


عبثا أهاجر

عبثاً أهاجرُ
في كل مدينةٍ أشرب القهوةَ ذاتَها
أسلم بالوجه المقفلِ للنادل
ضحكاتُ زبائنِ الطاولة المجاورة
تشوّه موسيقى المساء
تعبر امرأةٌ للمرةِ الأخيرة
عبثا أهاجرُ
وأتحقق من ابتعادي
في كل سماءٍ أعثر على هلالٍ
على الصمتِ المعاندِ للنجوم
أتكلَّم في نومي
مزيجا من اللغاتِ
ومن صراخِ الحيوانِ
الغرفةُ التي أستيقظ فيها
هي ذاتُها التي فيها ولدتُ
عبثا أهاجرُ
سرُّ الطيور مغلق عليَّ
وكذلك سرُّ هذه الجاذبيةِ
التي تَمسُّ حقيبتي
في كلِّ محطةٍ


ساعتان في القطار

خلال ساعتينِ في القطار
أستعرضُ شريطَ حياتي
أمنحُ كل سنةٍ دقيقتين
نصفَ ساعة للطفولة
ونصفاً آخرَ للسجن
الحبُّ والكتبُ والتسكعُ
تتقاسم ما تبقّى
شيئا فشيئاً
يدُ رفيقتي تذوبُ في يدي
ورأسها على كتِفي
في خفة يمامةٍ
عند وصولنا
أكون بلغتُ الخمسينَ
وقد بقي لي من العمرِ
حوالي الساعة


المـدعوون

مائدتي جاهزةٌ والمدعوونَ تأخروا عن الموعد. هل نسيوا دعوتي، هل أضاعوا عنواني، هل حصلَ لهم مكروهٌ؟ منذ ساعاتٍ أنتظر “وأذني على الباب”. لا أعرف كم سيكونُ عددُ مدعوويَّ، هل هم في ثيابِ الصيف أم في ثياب الشتاء، بأيِّ لغةٍ سيلقون عليّ التحيةَ عند دخولهم. مائدتي جاهزةٌ. سأنتظر ما يلزمُ من الوقتِ وما لا يلزم. وإذا كنت ضحيةَ وهمٍ، سأُصرُّ على وهمي. سأخترع صداقاتٍ نادرةً ووُجوهاً منفتحةً، سهلة القراءة مثل كتب الأطفال. أختلق أصواتا بلكنات عذبة وأفواها دقيقة تقسم حتى حبة الكسكس.
مائدتي جاهزةٌ صَفَفْتُ عليها بمحبة كل ما أملكه من معارفي. الموسيقى تعينني على تحمل الانتظار. إنها تَنْفَحُ يخنتي بالرقة، تمنح اللمعانَ لحبات الزيتون وتطلق عرف توابلي.
أخيرا، أسمع وقعَ خطى. أنهض لكي أفتحَ لكنَّ البابَ يطير شظايا. هل هؤلاء هم مدعوويّ؟ رجالٌ بلا وجوه يدخلون شاهري السلاح. لا ينتبهونَ لوجودي. يطلقون النارَ على المائدةِ حتى تصير حطاماً، ثم ينسحبون من دون أن ينبِسوا بكلمة. تتوقف الموسيقى. حسناً، لم يبق أمامي سوى تنظيفِ المكانِ وتحضير مائدةٍ جديدة.


تمرين لمحلل نفسي

يتذكرُ قارئي المُخلصُ حتما حُلم الرجل “الحامل” الذي رويته في كتابٍ سابق.
هذا الحلم عاودني في صورةٍ أخرى. وإذا كان قد عاودني، فلأنه يستجيبُ لتركيبةٍ ما في بِنيتي النفسيةِ ومن شأنه أن يكشف عن وجود انفعالاتٍ أو أمور مكبوتة أو استيهامات لا أرغب مطلقا في الاستفاضة فيها. سأَعرض الحلمَ إذن كما هُوَ، مُفَكِّرا أوّلا بما قد يجده فيه القارئ من متعة، وبعد ذلك بما قد يحمله للمحلل النفسي من مادة للاختبار. هذه هي، إذن، وقائعُ الحلم.
كان في هذا الحلم مشاهدُ عدّةٌ لم أعد أذكر منها سوى الأخير. كنت “حاملا” وقد أدركتني الآلامُ الأولى للمخاض. كيف أصفُ حالتي النفسية؟ لم أكن خائفاً، لا، بل بصراحة كنت أريد هذا الولدَ الذي سيرى النور. ثم إنني كنت قد تأكدتُ سَلَفا من أنني لست ضحيةَ وهمٍ وأن الولد هو فعلا في بطني وليس في ساقي، مثلا، كما حصل لبطل حكايةٍ كانت ترويها لي أمي، حين قَضَمَ الرجلُ “تفاحة حَبَل” كانت زوجة العاقر حصلت عليها من ساحرةٍ. لا، حَبَلي كان طبيعيا إلى أقصى حدٍّ، وعليَّ أن أتحملَ مسؤوليتَه، أولا حيال زوجتي التي ترقد بهدوءٍ إلى جانبي، ثم حيال أولادي وأصدقائي، وبعد ذلك بالطبع حيال الرأي العام، لأنه لم يكن في وسعي، حتى في الحلمِ، أن أتهربَ من وضعي كشخصية عامة. لكنَّ تشنجاتِ الوضعِ، التي صارت أكثر إلحاحا، جعلتني أنسى فترةً هذه الهموم. لم يعد لي من تفكيرٍ سوى في الطفل، في وجهه، في عينه، في أناملِه الصغيرة ذاتِ الأظافر الطويلة الشفافة. كنت أفكر أيضا في الاسم الذي سأمنحه إيّاه. وسرعان ما طغت هذه المعضلة على ما تبقّى. عثرت على أسماء في غايةِ الغرابة. من الأسماء المؤنثة: أجنحة الفجر. ذات–السنّ– الوحيد. وحودة. سافرة. العبدة البيضاء. ومن الأسماء المذكّرة، اخترت فقط أسماء الأشجار: مَيس. جَكَرَنْدة. مَنْيُولميا. بلاتان. صفصاف–ضاحك.
كنت عند هذا الحد من بحثي حين… تراك ! سقط الولدُ وخرجَ من بطني كفطيرة من السّكر. ارتفعت الزغاريدُ من حولي وتعرفت بينها على صوت رفيقتـي. طغت زغرداتها شيئا فشيئا على الأصوات الأخرى ولم تعد تتوقف. آه. كنت سعيدا، يا أصدقائي. كان قلبي يختلجُ مثل نسرٍ يتهيّأ للتحليق. كنت أقول في نفسي، فخورا: أخيرا، سأصير مساوياً للمرأة!
على هذا انتهى حلمي. كانت الساعة المنبهة تطلق زغاريدَها الإلكترونيةَ. فتحتُ عينيّ رغما عني على واقع مبتذل، قاسٍ، يتمثل في انتصابٍ عادي.

الشجرة ذات الأشعار

أنا الشجرةُ ذاتُ الأشعار. يقول العلماءُ إنني أنتمي إلى جنسٍ في طريق الانقراض. ومع ذلكَ لا أحدَ يهتمُّ لمصيره في حين أُطلقت الحملاتُ مؤخرا لإنقاذ حيواناتِ الـ “بندا” في نيبال والفيلةِ في أفريقيا.
مسألةُ مصلحةٍ، يقول البعضُ. أنا أقول إنها مسألةُ ذاكرة. من حينٍ لآخرَ، تبلغ ذاكرةُ الناس حالةَ الإشباع. عندها يتخفّفون من الأمور الأكثر إرباكاً، يُخْلون مكانا في ترقّب ما هو جديد، هم المتعطشونَ إلى الجديد.
الماهيات القديمةُ لم تعد دارجَةً هذه الأيام. اخْترعوا أشجاراً تنمو بسرعة، تكتفي بما يُقدم لها من مقاديرِ الماء والشمس، تمارس مهنةَ الشجر بصمتٍ، وبلا هواجس.
أنا الشجرةُ ذات الأشعار، حاولوا مرارا أن يغيّروا في تركيبي فلم ينجحوا. أنا من جنسِ العُصاة، أنا سيّد تحولاتي. لا تؤثر فيَّ تقلبات الفصول والحِقب. أُنتج كل مرَّةٍ ثمرا مختلفا. مرة أضع فيه رحيق الزهر ومرة أخرى رحيق المرارة. وحين أرى نشالا من بعيد أشبعه رشقا بالشوك. أحيانا أتساءل: هل أنا فعلا شجرة؟ وأخشى أن آخذَ في المشي، أن أتكلَّمَ اللغة الكئيبة للجنس المخادع، أن أستولي على فأس أهوي بها على جذوع الضعيفات من جاراتي. عندَ هذا الحدِّ، أتشبَّث بجذوري، بكل ما أوتيتُ من قوةٍ. في عُروقها اللامتناهية أرتقي مجرى الكلامِ حتى الصرخةِ الأولى. أفكِّكُ نسيجَ اللغاتِ، أمسك طرفَ الخيط وأسحب لكي أُطلقَ الضوءَ والموسيقى. تخضعُ الصورة لي، أصنعُ منها البراعمَ التي تروقُ لي وأضربُ موعداً للزهر. كل هذا يحصُلُ ليلا وبالتواطؤِ مع النجومِ ومع الطيور القليلة التي اختارتِ الحُرِّيَةَ.
أنا الشجرةُ ذات الأشعار. أهزأُ بالزائل وبالأبديّ.
أنا حيٌّ.

من ديوان الشمس تُحتضر ( دار توبقال. الدار البيضاء. 1993)
ترجمة إلياس حنا إلياس