ما رأي الصديق الشاعر عبد اللطيف لو نستهل حوارنا بسؤال تقليدي، يدعوك لاستعادة خطواتك الأولى باتجاه أرض الكتابة، حيث التقيتَ لأول مرة بالشاعر المقيم فيك، ذاك الذي ستكتشف معه سحر أبجدية كان لها الفضل في صياغة حروف إسمك الشخصي؟
لا أذكر بالضبط متى تَمَّ ذلك الموعد، وأحترس على العموم من تلك القصص، إن لم أقل الخرافات، التي يحيكها بعض الكتاب وحتى العظام من بينهم، ليبينوا عن عبقريتهم المُبكِّرة ونبوغهم منذ نعومة أظافرهم. علينا أن نكون متيقظين إزاء ذاكرتنا، لأنها ميالة إلى دس آياتها الشيطانية في نفوسنا الميالة بدورها إلى مرايا النرجسية الخادعة. لذا أود الانتقال من الخاص إلى العام لأطرح في هذا الشأن ما أراه قاعدة: إن هوس الكتابة وكافة أشكال الإبداع الأخرى يستوطنا منذ اللحظة التي نشعر فيها بتَفرُّدنا كأشخاص ضمن المجتمع الصغير و الكبير الذي نعيش فيه. وعندما نعي بذلك نجد أنفسنا، أحببنا ذلك أم كرهناه، في موقع جديد علينا، ألا وهو الهامش. من هذا الموقع نبدأ تأملنا الحقيقي للذات والمحيط و نصطدم بالسائد والمُجمَع حوله من المعتقدات والقواعد والسلوكيات. ومن ثم يبدأ البحث عن الأداة التي يمكن التعبير بواسطتها عن الوعي الذي تكون لدينا
إذا كنت واثقا من القاعدة التي أسلفتها، فليس لي أي جواب على السؤال الذي يتبادر للذهن بعد ذلك: لماذا ينتاب ذلك الشعور بالتفرد شخصاً ما وليس غيره؟ إنه نوع من النداء الداخلي لا نعرف من أين هو آت ولا نستطيع سبر كُنهه، وهو سر من أسرار الإنسان، ذلك المخلوق العجيب.
هذا عن البدايات أو الموعد الأول مع الكتابة. أما عن المسار فيما بعد، فالأمر يختلف حسب الكُتاب طبعاً. هنالك من سيغادرون الهامش عن قصد، لمحاولة غزو مركز ما. نرى من بينهم من يستعملون وظيفتهم كسلم للترقية الاجتماعية والمادية ولاكتساب الجاه والشهرة. وهنالك شريحة أخرى، أقل عدداً، تفهم بشكل مغاير تلك الوظيفة وتعمل جاهدة على صونها من المغريات المُخِلّة بجوهرها. وهذه الأخيرة محكوم عليها، عموماً، بشكل أو آخر من الهامشية. لقد سبق لي أن كتبت إزاء هذه المعادلة ما يلي: ” قد يكون المركز الحقيقي هو الهامش.”
بعد محنتك السجنية التي دامت ثماني سنوات ونصف(72/80) والتي كانت حافلة بالعطاء، أصبحْتَ دائم السفر والتجوال في مدارات الكتابات والحياة والأمكنة واللغات، دون إغفال سفرك في الشبكة العنكبوتية. فهل ثمة مجال للحديث عن منفى ما؟
قصتي مع المنفى رواية حقيقية كتبتها على دفعات منذ زمن طويل ولا زلت أكتبها لحد الآن(أحيل مثلا على يوميات قلعة المنفى، مجنون الأمل، تجاعيد الأسد، شجون الدار البيضاء، الهوية شاعر، الخ…). آخر حلقة منها يمكن مراجعتها في شاعر يمر الذي صدر حديثاً. ماذا يمكن أن أضيف؟ ربما أن هذه الرواية التي أستطيع اليوم قراءتها كقارئ شبه عادي تحكي عن تجربة قاسية، مضنية، وفي نفس الوقت مشوقة وغنية إلى أبعد حد. لقد أمدتني في نهاية المطاف بخبرة في شؤون الوضع البشري لم تكن لتتوفر لدي لو بقيت “حضريا” ولم أعش ظروف الكائن المبعد والمرتحل على الدوام.اكتشفت مثلا بفضلها أن حالتي ليست شاذة أو استثناء. إنها تجمعني بفصيلة من النوع البشري يزداد عددها باستمرار وتتكون من أفراد وجماعات منحدرة من كافة الشعوب وأقطار المعمور. كما أنها تجمعني والعديد من المبدعين الوافدين إلى “المركز” من “الهوامش”. إنها فصيلة تبحث عن هوية إنسانية جديدة ورحبة خارج أسوار الانتماءات الضيقة دون أن تحيد عن التزامها بحق الشعوب في الحرية والعدالة والانعتاق من كل أشكال الهيمنة، ودون أن تفرط في حقوق الفرد عندما تصطدم حاجاته ورغباته بالسلطة أو المجتمع السالب للحريات.
إنني أصف هنا مكاناً أو موقعاً له تمايزه ضمن الوضع البشري. هل يحق لي الاستمرار في نعته بالمنفى؟ صدقاً لا. لقد استوطنت منذ زمان ما أسميته بـ المابين، وأصبحت إنسان ذلك الـ مابين، دون تمزقات مُشلَّة لطاقاتي في العطاء ولا انفصام مأساوي في الشخصية. أعرف أن هذا لن يروق من يعتبرون المثقف والمبدع مِلكاً خاصاً لهم بمجرد أنه يحمل نفس بطاقة هويتهم الوطنية. هل من الممكن أن يتخيلوا أن المبتغى هو أن ينجز ذلك المبدع والمثقف ما يؤهله كي يصبح ملكاً للبشرية جمعاء؟
في تضاعيف نصوصك الشعرية والنثرية أيضا، تتوهج دونما كلل إشاراتك التعريفية بجوهر الكتابة، بجماليتها وتعدد وظائفها المحددة في فضح كيد التاريخ والانتصار للإنساني المغيب في ظلمة الإقصاء. هل ثمة لديك من تعريف آخر للكتابة يمكن أن تتداركه في هذا الحوار؟
كفاية ما كتبته في الموضوع لحد الآن. أنا لست من المولعين بالتنظير في هذا الشأن. لماذا نطلب من الكاتب أن يكون أيضاً فيلسوف إنتاجه؟ العديد من تلك التعاليق التي يغامرون بها أجدها مغرقة في الذاتية، ناهيك عن النرجسية شبه العادية التي تشوبها. الخطر في ذلك هو تشويش قراءتنا لنص الكاتب، إذا كنا قراء حقيقيين أو الاكتفاء بالتعليق عوض النص في حالة القارئ العجول أو الكسول. أعتقد (وهذا الطرح ليس تخريجة جديدة) أن أفضل نظرية حول النص هي تلك المُتضمَّنة فيه والتي على القراءة الذكية والمرهفة حساً أن تكتشفها في طياته. غير أن النظرية الصرفة لا تكفي لوحدها لاستيعاب أغوار النص وأبعاده المختلفة. ما سبق لي أن أسميته بـ “القراءة العاشقة” وحدها كفيلة بجعلك تتذوق النص بالحواس الخمس المعروفة وربما بحواس أخرى لا نشغلها إلا ناذراً. القراءة المُثلى تتم عندما نتوحد مع النص و نستسلم له لينقلنا إلى أعماقه وكنهه. للأسف، ليس هذا هو الجاري به العمل، خصوصاً عندنا.
من ضمن ما توحي به القراءة المتأملة لنصوصك، قابلية كل ماله صلة بالحياة، بالحرية وتخريب الجدران العازلة لأن ينقال شعرا. هل هذا هو سر الغزارة الملموسة في إنتاجك الإبداعي والفكري ؟
فعلا، أحد سماتي ككاتب هو عدم التخصص في جنس أدبي على حساب الآخرين. لست متعصباً لا للشعر ولا للرواية مثلا. لا تعنيني تلك النزعة شبه الأصولية للإعلاء من شأن نوع أدبي و التقليل من أهمية الآخر. فلو أنني أُعتَبَرُ، من طرف الرأي العام الأدبي، شاعراً قبل كل شيء(و قد أوافق على هذا الانطباع دون تردد)، لن أخفي عليك بأنني أقرأ منذ عقود الرواية أكثر مما أقرأ الشعر، وأن الكتاب الذين فتحوا عندي شهوة الكتابة في المنطلق كان أغلبهم من الروائيين. أصل الآن، بعد هذه التفاصيل، إلى جوهر السؤال. ما يستهويني في الكتابة، أكانت لي أو للآخرين، هي المفاجأة. الشعور الحاد بأنني أمام نص في أتم الجدة على مستوى المعمار والنَّفَسِ والإيقاع والمخيلة. إن التخصص في نوع أدبي دون غيره يقلص من حظوظ عامل كهذا. لذلك تراني حريصاً على تشذيب المتاريس الذي يضعها البعض بين الأجناس الأدبية وأعمل بالأحرى على تلاقح تلك الأجناس والتفاعل الخصب فيما بينها. ما أصبو إليه، عندما أكون قد أتممت رسالتي الأدبية، هو أن يكون النتاج في مجمله عبارة عن سمفونية، تحظى فيها كل شريحة من الآلات بمجالها الحيوي وتبذل عطاءها الخاص من أجل إحداث التناغم المنشود. مع كل هذا، يبقى الشعر عندي هو آلة الأوركسترا المركزية و ضابط الإيقاع، إذا أردنا الإحالة على توزيع المهام في التخت العربي. إذن، الغزارة التي تحدثتَ عنها ناتجة عن ذلك التنقل المستمر بين الأجناس (هنا أشير أيضاً إلى إنتاجي المسرحي و في مجال الكتابة للأطفال، ولم لا إلى كتاباتي “النظرية” في موضوعات ثقافية وسياسية حتى).إنه سعي مستمر لاستكشاف الحقل الأدبي برمته على أمل استخراج بعض المعادن النفيسة والمجهولة التي لا زال يدخرها.
في سياق تشبيهك لتفاعل وتكامل الأجناس الإبداعية بالبناء السمفوني، هل لك أن تحدثنا عن مفهومك للموسيقى، وشكل حضورها في كينونة الشاعر عبد اللطيف، في ذاكرته، وفي لغته؟
لا أغار شخصياً ككاتب من فن آخر بقدر ما أغار من الموسيقى. فهي في رأيي الفن الأكثر اكتمالا في وسائله التعبيرية والأقوى تأثيرا وبشكل مباشر في النفس البشرية. ثم إنها معفية من لعنة برج بابل، فلغتها الكونية تخترق دون عناء سائر الثقافات. منذ زمان وأنا أشعر وكأني مصاب بعاهة لكوني لم أتعلم أصولها منذ الصغر، ولا أجيد العزف على آلة موسيقية. لن يفوتني هنا أن أشير إلى ذلك النقص الفادح في تربية وثقافة الإنسان المغربي رغم ما يقال عن ازدهار الأشكال التعبيرية الموسيقية عندنا. لكنه موضوع شائك آخر، أعرج عليه فقط.
أما عن حضور الموسيقى فيما أكتب فهو هَمٌّ مستمر أقابله يومياً. أنا مثلا أكتب بصمت ولكن بالجهر أيضا حتى عندما يتعلق الأمر بنص نثري أو روائي. كل بيت أو جملة أصيغها لا أستطيع التصديق عليها إلا بعد قراءتها بصوت عال عدة مرات. هكذا أشتغل لاقتناعي بأن العين لا تكفي لاستيعاب كل مكونات النص. أحتاج إلى اختبار آخر لا يتحقق إلا من خلال تفاعل الصوت بالأذن. وتجاوزاً لحالتي الشخصية، أرى فيما يخص الشعر بالتحديد أن هنالك نوعان من الموسيقى الملازمة له: الأولى يمكن وصفها بالخارجية، والثانية بالباطنية أو العضوية. ألاحظ أن الاهتمام في جل الدراسات ينصب عادة على النوعية الأولى وأنها، عند الإلقاء العمومي للشعر، تتصدر العوامل التي تجعل الجمهور يطرب له، خصوصاً في المحيط الثقافي العربي. وهذا ناتج في رأيي عن التأثير البالغ الذي لا يزال يمارسه التراث الكلاسيكي على إنتاج الشعر وتذوقه في عصرنا. الأذن العربية مؤطرة بتلك الموسيقى الخارجية، الخاضعة لما سمي بميزان الذهب وما يفرضه من “علوم” في ضبط الأوزان والقوافي. وحركة الحداثة نفسها، على الأقل في مراحلها الأولى لم تتخلص من ذلك التأطير نظراً لاعتمادها المنهجي للتفعيلة. ليس في نيتي هنا الحكم على هذا النوع من الموسيقى بالسطحية أو المجانية. أشير فقط لما قد يعتريه من تخطيط تقني مفتعل، مقحم في لحمة القصيدة و مشوش لعنصر الفطرة فيها، تلك الفطرة التي، لحسن الحظ، نبه القدامى إلى أهميتها القصوى. من هنا تراني أركز فيما أكتب على النوعية الثانية، تلك الموسيقى الخافتة والباطنية التي تنتج عن خيمياء معينة تتفاعل فيها عناصر أو معادن مختلفة: الصوت الداخلي، إيقاع تسلسل الصور والرؤى، أنين الأحشاء، حركة اليد فوق الصفحة وخشخشة الورق، ترانيم آتية من أعماق الذاكرة، أصداء جريان نهر الزمن، احتكاك الشكل بالمضمون، رقصة الروح في معمعة الكتابة. أظن أن تلك الموسيقى هي التي لها أعمق تأثير في الوجدان لأنها لا تهدهد القارئ أو السامع بل تتسرب إلى دواخله لتوقظ فيه جمرة السؤال والحنين إلى الجمال والتّوق إلى إنسانيته الكاملة.
تعتبر ذاكرة المكان مكونا مركزيا من مكونات شعريتك. طبعا، المكان المتسائل عن إنسانيته، الفرِحُ و المعذب بها. إلى أية شرفة من شرفات هذه الذاكرة أراك قريبا، أو بعيدا؟
الشرفة الأولى، التي لا مناص منها، تفضي إلى أزقة مدينة فاس العتيقة، البيت الذي ولدتُ فيه، حارة عين الخيل، مدرسة اللمطيين الابتدائية، حرم ومسجد المولى إدريس، سوق السقاطين الذي كان يكد فيه أبي الصانع التقليدي، مقبرة باب الجيسة المثوى الأخير للوالدة والوالد، عين عللو، أسفل زقاق الحجر، المكان الذي كِدتُ أن ألفظ فيه أنفاسي الأخيرة خلال مظاهرة وطنية وعمري آنذاك لا يتجاوز سبع سنوات. هذه الشرفة لم تفارقني قط أينما حللت و ارتحلت. الآن، وأنا أكتب هذه السطور، إنها ماثلة أمام عينيّ، وأقول مع نفسي: إذا كنتَ لا تعرف أين ستكون وجهتك الأخيرة، فعلى الأقل أنت واثق من أين أتيتَ. ومن أين أتيتُ؟ الأمكنة التي تحدثت عنها تبقى في آخر المطاف مسرحاً في الهواء الطلق، محفورا في الذاكرة والوجدان طبعاً. لكن الأهم عندي هو مَنْ كان يملأ ذلك المسرح بمعاناته اليومية وصراعه من أجل العيش الكريم، بجهله ومعرفته، بنقائصه ومزاياه، بنصه غير المكتوب واللاهج بلغة فريدة، مهددة اليوم بالانقراض، أعني ذلك الجزء من البشرية الذي أنا من صلبه والذي أضحى نصيبي من البشرية. لحسن الحظ أن الوسط الذي ترعرعت فيه كان في مجمله من البسطاء والمستضعفين. وهذا هو العامل الذي حدد فيما بعد موقع انتمائي الحقيقي ومنهج سلوكي واختياراتي.
الشرفة الثانية لا أدري في أي مكان أضعها: بين السماء والأرض؟ تحت الماء أو فوق اليابسة؟ في مغارة أو الربع الخالي من المعمور؟ إنها شرفة متنقلة باستمرار قد أغلقها أو أفتحها حسب المزاج والفضول أو الرغبات. وهي تطل على مسرح آخر، تارة في الهواء الطلق، وتارة أخرى في السراديب. أشعر بنفسي وأنا واقف أمامها بأني متلصص أحياناً، وأخرى بأنني خبير بكم عِلْمٍ، أمارس عمليات تشريح معقدة على ما أراه وأسمعه وأستوعبه. إنها شرفة المرتحل الساعي إلى محاولة فهم لغزه الخاص ككائن، الباحث عن معنى وجوده ضمن الوجود العام وإزاء لانهائية الكون العسيرة الفهم عليه. هي أيضاً شرفة الشاهد المتيقظ على الهمجيات التي تقترف يومياً والمفتتن في نفس الوقت بما أنجزته البشرية من خوارق، وعلى رأسها روائع الفكر والمخيلة.
لي شرفة أخيرة كدت أن أنساها، وهي شرفة الغرفة التي أشتغل فيها والمطلة على الحديقة الصغيرة التي تحوط العمارة. هذه الشرفة تسمح لي فقط برؤية شجيرات ثلاث ومربع صغير من السماء. لكنني لولاها لا أستطيع الكتابة. ما تسمح لي برؤيته حيوي على تواضعه. عندما أغرق أعيني فيه، أبحر دائماً نحو أفق تلتقي عنده الأبعاد الظاهرة الملموسة بالأبعاد الباطنية. لحظة، فتأتي الكلمات لكي أعانقها.
في الكثير من قصائدك حضور دائم لمديح الشبيه المفارق، بدل المنسجم والمتناغم مع هويتك، هل يعني ذلك محاولة ممكنة للتخلص من هيمنة الأنا عليك، أم هو محض هاجس البحث عن المنسي أو المفقود فيها ؟
أي كاتب عركته الصفحة البيضاء وعركها يعرف جيداً ذلك القرين الأليف الساكن فيه والذي يتدخل في النص حسب طقوسه وأهوائه الخاصة. قد يحيره ذلك القرين، وقد يخيفه أحيانأ، لكنه يبقى مع ذلك محاوره الأول والمباشر.العلاقة التي ربطتُها شخصياً معه تتميز بالاحترام، الود، واليقظة في نفس الوقت. أقبل معه بنوع من توزيع المهام لأنني أعرف أنه يقطن في مكامن من الذات ليس بمقدوري دائما النفاذ إليها. أضف إلى ذلك أنه قادر أكثر من أي كان على نصب المرآة في وجهي وجعلي أرى نفسي على حقيقتها المُرَّة أحيانا. إن صراحته تجاهي هي التي تمدني بتلك الطاقة على انتقاد النفس و توجيه السخرية لها قبل توجيهها للآخرين. ورغم ذلك، فإنني حريص على عدم إطلاق العنان له إلى درجة تهميش دوري والقدرات الخاصة التي أتمتع بها دونه.
هناك مسألة متقاربة يمكن طرحها في هذا الموضوع : القرين يوحي أيضاً بتلك الحروب الأهلية التي تدور رحاها في دواخلنا، ما بين الخير والشر، العطاء و الأنانية، الصدق والكذب، الحب والكراهية، التسامح والعنصرية، العصيان والخضوع، الشجاعة والجبن، الكسب والتقشف، الكسل والتعبئة الخ…الكاتب ليس من الأولياء والقديسين. إنه إنسان لا غير، تخترقه باستمرار تلك النزعات المتضاربة. لكن وظيفته تفرض عليه مصارعة جانبها المميت للعقل والروح، والدفاع عن القيم الإنسانية النبيلة. ونضاله هذا لن يحظى بالمشروعية على المستوى العام إن هو لم يقطع أشواطاً معتبرة في المعركة على مستواه الخاص. هنا بالضبط يمكن أن نتخيل القرين كحَكَمٍ نزيه، صارم و مشاكس في نفس الوقت يراقب حلبة الصراع عن كثب ويسجل على الكاتب أي تردد أو تنازل، أي إخلال بالقيم التي يدعي أنه المدافع الشهم عنها. يمكننا أيضاً أن نتخيله كناقد لا تنطلي عليه الحيلة وهو يقول: حذار من السهولة والتكرار، من الغموض المجاني والقاموس الجاهز، من الاستعلاء إزاء القارئ أو مغازلته، من الدمعة أو الصرخة التي لا تنبع من المشاركة في تمزقات ومحن من يعانون أكثر منك. حذار من الغرور نظراً لما تعتقد أنك أنجزته. سؤالك يسمح لي في الأخير بالقول بأن اكتشافي لذلك القرين واعترافي التام به شكل بدون شك إحدى التحولات الأساسية في تجربتي الخاصة، وهي التي أمدتني بحرية أكثر جرأة، بتيقظ دائم وبمعين من السخرية لا أود البتة أن ينضب. وتجاوزاً لمسألة القرين هذه، ألا ترى أننا نكتب بالمجهول فينا ومن حولنا أكثر مما نكتب بالمعلوم والماثل بوضوح في الوعي؟ إننا نواجه دائماً في عملنا ذلك الوحش الذي أوردته الأسطورة اليونانية (أبو الهول) الذي يطرح عليك اللغز تلو اللغز، وأنت تعرف مسبقاً أن بقاءك رهين بإيجاد الحل الصائب. من هنا جانب المأساوية في الكتابة لأنها تفرض عليك أن تضع رأسك أو حياتك في الميزان. إنها تنبذ السطحية والتساهل أو التلاعب، وتطالبك بأن تسخر لها حياتك دون أي مقايضة.
هل يمكن اعتبار ديوانك فواكه الجسد، الذي تحتفي فيه اللغة بتهتكها الخلاق، انتقاماً لنداءات دفينة، خفيضة وعميقة، كان صخب الواقع وعنفه يحُول باستمرار دون سماعها؟
نعم، ولو أن وعيي بوجود القرين الذي تحدثنا عنه، كان مبكراً. لكن الشروط العامة التي كانت تؤطر الكتابة في المراحل الأولى لم تسمح لي بالتمعن فيه ملياً و الإنصات لصوته المختلف. ضغط التاريخ. المحن التي اجتزتُها. ضيق الأفق. شروط العيش نفسها. ومع ذلك، فإن ديوان فواكه الجسد جاء تتويجاً لعدد من المقاربات لنفس التيمة متضمنة في أعمال سابقة عليه، شعرية و نثرية، لم يُنتبَه إليها للأسف. وهذا راجع إلى عوائد القراءة عندنا، المصابة بآفات عدة، وعلى رأسها ربما نزعة الاختزال. لطالما عانينا من وضع يمكن تلخيصه في هذه الجملة الموجعة :” أكتبْ ما شئتَ، سنقرأ منك ما شئنا “. يبقي أملي في أن تتحرر تلك القراءة من قيودها لترفع عن أيدينا نحن الكتاب فائض قيودنا.
أغلب المبدعين العرب المنتمين إلى تيار الحداثة وما بعدها وجدوا ضالتهم في الذاكرة التراثية وخاصة منها الصوفية. بماذا تعلل انصرافك عن هذه التجربة. هل بتبرمك من ركوب الموجات، أم باختيارات(شعرية وفكرية) مغايرة لاتلتقي بالضرورة مع اختياراتها؟
سؤالك ممتع. أستقبله كمفاجأة سارة لأنه ينأى عن الأبواب المطروقة ويلتقي مع إحدى الاهتمامات المركزية لدي. فالنص الشعري الذي يستوقفني هو المتضمن لمرجعيته الخاصة، المستقلة عن أي مرجع سابق عليه، كيفما كانت قوة وعبقرية ذلك المرجع. لذا أحترس من تلك الموجة (التي يبقى من الضروري الإلمام بمسبباتها ودلالاتها) التي اجتاحت جزءاً لا يستهان به من الشعرالعربي الحديث.لا تُعَدُّ تلك النصوص التي يستشهد أصحابها بشكل شبه آلي بذلك القطب أو ذاك من المتصوفة. المعضلة هو أن النص المستحدث لا يرقى إلا نادراً إلى مستوى المرجع المُستشهَد به. وهذا ما يحز في النفس. شخصياً، وهذا جانب من عناد طبعي الخاص، لم يسبق لي أن وضعت رأس أي نص لي استشهاداً يذكر، لسبب بسيط: فإما أن يكون النص الذي أكتبه قائماً بذاته، شكلا ومضموناً أو لا يكون. حرصي هو ألا أدرج عاملا خارجاً عنه وكأني أضفي على ما أكتب فائضاً من المعنى والعمق والتألق، أو أظهر سعة مرموقة وغزارة في ثقافتي. هذا مع العلم أن العديد من الاستشهادات التي تحدثت عنها قد لا تكون لها أي صلة منطقية أو عضوية بالنص المنضوي تحت لوائها، فيصبح الاستشهاد نتيجة لذلك نوعاً من الإدعاء أو الزينة لا غير.
أريد الآن أن أدلي بما يلي: التراث الصوفي(العربي والإسلامي وغيره من التراث العالمي) له عندي مكانة رفيعة. فبلإضافة إلى رسالته الروحية السامية وقوة صداه في الوجدان، ما يبهرني فيه هو حداثته العابرة للأمكنة والأزمنة، تلك الحداثة ما قبل الحداثة التي نَحَتتْ قاموسها اللغوي المتميز وشَغَّلتْ بإبداعية مدهشة كافة آليات اللغة المتوفرة في حقبتها التاريخية. منذ أكثر من عقدين وأنا أعب من رحيقه. قرأته طبعاً بالعربية، لكن بالفرنسية أيضاً مما سمح لي باكتشاف قدرته على اختراق اللغات والثقافات بشكل لم يستطع أن يحققه إلا نادراً الشعر العربي الحديث المترجم، على أهمية أصواته الكبرى. مسألة توظيف هذا التراث في الإنتاج الحداثي مشروعة إذن شريطة أن نقدم الإضافة النوعية، وذلك لن يتأتى إلا بحضورنا المتيقظ في واقع عصرنا واستبطان المكتسبات التي تحققت فيه على كافة مستويات المعرفة وكذلك المنجزات التي تمت في مجالات الفكر والإبداع. ومع كل ما أسلفت، فالعلاقة بالتراث وإن كانت خصبة ومثمرة في بعض الحالات فإنها ليست إلزامية. قد تطرح نفسها بإلحاح على ذلك الشاعر أو ذاك في فترة من مساره، ثم تأتي رغبات وتحديات أخرى لتحتل عنده الصدارة. تلك سُنَّةُ الإبداع ولا مرد لها.خذ حالتي الشخصية: لو كنت أقبل باليافطات لما استهجنتُ أن أُنعتَ بـ “المتصوف العلماني”. لكنني كما تعلم لا أطيق السجون كيفما كانت رحابتها. هويتي الشعرية تعكس حتماً هويتي الإنسانية. إنها متعددة، بتعدد ما أنجذب له ويستلهمني من القارة الإنسانية.
على امتداد مسارك الإبداعي تبدو علاقتك بالمؤسسات الثقافية بالمغرب،كما خارجه، ذات طبيعة اختبارية، عابرة ومؤقتة، وبعيدة كل البعد عن أي انصهار محتمل. إذا كان الأمر كذلك، فهل نؤوله بحاجتك الدائمة لاختبار حدود تنازلاتك، أم بمدى استجابتك لهاجس الاندماج؟
الاندماج في ماذا؟ حبَّذا لو كان الوضع الثقافي(ناهيك عن السياسي) القائم في المغرب يسمح بذلك. أنا لست مازوخياً ولا معتنقاً لديانة تسمى الرفض المبدئي.إنما للضرورة أحكام. عيشي مثلا في فرنسا ليس من قبيل المتعة، الارتخاء أو الرخاء، الشهرة، الربح أو ما شابه ذلك. لست من المتهافتين على سُبُلٍ اعتبرتُها تافهة منذ زمان ومؤذية لصدق العمل الإبداعي. هكذا على الأقل أفهم شرف المهنة. إنني أعيش هنا أيضاً في هامش اخترته منذ البداية. لا ألبي دعوات توجه إلي من طرف الرسميين وأتحاشى التقرب من أي كان، يمثل سلطة سياسية أو رمزية. الدار التي تنشر أعمالي من الدور المتواضعة في باريس. العمل الوحيد الذي نشَرتْهُ دار غاليمار المعروفة هو قاع الخابية. حقوق التأليف التي تذرها علي أعمالي وبعض الترجمات أكثر من متواضعة (ثلث الحد الأدنى للأجور في فرنسا). لذلك أضطر للقيام بعدة نشاطات قصد ملئ الطنجرة كما يقال. إنني لا ” أتمَسْكَنُ” هنا بطرح هذه التفاصيل بل لإعطاء صورة دقيقة عن وضع أفضله ألف مرة عن المكانة والامتيازات التي كان من الممكن أن أحظى بها في المغرب لو قبلت في مرحلة ما بالاندماج، أي الانخراط في السائد بشكل من الأشكال. الوضع الذي وصفته هو الأريح بالنسبة لي نفسياً وأخلاقياً، الضامن لاستقلاليتي الفكرية وحريتي ككاتب.لا تظن مع ذلك أنني أرقص ابتهاجاً لهذا الوضع. أشعر بقساوته أحياناً وبعبثيته حتى. كم مرة تهتُ في الخيال وتصورتُ مغرباً مغايراً، يُسَيِّرُهُ الذكاء و المخيلة الخلاقة والتفاني في خدمة الصالح العام، مغرباً مُعْتَرَفاً فيه بوظيفة المثقف ودور هذا الأخير في صنع الإنسان المتحرر من الجهل والشعوذة، الواعي بحقوقه وواجباته كمواطن، سيد أفكاره واختياراته، المنفتح على الآخرين والقابل باختلافهم، المقبل على المعرفة والإبداع كإحدى حاجياته الحيوية. أراني طبعاً بين ظهران ذلك المغرب/الحلم، أقدم كل ما ملكت يداي من حدس وخبرات ومعارف ورؤى، و أمارس على ضوئها يومياً في الواقع الملموس. لكن سرعان ما يتفتت الحلم فأصطدم بالمغرب المبتذل الذي سبق لي كم مرة أن صرخت في وجهه وكشفت عن عاهاته واقترحت أيضاً بعض الإجراءات العاجلة لإنقاذ بيته من الانهيار، وفتح نافذة فيه على الأمل وصنع مستقبل جدير بالعيش للأجيال الصاعدة. كل ذلك دون جدوى على ما يبدو، و لكن وأقولها في وجه الشامتين، دون أن ينال مني اليأس قيد أنملة.
كانت القضية الفلسطينية وماتزال، أحد أسئلتك الإبداعية والفكرية الكبرى، ماذا جدَّ في هذه الأسئلة على ضوء ماتعيشه القضية حاليا من تصدعات ؟ ثم ماذا بعد رحيل الشاعر الكبير محمود درويش؟
قلت مراراً أن القضية الفلسطينية كانت هي المولدة الحقيقية للوعي السياسي لدي، ذلك الوعي الذي يتجاوز الفهم الضيق للسياسة ويطمح إلى الإلمام بواقع الوضع البشري بشكل عام، بالتناقضات والقوى الفاعلة في مجرى التاريخ، وبطبيعة المعارك التي لا مناص منها قصد التحرر من كل أشكال القهر والعبودية وبناء المجتمع البشري الذي تسود فيه قيم العدالة والمساواة والإخاء، والإبداعية أيضاً. إذن، القضية الفلسطينية هي التي جعلتني أفهم أن ما كان يحدث في المغرب خلال الستينيات (ومن أبرز تلك الأحداث مجزرة مارس 65 في الدار البيضاء) ليس معزولا عما كان يجري في أقطار ومناطق أخرى من العالم، وأن الفهم الدقيق لتلك الأحداث “المحلية” لن يتأتى دون الإلمام بما يُتصارَعُ حوله قومياً وعالمياً من مصالح و ثروات وسبل للسلطة والهيمنة. هذا على المستوى الفكري العام. أما عن الخاص، فتعرفي المباشر على شرائح مختلفة من الفلسطينيين(و ضمنهم طبعاً المثقفين والكتاب) جعلني ألتحم أكثر بقضية شعبهم إلى حد الانصهار والانتماء الطوعي . شعرت معهم بقوة الأخوة وبحميمية لم أعشها من قبل حتى مع مواطني المباشرين. أحببت تفانيهم في خدمة شعبهم، سعة أفكارهم، سماحتهم إزاء المختلف، حبهم المتطرف للحياة، خفة دمهم وروح الفكاهة لديهم، هم الذين يعيشون قسوة المأساة اليومية. أحببت أكلهم، شرابهم، وموسيقى لغتهم مما جعلني أفضل التخاطب معهم بلهجتهم المختلفة جداً عن اللهجة المغربية، دون أن أشعر بأدنى استلاب لغوي.
تلك العلاقة الخاصة فتحت لي دربا ثانياً ولجته عندما قمت سنة 1969 بإنجاز أنطلوجية الشعر الفلسطيني المقاوم.ومن ذلك الوقت، لم أحد عنه، إذ أصبح درباً موازياً ومكملا لدرب الكتابة. الفضل في اشتغالي بالترجمة على امتداد العقود الأخيرة يرجع إذن لذلك الوعي المكتسب من خلال انخراطي في القضية الفلسطينية.
أما عن المحن المستجدة التي تخنق أنفاس الشعب الفلسطيني فإنني أعيشها بكل صدق كمأساة شخصية. هل كان بمقدوري أن أتصور، ولو في أسوء الاحتمالات، الوضع القائم حالياً على أرض فلسطين؟ الانقصام الحاصل في صفوف شعب كنت أعتبره متفوقاً بكثير من الميزات على مجمل الشعوب العربية، ومؤهلا أكثر من غيره على تحقيق مشروع المجتمع الديمقراطي المنشود والدولة العلمانية بكل مواصفاتها. إنها لفاجعةٌ لا تقدر.ورحيل محمود درويش في أوجها هو أدق تعبير عن الخسارة المعنوية التي تكبدها شعبه من جراء انغلاق العقل لدى بعض فئاته وقصور الرؤية وطغيان المصالح الضيقة لدى فئات أخرى.
في أي منعطف هي الآن حكاية الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية التي تعتبر بحق أحد رموزها وأبطالها النموذجيين ؟
لي أمل: هو أن نكف عن استعمال هذا النعت، وأن نتناول الأدب المغربي المعاصر بمختلف مشاربه، في تجانسه إذا أمكن، ودون خلفيات إقصاء أو مغالاة. ألا ترى أن الوقت قد حان كي نقر بكل موضوعية أن التعددية اللغوية أضحت معطى هيكليا وقاراً في حقلنا الأدبي؟ أمس، كانت تقتصر على مكونين أساسيين (على الأقل فيما يخص الأدب المكتوب) هما التعبير باللغة العربية والفرنسية. أما اليوم، فبالإضافة إلى النمو الملحوظ للكتابة بالعربية العامية وبالأمازيغية، نشهد بروز إنتاج جديد بلغات عدة كالإسبانية والهولندية والإيطالية والإنجليزية وغيرها من اللغات الواسعة الانتشار أو الأقل انتشاراً. ما العمل أمام هذه الظاهرة ؟ نفيها بشكل اعتباطي؟ تناولها على الطريقة القديمة، التي عانينا منها مثلا في بدايات تجربة أنفاس عندما رجمنا البعض بتهم التغريب والاستلاب اللغوي، أم فحصها والتمعن فيها كتحول في الثقافة المغربية ناتج عن تحول هائل في البنيات المادية والمعنوية للشعب المغربي المنتشر الآن عبر القارات؟ والمهمة المستعجلة في رأيي، لأن لا شيء يعلو فوق المعرفة، هي إدماج هذا الإنتاج المتنوع، الذي وصلت رسالته إلى مئات الآلاف من القراء خارج المغرب، في دائرة اهتمامنا أو فضولنا الأدبي على الأقل. هذا مع العلم بأن عملية إضفاء هوية وطنية على أدب من الآداب أصبحت إلى حد ما متجاوزة. علينا أن ننتبه إلى الطريقة المستجدة التي تنتشر بها الأعمال الأدبية عبر العالم وإلى المقاييس المستحدثة التي تقاس بها تلك الأعمال. فإذا كان الانحدار الوطني والثقافي للكاتب وكتابته بلغة معينة (أكانت لغته الأم أم لغة اختارها لنفسه) أشياء تُأخُذ بعين الاعتبار و ينَبَّهُ إليها عادة، فالأهم يكمن فيما يقدمه ذلك الكاتب من سبرٍ لأغوار النفس البشرية ورؤية خاصة للعالم وإبداعية في اللغة المستعملة وتجديد للمادة الأدبية.
أُنظرْ مثلا لظاهرة جديدة أصبحت تعَرَّفُ بـ “أدب العالم” يدرج فيها إنتاج العديد من الكتاب ذوي الوزن الكبير ضمن الإنتاج الأدبي العالمي، وهم ينحدرون في مجملهم من العالم الثالث(إفريقيا، الهند وباكستان، إيران، أفغانستان، جزر الكارايب وفي بعض الحالات شمال إفريقيا والعالم العربي). معظمهم يكتبون بلغة أخرى غير لغة الأم، إنما الأمر الذي لا جدال فيه هو أنهم أحدثوا ما يشبه الانقلاب في الحقل الأدبي على المستوى الكوني و يشكلون الآن إحدى مكوناته الأكثر حيوية وتأثيراً. أقولها، ليس من باب التبجح بل الموضوعية والأمانة، أنني لو أردت تحديد مكان لي ضمن الحقل الأدبي العام لوضعت نفسي عن وعي ضمن هذا التيار. وهذا لا ينفي أو ينافس في اعتقادي انتماءاتي الطبيعية وتموقعي ضمن الحقل الأدبي المغربي والعربي دون أن أكترث بمن قد يجادلوني في ذلك، عن حسن أو سوء نية.
داخل إعصار العولمة، و في أتون تمظهراها المتوحشة التي توشك أن تعصف بما تبقى، حيث انقرضت أو تكاد، الكثير من الثوابت التي كنا نعتقد أننا سنحيا بها، كي تتأسس على أنقاضها أخرى تبدو هي أيضا آيلة لأفولها. داخل هذا الواقع الهجين، بأي طوق نجاة أراك تتشبت الآن ؟
لست مولعاً بالاستشهادات كما تعلم، لكن اسمح لي ولو مرة أن أعيد إلى الأذهان المقولة النفيسة للفيلسوف و المناضل الايطالي أنطونيو غرامشي عندما تحدث عن ” تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”. إنها درة من الدرر العزيزة على قلبي، أهتديت بها منذ زمن بعيد، خصوصاً أثناء المحن التي اجتزتها. ما أود التأكيد عليه اليوم من خلالها هو كيفية مواجهة الانتكاسات والعواصف المدمرة للأحلام العادلة. فإما أن نستسلم لها كقدر محتوم ولاعقلاني أم نحاول الإلمام بمسبباتها و نخضعها للتحليل العقلاني كيفما كان الجهد والوقت المتطلب وكيفما كانت المراجعات الموجعة التي نضطر للقيام بها. هذا عن تشاؤم العقل أو حيطته عندما يشتغل في مختبره على مادة الهزائم والتفكك والخراب. لكن العقل، إضافة إلى وظيفته النقدية يمتاز بخصائل أخرى من ضمنها المثابرة والعناد مما يجعله يرفض مبدئياً الهزيمة. تلك العزيمة هي التي توفر له طاقة الأمل و تجعل منه في آخر المطاف أداة مقاومة ورافعة لإعادة البناء. على أية حال، ليس لنا خيار آخر. فإما أن نستقيل ونقبل ببشاعة ما هو قائم، وهذا نوع من الانتحار(والانتحار الجسدي قد يكون الحل الأكثر منطقية) أو أننا نواجه بالملكات والقدرات المتوفرة لدينا انطلاقاً من اقتناعنا( إذا كان فعلا اقتناعاً) بأن حياتنا الفردية والجماعية على هذه الأرض تستحق أن تعاش وأن يناضل من أجل أن تحقق كل الآمال المعقودة عليها.
إذن ليس لي طوق سحري أحتمي به ولا أتصور طوقاً فردياً أنجو به لوحدي. إنني أحاول فقط أن أكون جديراً بوظيفتي الصعبة كمثقف و كاتب، تلك الوظيفة التي لا فائدة منها إذا لم تكن ممتثلة إلى منظومة أخلاقية صارمة تنبذ التقوقع على الذات، الكسل، سبات العقل والاستسلام للأمر الواقع.
لو كان بإمكانك أن تفكر/أن تغامرمن جديد بإصدار مجلة أنفاس، ماهي الرؤية التي يمكن أن تكون ناظمة لتوجهها الفكري و الإبداعي واللغوي ؟
سؤالك قد يعطي الانطباع وكأن تجربة أنفاس ملك لي، ولي وحدي. لقد نبهت مراراً للميزة الأساسية لتلك التجربة وهي الروح الجماعية التي تخللتها. المجلة كانت، في لحظة تاريخية دقيقة، عبارة عن بؤرة التقت وانصهرت فيها طاقات إبداعية مختلفة، وذلك ليس بعامل الصدفة بل الضرورة الموضوعية. لذا فإنها سرعان ما حددت مشروعها وتحولت إلى حركة فكرية وإبداعية قائمة الذات، متجانسة في الطروحات والرؤية، رافضة لما هو قائم وعازمة على خوض المغامرة بحافز التأسيس.
جانب آخر في التجربة لربما يبدو ثانوياً بينما له دلالاته الكبيرة في اعتقادي: عملنا في المجلة آنذاك كان تطوعياً ودون مقابل مادي، لم يكن حتى ليخطر على البال. كنا نتحمل كل الأعباء ( التمويل، التحرير، الضرب على الآلة الكاتبة، التصميم، توفير بعض الإشهارات، الإشراف على الطباعة والتوزيع، إرسال الأعداد للمشتركين) كواجبات ضمن الواجبات اليومية الأخرى. هل يمكن أن نتصور اليوم تعبئة من هذا النوع واشتغالا بهذه الطريقة؟ هذا للجواب السريع على منطلق سؤالك. لقد عشنا مرحلة يمكن لنا مع المسافة الزمنية أن نصفها، دون مبالغة مفرطة بالملحمية، لأن العطاء الصرف كان ممكناً وشبه طبيعي. أما اليوم فنحن في زمن آخر، لست في حاجة أن ألح على رداء ته. الطوعية، المجانية والروح الجماعية تكاد تنعدم في ساحتنا الثقافية، المصابة علاوة على ذلك بأمراض شتى، من ضمنها ذلك التهافت على سلطة وهمية وامتيازات تافهة، تتعارض مع القيم المرتبطة بوظيفة المثقف والثقافة.
ستجد ربما أن نظرتي للمشهد الحالي متسمة بالقسوة والسوداوية، لكنها نابعة من أعمق ما أدرجته لحد الآن. ففقدان الروح الجماعية مثلا له دلالته القوية بالنظر إلى ما آلت إليه أوضاعنا العامة، الاجتماعية والخلقية والسياسية. إنه تعبير عن تدني الروح المدنية لدى النخبة أو ما أسميه بكتلة المثقفين، وكأن المثقف معفى من إدلاء الرأي والتحليل والمقترح في الظواهر الاجتماعية والشأن العام والسياسات المنتهجة من طرف السلطة. وهو في نفس الوقت تعبير عن قصور في الرؤية للمشروع المجتمعي (الديمقراطي الحداثي كما تتفوه بذلك العديد من الببغاوات) الذي تدور حوله نقاشات وصراعات تكاد تكون حصراً على الطبقة السياسية، وتلك السلطة الرابعة في طور التكوين ألا وهي الصحافة. صوت المثقف في هذه المعمعة خافت جداً وغير مسموع على أية حال. هذا في الوقت الذي نحن في أمس الحاجة إلى سماعه خصوصاً إن هو طلع بما هو شبه غائب في برامج الأحزاب السياسية و أعمدة الصحافة : طرح الرهان الثقافي كحجر الزاوية في مشروع التحديث المتواصل وخلق شروط المواطنة الكاملة وإرساء قواعد الحكامة الديمقراطية. أستخلص من هذا أنه لو كان بإمكاني اقتراح تصور لمجلة جديدة في وضعنا الراهن، لطرحت عليها كإطار للبحث والعمل مهمة وضع المسالة الثقافية في مركز النقاش الوطني حول المشروع الديمقراطي المتعثر منذ سنين. إنها مهمة مصيرية تتطلب طبعاً التعبئة الجماعية والبذل بكل سخاء واسترجاع منهجية الحوار والجدل الايجابي النافع، كما أنها تستدعي روح المبادرة والممارسة العملية، أي الانخراط بشكل خلاق في المعركة القائمة من أجل إحلال المجتمع المتحرر والنظام السياسي الحضاري المنشود.
أما عن الأداة اللغوية، أرى من الضروري أن تكون مزدوجة لسبب براغماتي بين. فالهوة ما بين من يكتبون ويقرؤون بالعربية أوالفرنسية اتسعت من جديد في العقدين الأخيرين. لقد عملنا كل المستطاع إبان تجربة أنفاس على تقليصها ومد الجسور ما بين الفريقين، وخلق شروط الحوار والتفاعل الخلاق. لكن التطورات اللاحقة نسفت إلى حد ما ذلك الانجاز. علينا إذن، في الوضع الراهن، أن نعيد الكرة من أجل إشراك الجميع في المهمة الصعبة التي تحدثت عنها منذ قليل، وهي وضع المسألة الثقافية في مركز المشروع المجتمعي المنشود.
في أية خانة يمكن وضع فوزك بجائزة أكادمية الغونكور ؟ في خانة الاعتراف الحضاري أو الإبداعي أو اللغوي؟
لنكن متفائلين ونعتبر أنها باقة من المكونات الثلاث. هذا على الأقل ما شعرت به من خلال المكالمات الهاتفية والرسائل التي تلقيتها من العديد من الأصدقاء و المثقفين والمواطنين العاديين، وأيضاً من خلال الاهتمام البالغ الذي أولته للحدث وسائل الإعلام المغربية والعربية على الخصوص. لقد أثرت في عميقاً تلك الفرحة واكتشفت أنها تفوق بكثير فرحتي الخاصة. إذ أنني صراحة لم أكن أنتظر شيئاً على هذا المستوى ولم أعمل شيئاً قصد الفوز بأي امتياز. منذ عقود وأنا أشتغل في الهامش بعيداً عن أضواء الخشبة، معتبراً أن ما يسمى بالشهرة، فبالأحرى النجومية، عامل مُخِلّ بصدق التجربة الإبداعية. إنه يبعدك عن الجوهر في تجربتك ويسقطك لا محالة في المظهرية والحسابات والتنازلات في آخر المطاف. لكنني مع ذلك أفهم الحاجة الجماعية لاعتراف الآخر بقدراتنا وعطائنا الخاص، خصوصاً في الوقت العسير الذي نجتازه حيث يُنظَرُ إلينا عادة من خلال عاهات التخلف والتعصب والعنف الملتصقة بصورتنا عن جور، وكأنها قدرنا المحتوم. من هذه الزاوية فقط، قد أشعر بقسط من العزة لو أنا، بفضل هذا الاعتراف، ساهمت حقاً في النيل من تلك الصورة المزيفة وقدمت عنا بذلها تعبيراً صادقا عن القيم الحضارية التي نحن ورثتها، وعن انخراطنا دون عجرفة ولا مركبات نقص، في مغامرة إعادة إحياء الفكر والإبداع على المستوى الكوني.
تبدو عصيا وعنيدا في أعين محترفي التدجين، عميقا وشفافا في أعين رفيقات ورفاق دروبك الإبداعية والإنسانية، بينما تبدو ملتبسا في أعين المصابين بقذى النكران، فمن تكون؟
بعد كل هذه المسافات التي قطعتُها، لا زلت أبحث عن نفسي وأتقصى لغزي الخاص، لغز وجودي ككائن بمواصفاته التي تحيرني بعضها لحد الآن. هذا ناهيك عن وجودي ضمن مجتمعي الخاص والمجتمع البشري أيضاً، ثم وجودي إزاء سر الكون ولانهائيته المحيرة. إن محاولة النفاذ إلى الكنه الخاص مرتبطة بمحاولة التقرب من لغز الكينونة الشاملة. الأسئلة التي أطرحها في هذا المضمار تقدمت بدون شك في اتجاه الدقة و النسبية في آن معاً، لكن الأجوبة عليها قليلة جداً وقد لا تعنيني بالدرجة الأولى. أنا لست عالماً ولا فيلسوفاً بل شاعراً له طريقته المغايرة في المعرفة، تتأسس على الحدس والمخيلة، على الذاكرة الفردية والجمعية، على الحلم في الصحو، ليلا وفي واضحة النهار، وكذا على ما تمده له حواسه الخمس من معلومات وأحاسيس. الشعور الذي يطغى عندي هو أنني أنتسب إلى عالم آخر مواز للعالم المادي الذي أعيش فيه. أحيانا أسبح وأغرق في العالم الأول إلى درجة أن الثاني يختفي تماماً أو على الأقل يخف وزره ويصير عبارة عن صدى لا غير. لكنني مع ذلك أبقى واثقاً بأن ما أعيشه ينتمي إلى حالة من الحالات البشرية، يمكن أن أنعتها بحالة الشعر قصد التبسيط.
التباسي إذن في أعين الكثير من أبناء جلدتي ناتج عن اختلافي معهم في كيفية العيش والسلوك، في المعنى الذي أضفيه على الحياة والموت، الحب و الحرية، الأرض والوطن، المرأة والرجل، العبادة والملذات، الفرد والجماعة، الفشل والنصر، الهوان والشرف، الربح والخسارة، جهنم والفردوس، وحتى الخير والشر. مشكلتي معهم هي أنني أرفض فكرة التفاوض عندما يتعلق الأمر بعدد من المبادئ والقيم، لا أقبل بالمقايضة حولها وبأنصاف الحلول اتجاهها. في هذا المضمار أحترم الخصم الواضح، المختلف معي تماماً، وأتحمس للصراع معه فكرياً، بينما لا أحترم كثيراً المخادع الذي يتأقلم مع الشيء وضده، حسب مخاطِبيه ومصلحته الآنية. لا أشعر بالرغبة في هديه أو “تنويره”.
مع كل ذلك، أنا لست من أهل الكهف، وأنت تعرف جيداً من خلال جلساتنا الحميمية، النادرة للأسف، كم أنا حيوان اجتماعي. أبحث فقط في العلاقات الإنسانية عن الصفاء، عن الصوت الصادق، عن الإنصات المتبادل، عن سعة القلب والعقل، عن أي إنسان يشعرني، ولو في لحظة خاطفة، بأنني لست الوحيد الحامل لهموم الدنيا والآخرة، لست طفلا / شيخاً ضائعاً في غاب ولا معتوهاً يباح رجمه، بل كائناً حياً، باحثاً عن استكمال هوته الإنسانية، مُتورطاً في حلم شاسع يفوق قدراته و يتجاوز إلى أبعد الحدود البُرهة الزمنية التي قُدِّرَ له أن يعيشها.
مقتطف من القراءة العاشقة (دار ورد للنشر. دمشق. 2010)