لقد داهمتَ حياتي وأنا طفل. كانت المظاهرة تهدرُ على بعد مئة متر من الحي الذي يقع فيه بيتُنا، والمتظاهرون يهتفون يحيا المغرب! يسقط الاستعمار! يعيش الاستقلال! كلماتٌ كان لها وقع المغناطيس في نفسي، وهتفتُ بها بدوري قبل أن أغوص وسط الأمواج الهائجة للمتظاهرين.
إذا كنت حتى اليوم أذكِّر بتلك الواقعة، فلأنها ما تزال ترنّ في ذاكرتي مثل فرقعةِ شارة انطلاق. ما الذي حدث؟ بعد أن شبَّهْتُ اسمكَ الذي تلهج به الحناجر بحماس شديد، بنوعٍ من السمسم، حملَتْني خطواتي إليكَ. ودون إملاء من أحد اجتزتُ عتبةً، ولم أفعل ذلك برفقة والدي أو واحدٍ من أخوتي أو من رفاق اللعب، بل مع آلاف من أشخاص مجهولين لم تكن تربطني بهم غيرُ بضع كلمات سحرية كنا نهتف بها موقَّعةً بصوتٍ موحَّد.
بعد قليل دوّت طلقات نارية، لقَّم العسكر بنادقهم وارتدَّت الأمواج البشرية بعنف. رفعتني إحداها ثم انغلقتْ حولي مثل مِلْزِمة.
أثناء الدقائق القليلة التي استغرقتْها تلك التجربة، انتقلتُ من حالة انشداه إلى حالة ذهول لوقوعي في الفخ، ثم إلى إدراك واضح جداً بما يمكن أن يمثله الموت لكائنٍ حيّ. أحسست بحاجة غريبة إلى تركِ كل شيء مرتَّب ورائي، ثم فكرتُ بكل فردٍ من أقربائي، والشيء الأغرب هو أنني طلبتُ الصفح من أمي. لا بأس من القول بأن الطفولة انسحبتْ مني قبل أن تغشى العتمةُ دماغي.
لم أنقم عليك وأنا أعاين هذه النتيجة المخيفة. فما يقع لي معك من حوادث مزعجة وغير مزعجة، أمرٌ ينتمي إلى الأسرار، وإذا نجوتُ منها بمعجزة، فلأنك بعد أن التقفْتَني وابتلعتَني، أخرجْتَني إلى العالم من جديد. ذلك هو مَرَدُّ تلك العلاقة العضوية بيننا، التي ستسير على نحو لا يخطئ في المراحل القادمة.
تأخَّر الاستقلال في المجيء، ثم جاء. بعد احتفالات دامت بضعة أسابيع، أو بضعة شهور كحد أقصى، رحل الموسيقيون والراقصون ولاعبو الخفة وبائعو الأشربة السحرية. لم تنفتح السماء على نحو استثنائي كما في ليلة القدر. لا بدَّ أن المَنَّ المنتظَر قد سقط في وضح النهار وذهب مباشرةً إلى جيوب بعض الشُّطّار شديدي الاطِّلاع على نزوات السماء وعلى سهولةِِ بيعِ العرَّافين وشرائهم. في المدينة التي ولدتُ فيها، حيث كانت الآمال المرجوّة من أكثرها عنفاً، استُؤنِفت الحياة السابقة، رماديةً في أغلب الأحيان، لا وردية. مَن، من بين أهلي كان بمقدوره أن يعلمني بوضوح بأن ما عشناه جماعةً كان أشبه بإجهاض، وأن باب المستقبل الذي بالكاد انفتح، كان بصدد الانغلاق من جديد؟ لكنني، حتى دون أن يعلمني أحد بذلك، كنت أشعر بضيق عميق. إذا كانت ذاكرتي قوية، فإنّ نوبات الاختناق التي بدأت تنتابني أثناء النوم، تعود إلى تلك الحقبة. كان أثرها يستمر وأنا مستيقظ لشدة حنقي من قلة المعرفة وقلة العون الذي يمكنني انتظارُه من محيطي. كان شعوري بعدم الفهم ينتهي بي إلى عزلة كاسحة.
هكذا عُزفتْ موسيقى مراهقتي على آلةٍ ذات أسنان منشار. وبصفتي حيواناً اجتماعياً، كنتُ الشيءَ وعكسَه: في الظاهر حياتي مرتَّبة، وجهودي ممتَدحة في المدرسة الثانوية، وليست لي تصرفات رعناء تُذكَر، أما في الخفاء فقد كنت أستغرق، مباشرةً بعد أزمة صوفية طفيفة، في حمّى إداناتٍ للنظام المستتبّ القائم من حولي، والذي تعيشه الأكثرية الساحقة بوصفه النظام الوحيد الممكن والقابل للتخيُّل. إدانات تشمل كل شيء: الأعراف والتقاليد، الممارسات والمعتقدات الدينية، الموروث الخرافي، مواطن الخلل الاجتماعي، خواء الأفكار. اتسع الرفض حتى شملَ الأغذية، بما فيها أغذية الروح. مثل كُسكُس أيام الجمعة، وحساء رمضان، وأطباق الفول والعدس في أيام الفاقة، والموسيقا الأندلسية التي تقدَّم مع كل شيء، والأحاديث النبوية التي تستخدم كيفما اتفق. كأن شعاري آنذاك كان: وحدي ضد الجميع! ولو أنني كنتُ أمارس تمردي رفقة بضع أوغادٍ من معارفي.
لا يوجد أي سر وراء “ضلالاتي”. فقد كانت المدرسةُ قد وضعتْ أسُسَها، وأكمَلََ شرَهي للقراءة في ذلك العمر الغضّ، الباقي. أضِفْ إلى ذلك، بلا تواضع كاذب، ملَكةَ ملاحظةٍ عزَّزها ميلي إلى الوحدة.
لا بأس من القول بأن علاقاتي معكَ يا بلدي العزيز قد تدهورت بعض الشيء. فبما أنكَ اعتدتَ على التعامل مع جماعات أو مع المجتمع ككلّ، يصعب عليك قبول احتمال أن يتصوَّر فرد بسيط رابطةً شخصية معك، وأن يكلّمك بلا كلفة، في الوقت الذي كان هذا هو بالضبط ما أحتاج إليه في عمرٍ يكون الانزعاجُ الذي نكابده حيال ما هو خارج أنفسنا، انعكاساً لضيقٍ أشدّ نعيشه داخل أنفسنا. ولكنه صحيح أن علم النفس ليس ما تَبْرَعُ فيه، ولا دفق المشاعر. إنك تدع أبناءك ينمون في تربة تعتبرها التربة المثالية من أجل إعادة إنتاج قيم وسلوكات مروَّضة منذ قرون. لستَ بستانياً مطَّلعاً بما فيه الكفاية على التغيرات المناخية الجذرية أحياناً، ولا متيقِّظاً بما فيه الكفاية لكي تميِّز البراعم الهشة وتلك المفرطة في النمو. ثم إنه لا داعٍ للتذكير بمصيبة الجفاف الدوري الذي تعاني منه.
كبرتُ كيفما استطعتُ، مفتقراً للاهتمام والرعاية، ولستُ في النهاية مستاءً من اضطراري للاعتماد على قواي الخاصة وللتكيُّف مع ظروفٍ أقرب إلى العوز. لا تستغرب إذن إذا نمَوْتُ بشكل منحرف وبدأتُ أُبرْعِم قبل أواني، وإذا اكتسبتُ وعياً بنفسي منفصلاً عن الوعي الذي كنت قد كوَّنتُه بالآخرين جاعلاً نفسي في وضع لا يستند بشكل مباشر إلى دعامة، قياساً إلى أفكار وممارسات الآخرين عامّةً.
بدأتِ الفكرةُ التالية مشوشة، ثم بدأت تتضح شيئاً فشيئاً إلى أن فرضت نفسها علي: ما كنتَ تقدمه لي منكَ بوصفهِ المعيارَ والطموح، بل المثالَ المكتمل الذي يجب بلوغُه، ربما لم يكن سوى إمكانية من بين إمكانيات أخرى، وليست بالضرورة تلك المشتهاة أكثر. ومن جهته، كان العالم الذي أكتشفه داخل الحرم المدرسي والكتب التي ألتهمها، يقدم لي خيارات من طرق التفكير، واختبار المشاعر، والعيش في المجتمع، وإدراك العلاقة مع بلدٍ ما، والنظر إلى ما ورائه نحو العالم، كما أنه، وهو شيء مربِكٌ أكثر من هذه الانفتاحات، كان يتيح لي إمكانية الخيار الحر الذي يصل إلى مستوى الحق.
من المؤكد، وهو ما أراه الآن مع فاصل المسافة الزمنية، أن العالم الذي كنتُ أكتشف ملامحه في ذلك الوقت ليس بعيداً عن العالم الافتراضي الذي يميل الشباب جماعاتٍ إلى الاستغراق فيه اليوم .
بهذه الأمتعة الفكرية وبتنهيدة ارتياح شديد، غادرتُ أسرتي والمدينة التي شهدت ولادتي كي أذهب للدراسة في العاصمة.
كانت الستينات في بداياتها المتلعثمة. ولقد أكدتْ لي إرهاصاتُ التغيير الذي وجدتُه يمضي في الرباط بالاتجاه نفسه، أكدتْ لي سريعاً ما كنتُ أعتبره انتفاضةًً ضد بُنيانك الثقيل وضد وسائلك التي عفا عليها الزمن.
كانت الدوائر التي تتجلى فيها هذه الإرهاصات، مقتصرة على بضع مجموعات من الطلاب وتجمعات الفنانين. لكن الرباط بدت لي بلداً آخر بالمقارنة مع مدينة فاس. فمن المتاهة الرتيبة والشديدة المراقبة خرجتُ إلى مدينةٍ مفتوحة يزداد فيها الإحساس بالفضاء الرحب بفضل المحيط الذي تستند عليه بظهرها. من ناحية أخرى، كانت هذه تضم خليطاً من السكان ذوي الأصول والمعتقدات المختلفة وتعيش بإيقاعٍ تحرَّرَ من تلك الساعات المثقّلة بالرصاص التي كانت ساعاتُ الحائط العتيقة في مدينة مولاي إدريس تكرُّها بلا نهاية. كنت أستطيع أن أخرج وأعود على مزاجي، وأن أسهر إلى وقت متأخر إذا ارتأيتُ ذلك دون تقديم كشف حساب لأحد. وكنت في الحقيقة أكتشف أن النهار الحقيقي والأكثر إثارة، هو الليل.
كانت السمة الكوسموبوليتية الراسخة لحي “الأوسيان”، تجتذب طبعاً جماعةَ المتحولين ثقافياً مثلي. وكنا نلتقي في حانات التاباس2، وتغتني السجالات، بالمعنى الفلسفي للكلمة، وسط هذه الجمهرة من الناس، ويتم جرد وتحليل آخر أخبار روّاد الأدب والفن الطليعيين عبر العالم. كان هذا أو ذاك من بيننا يحمل دوماً في جيبه، دون أن يظهر عليه ذلك، نصاً من تأليفه، في حال اتجه اهتمام الجماعة إلى إبداعات أفرادها.
في مرات نادرة، كنا نجلس إلى طاولة في الخارج لكي نأكل أطعمة مشوية على السيخ، وننصت للحفلة البوليفونية من اللغات، الصادرة من الطاولات المجاورة، وهو ما كان يبدو لنا أمتعَ مظهرٍ في الحي. إلى هذا يجب أن نضيف الأرصفة التي تعدّ مسارح حقيقية في الهواء الطلق. كنا نشاهد مواكب تتقاطر فوقها من حسناوات صارخات الجمال، وأشخاص يعرجون مقدِّمين إصابتَهم بطريقة مدروسة، ولاعبي خفة من الدرجة الدنيا، ومجاذيب في حبِّ الرب يتكلمون بلغةٍ مستَعِرة، وبائعين يبيعون ما هبّ ودبّ، وأطفال أرِقين، ومثقفين ثملين وفخورين بثمَلهم.
كان مركز المدينة، حول شارع محمد الخامس، يضم بضع أماكن تشتد فيها حمّى اللقاءات والنقاشات أثناء النهار. هناك أيضاً توجد عدة مكتبات بدأتُ أتردد إليها منذ قبضتُ نقودَ منحتي الأولى كطالب. كانت المكتبة مؤسسةً جديدة عليّ لأنني لم أعرف في فاس معبداً للكتاب غيرَ المكتبة العمومية في “البطحاء”، التي تعود أحدثُ مقتنياتِها إلى آخرِ عهد الحماية.
رحتُ أُجري عمليةَ تحوُّلي، منساقاً بكامل إرادتي إلى قلب هذه الدوامة التي جعلَتْها علاقاتي الأولى مع الجنس الآخر واكتشافُ ألاعيب الغرام ومُتعِ الجسد، مُسْكِرةً أكثر. كان الحاجز الحديدي المزروع في صدري أثناء المراهقة، بصدد الانصهار. رحتُ أتخفَّف من الوطأة الساحقة للممنوعات ومن عارِ خرْقِها. كان جسدي نفسه يتحوّل. فلم يعد قفصاً لُجِمتْ فيه إفكاري ورغباتي ونزواتي. بل غدا امتداديَ المحسوس، والمنفِّذَ المطواع لرقصِ روحي والمستفيدَ بامتنانٍ من نشواتي.
بفضل شرطِ الحرية المسبق هذا، أصبحتُ أخيراً موجوداً وأعرف بأنني موجود. رحتُ أسمح لنفسي بالتفكير بالأشياء وبنفسي، بالكلام عن “حياتي” في الماضي بالتأكيد، إنما أيضاً في المستقبل. ما الذي سأفعله فيها، كيف، وأين، ومع من؟
وبالطبع، كنتَ بانتظاري عند المنعطف.
كنتَ قد تركتَني مثل حلزون في ماء مالح، أُفرِزُ بلا طائلٍ لُعابَ هرطقاتي، ثم أُطهى على مهل في صلصةِ إحباطاتي قبل أن تضعني في فرنِ الحرية الفاتنة وأنت تسقّيني من وقت إلى آخر بعصيرِ نقْمَتي الذي كنتُ أسرِّبه لكي أَطْرَى وأغدو قطعةَ لحمٍ فاخرة لأجلِ الغول الذي لا يَشبع والذي يُدْعى التاريخ. لقد لعبتَ الدورَ الاعتيادي الذي خصصه هذا لكل بلد في ظروف محددة، موهِماً هذا البلد بأنه مهدد في وجوده. كيف كان لي أن أنقم عليك في الوقت الذي رحت أتطلّع فيه المواجهة مع ذلك الغول، ورحتُ، مثل عوليس، أشحذ في السر ركاستي التي أحلم بغرْزِها في عينه؟ لِمَ لا يستطيع كائن بشري، في لحظة معينة من حياته، أن ينجو من كافة عمليات الأقلَمة، وفي صحوة ضميرٍ تقترب من الإشراق، أن يصبح سيِّدَ مصيره؟ في حالتي، أصبح النداء هاجسياً. رشقةً وراء رشقة، راحت الأسئلةُ تهاجمني: “الحرية بالنسبة لي، إنها شيء جميل، ولكن ما الذي تعنيه بالنسبة للشعب القابع في الهوة التي أحاذيها، الشعب المخدوع والمخبَّل والمسحوق، بلا حول ولا قوة؟ ماذا عن حلم الحرية التي قاتلَ من أجلها؟ عن الكرامة التي اعتقَدَ بأنه لمَحَها؟ من هم المعتَدون، من هم مدمِّرو الرجاء؟ وبعد فضحِهم، ما السبيل إلى هزّ سلطتهم وإسقاطها؟ وبأي نظام عادل يجب استبدالها؟ ومن سيكون صنَّاعُ هذا الانقلاب وهذا الإحياء؟ ما الذي سيتوجب عليهم إعطاؤه من أنفسهم؟”
وشيئاً فشيئاً، رحنا نلقي بأنفسنا في الماء سواء كنا نعرف السباحة أم لا.
وألقيت بنفسي في الماء.
يا لها من سنين مجنونة ورهيبة! لا أظن أنني أجافي الحقيقة إذا أكدتُ بأن علاقتي بك وصلتْ، خلال تلك الفترة التي قارَعَ فيها القلمُ السيفَ بشدة، إلى المستوى الحميمي، واكتسبتْ كثافةً تُقارِب الشغف.
هنا، لا بأس من التذكير بأنه، قبْل محنة النار التي تعرضتُ لها، كانت هناك تلك المغامرة الفكرية والفنية المدهشة التي خضتُها مع بعض زملائي والتي تجلّى إنجازُها الكبير في البحثِ ثم العثور، فيكَ، على مناجم مهمَلةٍ للنزعة الإنسانية وعلى مصادر للنزعة الكونية طال إنكارُها. عند مرور ذلك الشهاب الذي يحمل اسم “أنفاس”، توقف الصدام بيني وبينكَ لأنني تأكدتُ بأن بلداً مختلفاً يقبع خلف واجهتِكَ المصطَنعة، عذراءَ فراشةٍ تستعد للانطلاق وشق طريقها إلى العالم. لقد أعطيتَني أخيراً جناحين.
لم ترُق العلاقة الطيبة لـ “سادةِ الوقت”، فقرروا، بِساطورِهم الذي كاد يقطع لي يديّ، أن يفصلوني عنك الزمنَ اللازمَ لكي تنطفئ الشعلةُ ويطالَ القلبَ سُمُّ الشكِّ. كان جهداً ضائعاً. وطوال المحنة ، لم تخْبُ تلك الشعلةُ الداخلية، وبفضل نشاط الذهن المستمر، استوعبتُ أنواراً أخرى.
سأقفز إذن فوق تلك الصفحات الرمادية المُرّة من حياتي فلا أَستبقي هنا إلاّ اللُّطف الذي أحطْتَني به حين كنتُ محاصراً بالظلام. كان الحبُّ والشِّعرُ مبعوثيكَ المواظِبَيْن. كان لكل منهما أسلوبه في كنسِ العتمةِ من حولي وفي الكشف عن نفسيهما معبِّرَيْن عن هذا الطلب المحيِّر: أَعِدْ خَلْقي! لذا كان أمامي دوماً عمل كثير أقوم به.
اضطرّ سجّانيَّ لإطلاق سراحي لأن التقنيات التي جُرِّبت عليَّ من قبل كَسَّاري الرؤوس التابعين لهم، لم تُجدِ نفعاً، ولأنّه تبيَّن أنّ الاستضافة التي فرضوها عليّ مكلفةٌ لهم أكثر مما يجب بالنظر للصورة التي كانوا يحاولون إضفاءها عن أنفسهم. ولأنهم جهَّزوا الوضعَ في الخارج من أجل احتواء أذايَ وتحييده، فقد قلَّتْ مصلحتُهم في الاحتفاظ بي. اعتُمدَ النظام الذي يسيِّر السجن المادّي كنموذج سياسي واجتماعي. طُبِّقَ عنفُه على الشعب بأكمله وعلى العُصاة الناجين، بنوع من المكر المضاف. هكذا كنت أستطيع التنقَّل دون عوائق ظاهرة، وطواف مئات الكيلومترات، وكان الأمر كما لو أنني ما زلتُ أذرعُ باحة السجن بخطواتي. كان باستطاعتي كتابة القصائد والقصص والمقالات ونشْرها كيفما اتفق. ولكن كان لدي أثناء كتابتها، شعورٌ بأنني أخطّها فوق ورقِ إدارة السجن الرسمي، ولم ينتابني شك لحظة واحدة بأنها ستتلوث مِن عينِ الرقيبِ المُتَمَتْرِس ويديه. كنت أختنق أكثر مما وراء القضبان.
لقد سندْتَني في أشد ظلمات الليل حلكةً، ولكنك لم يكن بمقدورك أن تفعل الشيء الكثير من أجلي لأننا، أنت وأنا، كنا في الوضع الصعب نفسه. تلك السنوات التي تسمى بسنوات الرصاص، رصاص طلقاتٍ حقيقية في الواقع، سنوات الجمر الكهربائي الذي يخرق اللحم، والتفريق بالفأس، والمعتقلات الشائنة، سنوات الصلف والاختطاف، اللغة السوقية والانهيار الأخلاقي، سنوات النذالة وأفعال المقاومة اليائسة، سنوات الريح المجنونة والخسوفات المتكررة، كانت تلك السنوات مدمرةً بالنسبة لكَ. لقد أضعَفَتْ لك صحتكَ. فسقطتَ في ما يشبه انحطاط القوى وانغلقتَ على نفسك. من جانبي، لم يكن حالي أفضل بكثير. فالحرية العجيبة التي عبثاً حاولتُ أن أجعلها تُعطي ثمراً، باتت بطعم الرماد وبدأتُ بصراحة أجدها طويلة. أصبح حالنا، أنتَ وأنا، مثل حالِ زوج تعرَّضَ للجروح نفسها، ويخشى أن يزيد الوضع سوءاً إذا تكلَّم عنها. لا، لم يكن ذلك كبرياءً في غير محله، بل حرصاً على عدم الضغط على إرادة الآخر ومراعاةً لألمه الصامت.
منذ ذلك لم يكن أمامي من حلٍّ سوى الابتعاد.
هل أرحل لكي أحيا من جديد قليلاً؟ لكي أعيد بناءَ شيء ولو كان مؤقتاً؟
كان يوجد شيء من ذلك ويوجد عكسُه بالضبط: الرحيل من أجل تلبية نداءِ التجوال بلا نهاية، الحاجة إلى الضياع، النزوع إلى الاضمحلال التام.
المنفى في البداية رواحٌ ومجيءٌ بين هذين القطبين. تعايُشٌ بين الارتياح والضيق. ثمَلٌ بالحريات البرّية وشعور بخسارة لا تعوَّض. يشعر المنفيّ بالنقمة على العالم بأسره ويعذِّب نفسه بوحشية.
يمكن معرفة المنفيّ، عن بُعْدٍ، من خلال مشيته، مشية طير كسر جناحاه واضطرّ صاغراً أن يمشي، وعن قرب، من خلال نظرته التي تكنس صوَراً غيرَ مرئية ثم تتجمدُ فجأةً فوق تفصيلٍ برزَ من الواقع. تراه في أغلب الأحيان يرتدي ثياباً واسعة ً يسبح جسمه بداخلها، ويحمل، حتى عندما يخرج لشراء الخبز، محفظة جلدية تالفة تقريباً. يدخّن بشراهة، ليس بدافع الرغبة، بل كأنما من قبيل الواجب. كلما نظر إلى ساعته، ترى الخيبة على وجهه، وينظر إلى الأعلى كأنه يناشد السماء أن تكذِّب له تَعاقُبَ الساعات الرتيب. في المترو لا نعرف كيف يتدبَّر أمره دوماً لكي يجد مكاناً للجلوس، لن يستطيع شيءٌ أو أحدٌ أن يزيحه عنه قبل نهاية الخط. عندما يصل إلى “منزله”، يقرأ الكتيِّبات الدعائية التي التقطها في علبة بريده، من ألفِها إلى يائها، ثم يجلس مرتاحاً قرب الهاتف، وظهره إلى النافذة…
لو أنني راقبتُ نفسي من الخارج خلال الشهور الأولى من وصولي إلى فرنسا، لَتَعرَّفتُ على نفسي في هذا البورتريه الذي يتأرجح بين الكاريكاتير والتضامن. لحسن الحظ أنه لم يتح لي وقت كثير لكي أتفحص نفسي في مرآة. الشهرة التي سبقتني سرعان ما جعلتْ مني شاهداً يُلتَمَس من أجل صيانةِ شعلةِ معاركَ معينةٍ، أو موضوعاًً مثيراً للفضول يتهافت البعض على تفحُّصه بالعدسة المكبِّرة. كثر الطلبُ عليّ من أجل لقاءات ومداخلات منوعة، وجعلوني أعبر البلد الذي استقبلني من طرف إلى آخر، ومن هناك جعلوني أطوف العالم طولاً وعرضاً.
هل فعلتُ ذلك لحسابي لكي أعوِّض على الأقل “الزمن الضائع” الذي سُرق مني أثناء سنوات السجن؟ هل أسكَرَني اتساعُ عالمي هذا الاتساع المذهل، وكوني مركزاً لهذا القدر من الاهتمام الذي لا يغيب عنه الإعجاب أبداً؟ سأكون كاذباً إذا أنكرتُ بأنني شعرتُ بدوخةٍ بسبب الانفعالات غير المتوقعة، وأنني تذوّقتُ متعاً تُعتبر بحكم التعريف “أنانية” لدى دُعاة النقاء السلوكي، واكتشفتُ في نفسي، بالمباغَتة، رغباتٍ ونوازع وافتتانات وقابليات وطاقات كانت إما في حالة سُبات، أو أنها خُنقت في المهد أثناء حياتي السابقة. على أية حال، لا أعرف إذا كنتُ أخدع نفسي إذا أكدتُ بأنكَ أنتَ، يا بلدي العزيز، الذي كنتَ تدفعني لاستقبال المجهول بذراعين مفتوحين، وإعادة النُّبْل للرغبة، وتحطيم آخر قيودي، وتوسيع حدودي، وإسكِات اللازمة المملة للتعاسة بداخلي، والاحتفاء بشراراتِ الفرح الخالص الثمينة. كففتُ عن عدِّ المواقف التي كنتُ أكشف فيها علامةً تدل على حضورك، وبادرةً تُواكِب اندفاعاتي وأفعالي، بحيث أنني في النهاية تخيَّلتُ لكَ وجهَ أمٍّ تنظر بحنان إلى خلاعات ابنها وتجِد لها مبررات وافرة، كونُها باتت تعود عليه بالفائدة.
كنا قد وصلنا في علاقتنا إلى مستوىً من الشراكة لا يُبنى إلاّ على حدٍّ أدنى من الهناء. يا إلهي، كم كان مريحاً أن تتكلم بحرية، وتجتاز الحدود بالسهولة التي تجتاز بها عتبة بيتك! كنتُ، في تنقلاتي، أستطيع الدفاع عن قضيتنا، وكان الناس يَفهمونها. كنتُ أمارس ما اعتدتُ أن أسميه “دفاع وإيضاح”، مشترِطاً القيام بذلك عن طريق لغتي المفضَّلة، لغة الشعر.
وبهذه المناسبة، كان للفراق أثر جيد لم أتخيله في قلق البدايات، حين كنتُ فريسةً لحالة نضوبٍ قاتل في مصادرِ إلهامي. لقد أزالَ الحواجزَ التي تقف بوجه الكتابة من داخلي على نحوٍ مدهش. رحتُ أكتب بغزارة وتقريباً بلا انقطاع، دون أن أرفع رأسي. لم يعد المكان الذي كنتُ أتواجد فيه سوى فقاعة ضوء وُضعتْ في مكان ما من الفضاء، ولم يكن لضوئها، الطبيعي أو الإصطناعي، من وظيفة سوى إضاءة الصفحة التي أكتب عليها. من أين كان يأتيني ذلك المَنُّ؟ وإلى ماذا ولِمَن يعود الفضلُ في مجيئه؟ الفضل، وهو ما أدركه الآن على نحو أفضل، للعلاقة الجديدة بيني وبينكَ، المبنية، هذه المرّة، ولْنقُل الأشياء كما هي، على ميثاق أدبي. نعم، لقد تبيَّن أن الكتابة هي وسيلتي المُثلى لكي أسكُنكَ وأدعَكَ تسكنني كما تشاء. لقد أخذتَ راحتك أساساً وبدأتَ تنظّم إبداعي الفني تبعاً لِما امتنعتَ طويلاً عنه، وما أنكروه فيك وما كنتَ تتشوق لكي تخصّ نفسك به وتهتف به بلا تحفّظ.
لقد لزمكَ وقتٌ طويل لكي تدرك بأنّ ما أطالبك به منذ ثوراتي الأولى، كان بالضبط هذا الفعل السيادي بأن تكون حاضراً في العالم.
لقد اجترح الفراقُ معجزتَه الصغيرة. تَحرَّرنا من الطاعة، من التملُّك الأعمى، من الضغائن ومن الهذيانات العاطفية. بلغنا سن الرشد حيث الحرصُ على الآخر هو حرصٌ على حريته أولاً، كيلا نقول سعادته.
بالنسبة لي، كانت الرواية التي تنطق بنبرةِ المنفى التراجيدية تقترب من نهايتها. كنتُ قد عملتُ على مادّتها بما يكفي لكي أصوغ نصاً جديداً يرقص على موسيقا مختلفة. هذا يعني أن مفهوم المنفى لم يعد يبيِّن طريقة تَموضُعي في الشرط الإنساني. كنت قد سلكتُ طريقَ شعبٍ مهاجر لا يبحث عن أرض، سواء كانت أرضاً معروفة أو مجهولة، بل يبحث عن نزعة إنسانية قيد التنظيم. لأن الأرض، وهذه هي قناعتي لحظةَ كتابتي لهذه الكلمات، تُعطى مرةً وإلى الأبد. وتعود ملكيتُها لك حتى عندما تُمنَع عنك أو تُسحَب من تحت قدميك. أما النزعة الإنسانية فهي لا تُعطى لك تلقائياً ولا تعود ملكيتُها لأحد. إنها دوماً مشروعٌ قيد الدرس عليك أن تستحقّه وأن تفوز به باستمرار.
أعتقد بأنني عرفتُ جيداً مواطن العتمة ومواطن الضوء، مواطن العظمة والصَّغار، الهمجية والتحضُّر الكائنة في فرعَيْ الشجرة البشرية اللذين احتككتُ بهما حتى الآن. هذا ما جعلني أستقر مؤقتاً في منطقة واقعة بينهما، لكي أتمكن على نحو أفضل من تقييم الشرخ الذي يفصل بينهما وحالة الجذور التي تجمع بينهما بعيداً تحت الأرض. سطحُ بيتي موقعُ مراقبة من واجبي أن أشير منه إلى كل حركة مريبة يقوم بها مثيرو الكراهية. من ذلك الموقع أتوجه بالكلام إلى أولئك الذين يقاومون انحراف العقل، ويصونون شعلةَ اليقظة، رجالاً ونساءً في كلا الجانبين.
أقوم بهذا الواجب سواء طلبتَ ذلك أم لا، لأنني أشعر قليلاً بأنني مترجِمُ ومبعوث هذا التغيير الذي أجراه أحدنا على الآخر، تغيير يمثِّل لوحده رسالة تستحق أن تُحمَل إلى العالم.
ينتهي اعترافي في مناخ ساده الهدوء ليبدأ قلقٌ بالنهوض لأننا يجب أن نتكلم عن المستقبل.
سأرحل قريباً بالطبع، وأنتَ الذي لا يعنيه احتمال من هذا النوع، سوف تبقى. وسيستمر التاريخ بالسير بكل طيش. سيعود ويقدّم لك أطباقه الباردة أوالحارقة. وسيأتي شعراء آخرون، ليلاً، لاستفزازك والصراخ بمعاناتهم تحت نوافذك، وسوف يهرع الحشد المتزايد من المتزلّفين واللصوص، نهاراً، أمام عتبتك. ولن يبقى مخلصاً لك، من بين أصدقائك أو ممن يُفترض بأنهم كذلك، سوى أولئك الذين لم ينتظروا منك هِباتٍ سخية قط، بل انتظروا عدالةً عادلةً حقاً. معظمهم سيخونونك تبعاً للامتيازات غير المستحَقَّة التي منحْتَها لهم وبالتناسب معها بالضبط. هل ستقع من جديد تحت سطوة شياطينك السابقين؟
ما الذي تنويه أن تفعله بخصوص ذاكرة البيت المغربي ومستقبله لكي لا ينهار هذا البيتُ فوق رأس هذا الجيل القادم أو ذاك؟
لا أعرف إذا كان ما عشناه معاً سيفيد، وبأية طريقة؟ لنكن واقعيين. أنا لستُ سوى نقطة في محيطك، وهل المحيطُ يدرِك، هل يحتفظ بذكرى جميع نقاط الماء التي تكوِّنه؟ أليس كل إدراك، كما في الحياة التي هي مسرحُهُ، يتوقف على رمْيةِ زهر؟
ليت الحظ يساعدك ، يا بلدي العزيز!
مقتطف من كتاب شاعر يمر (دار ورد للنشر. دمشق. 2010 )
ترجمة روز مخلوف